أصداء وانعكاسات حرب غزة على العلاقات الإقليمية والدولية

أصداء وانعكاسات حرب غزة على العلاقات الإقليمية والدولية

2023-11-08
2562 مشاهدة

مقدمة المترجم:

إن التحوُّلات التي يشهدها الشرق الأوسط لا تزال تحمل في طيّاتها تداعيات جساماً تمتد آثارها إلى الأُفُق العالمي، مما يعقّد مسارات السياسة الدولية ويفرض تحدِّيَات غير مسبوقة على السلام والاستقرار العالمييْنِ. إن الاشتباكات المتجددة في غزة بين إسرائيل وحماس لا تمثل فقط نزاعاً إقليمياً حادّاً، بل إنها ترسم ملامح مستقبل جيوسياسي محفوف بالمخاطر، يتجلّى بعضها في الأخطار العالمية التي تعقب هذه الحروب.

في ظل هذه الأوضاع المتقلبة، يسعى الكثيرون لفهم الأبعاد المتعددة لهذا الصراع وتأثيره على العلاقات الإقليمية والدولية. لذا نقدم بين أيديكم ترجمة لثلاثة مقالات تتناول هذا الصراع من زوايا مختلفة، بدءاً من تحليل الأخطار الخمسة الكبرى الناجمة عن الحرب، مروراً بالتأثيرات المعقَّدة على العلاقات الإقليمية في ظل الحرب بين إسرائيل وحماس، وصولاً إلى طموحات السياسة الروسية والأمريكية وما تبغيان أن تحققاه من هذا الصراع انتهاءً بأثر تلك الحرب على العلاقات بين الشعوب وداخل البلد الواحد.

نأمل أن تُسهم هذه الترجمات بتقديم زوايا مختلفة يمكن من خلالها رؤية السياقات السياسية والإستراتيجية للصراع، وأن تُسهم في إثراء التفكير السليم المتعلق بقضايا السلم والأمن في المنطقة والعالم. إنّ التنوير الذي نسعى إليه من خلال هذه الأعمال المترجمة لا يقتصر على مجرد نقل المعلومة، بل يتعداه إلى تشكيل رؤية شاملة تساعد صانعي القرار والمهتمين على اتخاذ مواقف مُستنيرة ومُتبصِّرة.

أولًا: الأخطار العالمية الخمسة الناجمة عن حرب غزة

نص الترجمة:
لقد انتقلت حرب "إسرائيل-حماس" إلى الساحة العالمية حيث تعمّق الاصطفاف السياسي ليصل إلى مناطق بعيدة عن منطقة النزاع نفسها، فلقد أصبح الاقتصاد العالمي -بما في ذلك أسعار النفط والغذاء– مضطرباً بشكل كبير، من الناحية الجيوستراتيجية قد تكون الصين واحدة من الفائزين القلائل من نشوب هذه الحرب التي قد تسبب مزيداً من الأخطار كلما طال أمدها.

تشابه هذه الحرب المحدودة النطاق الجغرافي قيام دولة بحجم ولاية نيوجيرسي الأمريكية بمقاتلة قطاع بحجم ولاية فيلادلفيا، بَيْد أن عواقب وتداعيات الصراع بين إسرائيل وحماس -الذي بدأ في السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر وشهد حمامات دم غير مسبوقة- بدأت فعلاً بالانتشار عالمياً على شكل اضطراب اقتصادي، وزيادة الضعف العسكري، وتعميق الانقسام السياسي، وظهور تحدِّيَات إستراتيجية جديدة، بالإضافة إلى تغيُّر طبيعة الحرب بسبب كون المتحاربين ليسوا دولاً.

الاضطراب الاقتصادي

بدايةً -وفي تقرير مُقلِق جديد- حذر البنك الدولي في 30 من تشرين الأول/ أكتوبر من أن النزاع بين إسرائيل وغزة قد يُحدِث "صدمة" اقتصادية عالمية، تشمل ارتفاع أسعار النفط إلى ما يصل إلى 150 دولاراً للبرميل الواحد بالإضافة إلى تحذيره من أن الحرب ربما تتسبب بمعاناة الملايين من الجوع بسبب ارتفاع أسعار الغذاء، قد يشبه هذا الحال الأزمة التي حصلت خلال حرب عام 1973، عندما فرض الأعضاء العرب في منظمة أوبك بقيادة السعودية حظراً على مبيعات النفط للولايات المتحدة رداً على قرار واشنطن إعادة تزويد الجيش الإسرائيلي بالوقود.

ووفقاً للسجلات الرسمية في أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية، فإن حظر بيع النفط الذي فُرض عام 1973 «ساهم في حدوث دوامة تصاعُدية لأسعار النفط ما أدى إلى انعكاسات عالمية، فلقد تضاعف سعر برميل النفط في البداية مرتين، ثم تضاعف أربع مرات، مما فرض تكاليف باهظة على المستهلكين وتحدِّيَات هيكلية لاستقرار الاقتصادات الوطنية لدول كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، أدت تلك الأزمة إلى إنهاك الاقتصاد الأمريكي، الذي أصبح يعتمد بشكل متزايد على النفط الأجنبي".

ويلخص تقرير البنك الدولي الجديد العواقب المترتبة على ذلك بعد مرور نصف قرن من الزمان، وقال إنديرميت جيل (Indermit Gill)، كبير الاقتصاديين في البنك الدولي والنائب الأول لرئيس اقتصاديات التنمية، في بيان مُصاحِب: "إن الصراع الأخير في الشرق الأوسط يأتي في أعقاب أكبر صدمة أصابت أسواق السلع الأساسية متمثلة في حرب روسيا مع أوكرانيا وهي الصدمة الاقتصادية الأحدث بعد تلك التي حصلت خلال السبعينيات" وأضاف جيل: "يجب على صُنّاع السياسات أن يكونوا يقظين، وإذا تصاعد الصراع، فإن الاقتصاد العالمي سيواجه صدمة طاقة مزدوجة للمرة الأولى منذ عقود، ليس فقط من الحرب في أوكرانيا ولكن أيضاً من الحرب الدائرة في منطقة الشرق الأوسط".

الهشاشة العسكرية

ثانياً تواجه الولايات المتحدة خطراً حقيقياً يتمثل بانجرارها إلى نزاع عسكري أوسع -وهو خطر دائم في مناطق الحروب- كنتيجة غير مقصودة لانتشارها في الشرق الأوسط، فقد قام البنتاغون بنشر مجموعتين من حاملات الطائرات الهجومية مع سفن حربية تحمل أكثر من 150 طائرة حربية بالإضافة إلى عدد كبير من الصواريخ على متنها، كما قام البنتاغون أيضاً بتهيئة 2000 جندي للذهاب إلى أكثر مناطق العالم تقلُّباً بصورة مستمرة بهدف منع التصعيد وتوفير حماية للقوات الأمريكية.

إن استعراض القوة الأمريكي عَبْر تكثيف الانتشار العسكري، وفّر أهدافاً جديدة لهجمات الأطراف المناوئة لواشنطن، حيث أعلن البنتاغون عن 23 هجوماً من قِبل وكلاء إيران حتى تاريخ 30  تشرين الأول/ أكتوبر، قاموا خلالها بتنفيذ هجمات بطائرات مسيرة وصواريخ على القوات الأمريكية منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر - 14 هجوماً على مواقع في العراق، حيث يتم نشر 2500 جندي أمريكي، وتسعة في سورية، حيث يتمركز حوالَيْ 900 جندي أمريكي. يتمركز الأمريكيون في عدة أماكن، موزعين بشكل نسبي، كجزء من الحملة المستمرة ضد داعش، والتي تمثل حرباً منفصلة، كما أفاد البنتاغون بأن معظم الهجمات فشلت في الوصول إلى هدفها، لكن 21 أمريكياً أُصيبوا من جرّاء الهجمات التي أصابت أهدافها.

إن المخاطر المحتملة التي يمكن أن تصيب القوات الأمريكية تشبه ما حدث خلال كارثة عسكرية في عام 1982، عندما نشرت الولايات المتحدة مئات من مشاة البحرية كقوات حفظ سلام لفصل إسرائيل والفلسطينيين في لبنان بعد غزو إسرائيل. بغضّ النظر عن نوايا السياسة، انتهى الأمر بقوات حفظ السلام بأن جُرّت إلى الحرب الأهلية اللبنانية بعد عام - وأصبحت هدفاً لما كان يُعتبر حينها نواة حزب الله الناشئ. قبل أربعين عاماً في مثل هذا الشهر، في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 1983، اقتحم انتحاري بسيارته الثكنات العسكرية لمشاة البحرية التي تتألف من أربعة طوابق، وقتل 241 جندياً من القوات البحرية الأمريكية. كان ذلك أكبر خسارة في الأرواح للطواقم العسكرية الأمريكية في حادثة واحدة منذ معركة إيو جيما، وكانت أكبر خسارة في هجوم غير نووي منذ الحرب العالمية الثانية. منذ ذلك الحين، ازدادت أعداد الميليشيات المعادية لأمريكا وقدراتها العسكرية، فحزب الله اليوم هو الفاعل غير الدولي الأكثر تسليحاً في العالم، حيث يمتلك ترسانة أكبر بكثير من حماس، ويشكل خطراً أكبر بكثير على إسرائيل (وحلفائها الأمريكيين).

أقرّ وزير الخارجية أنتوني بلينكن بتلك المخاطر، وقال في برنامج "Face the Nation" على قناة CBS في 29 تشرين الأول/ أكتوبر: "نحن قلقون من إمكانية تصعيد الوكلاء الإيرانيين لهجماتهم ضد طواقمنا وجنودنا وشعبنا". "نحن نتخذ كل التدابير لضمان قدرتنا على الدفاع عنهم، وإذا لزم الأمر، الرد بحزم، لا نسعى للحرب على الإطلاق، ولا نريدها، لكننا سنكون مستعدين إذا كان ذلك ما يختارون القيام به".

تصويب الموقف السياسي

ثالثاً في عالم يشهد استقطاباً حادّاً مسبقاً، امتدت الحرب إلى قارات وعواصم بعيدة، وتسببت في إحداث انقسامات في عدة معسكرات، فقد أثارت تلك الحرب انقسامات لا يمكن اختزالها بأنها إما مؤيدة لإسرائيل أو للفلسطينيين. إن معاداة السامية، بما في ذلك التهديدات بالقتل للجماعات والمنظمات اليهودية في الولايات المتحدة، آخِذة في الارتفاع بطرق مثيرة للهلع، وفي الوقت نفسه، خرج مئات الآلاف في مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين من لندن إلى كوالالمبور.

في 31 تشرين الأول/ أكتوبر، قام العديد من المتظاهرين بمقاطعة وتعطيل شهادة وزير الخارجية أنتوني بلينكن أمام الكونغرس حول قضايا الأمن القومي الأمريكي، حيث قامت متظاهرة بالصراخ بغضب وهي تلوح بلافتة مكتوب عليها "لا لحصار غزة" قبل أن يطردها عناصر الأمن. كما تم رفع لافتة أخرى مكتوب عليها "أَوقِفوا إطلاق النار فوراً"، كما قام حشد من الناس في قاعة الكونغرس برفع أيديهم ملطخة بالدماء، حيث كانت كلمة "غزة" مكتوبة باللون الأسود على سواعدهم، وبعد إخراج العديد من الأفراد الذين كانوا يحملون لافتاتهم، انطلق الحشد وهم يهتفون "أَوقِفوا إطلاق النار فوراً!".

لقد أدت الحرب إلى انقسام حلفاء الناتو أنفسهم، حيث أدانت الولايات المتحدة الفظائع الوحشية التي ترتكبها حماس، في حين وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إسرائيل بأنها قوة محتلّة، ونفى أن تكون حماس جماعة إرهابية.

إن فكرة أن الدبلوماسية يمكن أن تعزز شرق أوسط مختلفاً -من خلال اتفاقيات إبراهام والترابط الجديد بين إسرائيل والخصوم العرب منذ فترة طويلة- تواجه الآن عقبات ضخمة، على الأقل، وسط الغضب الشعبي المتصاعد. ويواجه الزعماء الإقليميون الذين لهم علاقات مع إسرائيل ضغوطاً للتراجع عن سياساتهم المرتبطة بإسرائيل، وربما لا ينتهي الانقسام في وجهات النظر عالمياً بمجرد وقف القتال.

تحدِّيَات إستراتيجية جديدة

رابعاً إحدى الجهات "الرابحة" -وهو مفهوم غير دقيق عند تطبيقه على النزاع المعقَّد الحالي في الشرق الأوسط- هي الصين؛ فقد استُنزفت قُدرات الولايات المتحدة لمدة عامين تقريباً في تقديم المساعدة والتسليح لأوكرانيا، والآن تواجه التزامات مماثلة تجاه إسرائيل، في الوقت نفسه تستنزف روسيا مواردها العسكرية في الحرب المُرهِقة في أوكرانيا، بينما لا تواجه الصين تحدِّيَات إستراتيجية مماثلة، إذ إنها لا تواجه معوّقات في بناء قوتها العسكرية، وتوسيع نفوذها إلى ما وراء آسيا، ولا تقوم بتوجيه مواردها المالية ونفوذها الدبلوماسي نحو أجندات طويلة الأمد.

في السباق الواسع للتأثير العالمي في القرن الحادي والعشرين، قامت الصين بالتوغُّل بعمق فيما يُعرف بالنصف الجنوبي للكرة الأرضية الذي يضمّ الدول النامية، وقد كتب أحمد أبو دوح، وهو باحث في معهد "تشاتام هاوس" في لندن، في الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر: "تتعاطف العديد من دول الجنوب العالمي مع فلسطين، وبالتالي تصبح الحرب قضية يمكن للصين استخدامها لحشد الدعم لقيادتها للدول النامية"، وأضاف أبو دوح أن الهدف طويل المدى لبكين هو "تقليل" المكانة العالمية لواشنطن من خلال استغلال التعاطُف العالمي مع الفلسطينيين، "وهذا بدوره يساعد في كسب الدعم للمواقف الصينية حول قضايا جوهرية مثل شينجيانغ وتايوان، ولرؤية الرئيس الصيني للحكم العالمي".

الجهات الفاعلة المتحاربة من غير الدول

وأخيراً تعكس الحرب في غزة التحدِّيَات التي تفرضها الجهات الفاعلة غير الحكومية، وهي الميليشيات التي لا تتمتع بالقدر الكافي من التسليح، أو التدريب، أو التمويل الجيد الذي تتمتع به الدول التي تمتلك جيوشاً رسمية وأسطولاً بحرياً وقوات جوية. بين عامَيْ 1948 و1973، خاضت إسرائيل أربع حروب تقليدية مع الدول المجاورة. ولكن على مدى السنوات الخمسين الماضية، كانت كل حروبها مع الميليشيات؛ منظمة التحرير الفلسطينية، ثم مرتين مع حزب الله في لبنان، ومواجهات متعددة مع حماس، ومن نواحٍ عديدة، كان قتالهم أصعب من قتال الدول التي تمتلك جيوشاً نظامية صريحة.

واجهت الولايات المتحدة نفس التحدِّيَات المؤلمة مرتين في العراق، من عام 2003 إلى عام 2011 ومن جديد من عام 2014 إلى عام 2017، وفي أفغانستان خلال أطول حروبها من عام 2001 إلى عام 2021، فطالبان التي كانت مجموعة متشرذمة ليس لديها قوات بحرية أو قوة جوية، أجبرت -مع ذلك- أقوى جيش في العالم على الانسحاب. في إسرائيل صدمت ميليشيا أخرى الدولة الأكثر تسلُّحاً في الشرق الأوسط، وهذا ما أدى بدوره إلى إثارة جهات أخرى غير حكومية، لم يَعُدِ التوازُن بين القُوى التقليدية وغير التقليدية -أو الجيوش الكبيرة والصغيرة- بالضرورة خوارزمية قابلة للحساب تعتمد على عدد الأسلحة والرجال.

لقد كان للحرب تأثير عالمي بالفعل في أقلّ من شهر منذ أن اخترقت حماس جدار الأمان الإسرائيلي في أكثر من 20 مكاناً، وكلما طال أَمَدُ الحرب في غزة، زاد الاحتمال لعواقب أوسع نطاقاً تتجاوز بكثير الحدود الإسرائيلية أو الفلسطينية، وقد يكون هناك أكثر بكثير من خمسة تأثيرات.

ترجمة: عبد الحميد فحام
المصدر: (مركز ويلسون للأبحاث)

ثانيًا: كيف تؤثر الحرب بين إسرائيل وحماس على العلاقات الإقليمية؟
نص الترجمة:
قبل ساعات من وصول الرئيس الأمريكي بايدن إلى إسرائيل الأسبوع الماضي، أصاب صاروخ مستشفى الأهلي العربي في غزة، مما أسفر عن مقتل مئات المدنيين الفلسطينيين في واحدة من أكثر الحوادث دموية منذ بَدْء هذه الحرب. يشير هذا الحادث المروع إلى حرب ذات مقياس وأهمية مختلفة عن العديد من جولات المواجهة العنيفة السابقة، والتي سيكون له تداعيات في جميع أنحاء الشرق الأوسط. في الأيام الأخيرة خرج عشرات الآلاف من الناس إلى الشوارع في مظاهرات غاضبة، كما يدعو قادة العالم إلى حماية المدنيين ووقف إطلاق النار فوراً في مواجهة الحصار وتصاعُد الأزمة الإنسانية في غزة، مما أدى إلى نقص يهدد الحياةَ في المياه والكهرباء والوقود والغذاء والمواد الطبية الضرورية المنقذة للأرواح.

خلال قمة السلام التي استضافتها مصر خلال عطلة نهاية الأسبوع، وبمشاركة قادة وكبار المسؤولين من أكثر من 25 دولة ومنظمة دولية، سيطرت الخلافات حول وقف الأعمال العدائية، وتهجير الفلسطينيين، وتدفُّق المساعدات الإنسانية المستدامة وغيرها من القضايا الشائكة على المناقشات ومنعت التوصل إلى أية اتفاقيات.

كيف تؤثر هذه الأزمة على مسار العلاقات الإقليمية؟

تتسبب الأوضاع المتغيرة في حدوث تداعيات قوية في جميع أنحاء المنطقة، فابتداءً من الدول الأقرب إلى النزاع، وبشكل خاصّ مصر والأردن، فإن الأزمة الإنسانية والردّ العسكري الإسرائيلي أثارَا مخاوف من حدوث نزوح جماعي، وعليه ردّاً على ما أشار إليه المتحدث العسكري الإسرائيلي بأن على الفلسطينيين في غزة الفارّين من الغارات الجوية الإسرائيلية أن يتوجهوا إلى مصر، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إنه لن يسمح بحلّ المشكلة على حساب الآخرين، كما شدد العاهل الأردني الملك عبد الله على أن تهجير إسرائيل لمليون فلسطيني هو خطّ أحمر، خوفاً من احتمال قيام إسرائيل بدعوة أعداد كبيرة من فلسطينيي الضفة الغربية للذهاب إلى الأردن في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ المعاصر من أجل أن تتمكن القوات الإسرائيلية من مواجهة الجماعات المقاتلة في الضفة الغربية.

أثّرت هذه التوتُّرات الإضافية على علاقات إسرائيل مع مصر والأردن، وهما الدولتان اللتان تُعتبران "صانعتَي السلام الأصليتين" مع إسرائيل، والدولتان العربيتان اللتان يتردد صَدَى القضية الفلسطينية فيهما أكثر من غيرهما، لقد اضطرت إسرائيل على إثر ذلك لسحب فريقها الدبلوماسي من عمّان والقاهرة، وكانت هذه العلاقات بين الدول الثلاث مركزاً للجهود المبذولة نحو تهدئة الوضع بين إسرائيل وفلسطين، كما شهدنا في عملية "العقبة-شرم الشيخ" التي قادتها الولايات المتحدة في عام 2023. سيؤثر تدهور هذه العلاقات على فرص إنهاء الحرب والإفراج عن الرهائن وأسرى الحرب -والتي كانت مصر تقليدياً تلعب دوراً مهماً في تحقيقه- وقد يؤثر على استقرار المنطقة، ومع ذلك نجحت قطر في إقناع حماس بإطلاق سراح رهينتين أمريكيتين وأشارت إلى أنها ستواصل جهودها للإفراج عن الرهائن الآخرين.

من المهم تذكُّر أن هجوم حماس والحرب التي تلت ذلك وقعت في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تعمل بجدّ على إحراز اتفاق تاريخي للتطبيع بين إسرائيل والسعودية، ففي الشهر الماضي، أشار وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان إلى أن "كل يوم نقترب أكثر" من التطبيع مع إسرائيل. ومع ذلك تشير التقارير إلى أن السعوديين أبلغوا واشنطن بأنهم قد جمَّدوا محادثات التطبيع، مؤكدين أن القضية الفلسطينية ليست قضية هامشية في سَعْي التطبيع.

وفي هذا السياق دعا قرار صادر عن اجتماع وزاري للجامعة العربية ليس فقط إلى وَقْف فوريّ للحرب، محذِّراً من التداعيات الإنسانية والأمنية الكارثية، ولكنه حذّر أيضاً من محاولات تهجير الفلسطينيين، وحثّ إسرائيل على استئناف المحادثات لتحقيق حلّ الدولتين على أساس مبادرة السلام العربية لعام 2002.

يتمحور الاهتمام السعودي الرئيسي بالتطبيع حول استقرار المنطقة وتخفيف حِدّة التوتُّرات، وهو موضوع تمّ التأكيد عليه أيضاً في قرار الجامعة العربية الذي حذّر من انتشار العنف. قيل إن الإمارات العربية المتحدة حثّت النظام السوري على عدم التدخُّل في الحرب، ولكن يمكن أن يَجعل الغزوُ البريُّ الإسرائيليُّ المحتملُ لغزة هذه الجهودَ بلا قيمة. من جهته، قد يعتبر حزب الله هزيمة حماس الكاملة خطّاً أحمر يضطره لاتخاذ إجراءات أكثر حزماً.

ما يثير القلق خلال الأسابيع المقبلة!

يتساءل الكثير من الناس عما تحمله قادم الأيام، فعلى المدى القريب، فاجأ هجوم حماس إسرائيل، مما جعل إسرائيل أقل ثقة في قدرتها على خوض الحرب على جبهات متعددة. ورغم أن الهجمات تظهر بوضوح أن حماس قوة لا يُستهان بها، فإن خطط حماس لما سيأتي بعد ذلك، سواءً عسكرياً أم على الجبهة الدبلوماسية، ليست واضحة.

وعلى الجانب الإسرائيلي، تتعرض قيادة البلاد للانتقادات بسبب ما يعتبره بعض المحللين سياسة متعمدة لتعزيز حماس وإضعاف السلطة الفلسطينية لتجنُّب الضغوط للتقدُّم نحو المفاوضات وإنهاء أي احتمال لحلّ الدولتين، ومن الواضح الآن أن السلطة الفلسطينية قد تعرضت لمزيد من الضعف.

لقد أعلنت القيادة العسكرية الإسرائيلية أن هدف العملية العسكرية في غزة هو "التدمير الكامل للحكومة والقدرة العسكرية لحماس والمنظمات الإرهابية". وليس من الواضح أن هذا يمكن تحقيقه، كما أنه ليس من الواضح ما هي الخطط المستقبلية بالنسبة للإسرائيليين.

حتى لو نجحت إسرائيل في تدمير قدرة حماس على حكم غزة كما تزعم، فسوف يكون من المستحيل أن تعود السلطة الفلسطينية لحكم غزة على ظهر دبابة إسرائيلية، فهذا له آثار على ما سيأتي بعد ذلك في القطاع. وحتى قبل ذلك، إذا حدث غزو بري فإن السلطة الفلسطينية سوف تواجه تحدِّياً في قدرتها على الحفاظ على الأمن والسلطة في الضفة الغربية، حيث ظهرت بالفعل الاحتجاجات المطالبة بتغيير القيادة سابقاً، ويتفاقم هذا التحدي بسبب قيام المستوطنين المتطرفين بتكثيف الهجمات الإرهابية على المجتمعات الفلسطينية في الأشهر الأخيرة. إن كل هذه التطوُّرات مجتمعةً، قد تؤدي -إلى جانب الهجمات المستمرة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على جنين ونابلس على وجه الخصوص- إلى فقدان السلطة الفلسطينية السيطرة ونشوء حالة من الفوضى في الضفة الغربية.

تشعر أجزاء كثيرة من الرأي العامّ العربي بخيبة أمل من الدول الغربية التي تُصِرّ على النظام الدولي المبنيّ على القواعد، بينما تبدو وكأنها تُؤخّر اتخاذ خُطوات لتوصيل المساعدات الإنسانية وفقاً للقانون الإنساني الدولي، وتتردد في الوساطة لإجراءات خفض التصعيد.

هناك توقُّعات ومطالب بالمحاسبة على الجرائم التي يقال إن كل الأطراف المتحاربة ترتكبها، فقد أكدت الأحداث الجارية والاحتجاجات خارج السفارات الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية في دول الشرق الأوسط، أن تأثير هذه الحرب، وكيفية استمرارها وكيفية انتهائها سيكون له تداعيات عميقة، كما يعتقد الكثيرون أن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمرّ إلى أجل غير مُسمًّى، مع إدارة النزاعات ومعالجة المواجهات العسكرية من خلال نَهْج "إطفاء الحرائق"، ومن المُهِمّ الاعتراف بأن الدعوات إلى مَسار وقائيّ يهدف لتحقيق السلام يجب أن تُؤخَذ على محمل الجدّ.


ترجمة: عبد الحميد فحام

المصدر: (معهد الولايات المتحدة للسلام)

ثالثاً: ما الذي تأمل روسيا أن تجنيه من الصراع بين إسرائيل وحماس؟

نص الترجمة:
كان الرئيس الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يطلق على رئيس روسيا، فلاديمير بوتين، لقب "صديقه العزيز"، فمنذ عام 2015، قام الزعيم الإسرائيلي بزيارة روسيا أكثر من 10 مرات، وعلّق بكل فخر ملصقاً ضخماً للرئيسين وهما يصافحان بعضهما البعض فوق مقرّ حزبه خلال حملة انتخابية في عام 2019، إلا أن العلاقات بين روسيا وإسرائيل قد بردت عقب الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، حتى وإنْ ظلت إسرائيل في دعمها لأوكرانيا أكثر تردُّداً مما كان يحبذه حلفاؤها الغربيون.

ومع ذلك شكّل اللقاء الذي جمع مجموعة من كبار أعضاء حماس مع مسؤول روسي كبير في السادس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر مفاجأة للكثيرين في إسرائيل، وقد استنكرت وزارة الخارجية الإسرائيلية قرار دعوة أعضاء حماس إلى موسكو باعتباره "عملاً داعماً للإرهاب" ودعت روسيا لطرد وفد حماس فوراً.

أدى التوتر في العلاقات بين روسيا وإسرائيل إلى مزيد من التفاقم بعد أعمال شغب في داغستان، جنوب روسيا، في 29 تشرين الأول/ أكتوبر، فقد قام مئات من المتظاهرين باقتحام مطار للبحث عن إسرائيليين وصلوا على متن رحلة قادمة من تل أبيب، وقد أدانت إسرائيل التظاهرة، وطلبت من موسكو حماية المواطنين الإسرائيليين واليهود في روسيا.

في أعقاب هجمات حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1,400 إسرائيلي، يقول الخبراء: إن المسؤولين الروس حاولوا اتباع سياسة حَذِرة للغاية، وبينما كانت روسيا سريعة في انتقاد الضربات الإسرائيلية على غزة، فإنها لا تزال مُتردِّدة في قطع العلاقات مع إسرائيل بشكل كامل، ومع استمرار النزاع بين إسرائيل وحماس دون أي بادرة تشير إلى خفض التصعيد، قد تأمل روسيا أيضاً أن يتم وضع الدعم لأوكرانيا في مرتبة متأخرة من أولويات الولايات المتحدة وحلفائها.


التحرُّكات الإستراتيجية لروسيا في أعقاب هجوم حماس

دافعت روسيا عن قرارها استضافة أعضاء حماس في موسكو، مُعتبِرة أنه من المهمّ الحفاظ على العلاقات مع الطرفين في النزاع بين إسرائيل وحماس، وقالت وزارة الخارجية الروسية في بيان: إن اللقاءات كانت جزءاً من جهود روسيا لتأمين إطلاق سراح الرهائن من غزة.

من جانب آخر، يختلف وصف حماس للقاءات مع الروس في موسكو ويقدم صورة مختلفة، إذ إن الحركة أثنت على جهود روسيا لإنهاء ما وصفته بـ "جرائم إسرائيل التي يدعمها الغرب"، وفقاً لوكالة الأنباء الروسية الحكومية "ريا نوفوستي" ، وفي أعقاب اللقاءات، أعلنت حماس أنها تبحث عن ثمانية رهائن في غزة طلبت روسيا إطلاق سراحهم؛ "لأننا ننظر إلى روسيا كأقرب صديق لنا"، حسبما قال عضو المكتب السياسي لحماس أبو مرزوق في 28 تشرين الأول/ أكتوبر.

إن زيارة حماس إلى موسكو تُضاف إلى المخاوف الإسرائيلية من أن روسيا تُعِيد ضَبْط سياستها الخارجية لتقترب أكثر من حماس، ووفقاً للتقارير، فإن المسلحين الفلسطينيين قد تمكنوا من الالتفاف على العقوبات الغربية عن طريق تحويل الملايين من خلال بورصات العملات الرقمية الروسية، كذلك قال رئيس استخبارات الدفاع الأوكراني كيريلو بودانوف: إن روسيا قدمت مؤخراً أسلحة لحماس. على الرغم من أنه لم يقدم أدلة على ادعاءاته، ولا توجد أدلة على تورُّط روسيا في تحريض حماس للقيام بهجمات السابع من أكتوبر أو تزويد الحركة بالأسلحة المستخدَمة في المواجهات.

لكن روسيا لم تُدِنْ بشكل واضح هجمات حماس في السابع من أكتوبر ولم تَصِف الهجوم بـ "الإرهابي"، بل قام المسؤولون الروس، بدلاً من ذلك، بدعوة كِلا الطرفين إلى وَقْف القتال، وأكدوا دعمهم لحلّ إقامة دولة فلسطينية. في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تم رَفْض قرار روسي دعا لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح جميع الرهائن؛ لأنه تخلّف عن إدانة حماس.

في الخطابات والظهور العامّ، انتقد المسؤولون الروس معاملة إسرائيل للفلسطينيين مراراً وتكراراً، وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 28 تشرين الأول/ أكتوبر: إن قصف إسرائيل لغزة يخالف القانون الدولي. كما قام بوتين بمقارنة حصار إسرائيل لغزة بحصار ألمانيا النازية للينينغراد خلال الحرب العالمية الثانية، وهو أحد أكثر الأحداث الصادمة في التاريخ الروسي حيث مات مئات الآلاف من المدنيين الروس.

ذهب آخرون في روسيا إلى أبعد من ذلك، مؤكدين أن الوقت قد حانَ لروسيا لإعادة تقييم علاقتها مع إسرائيل، حيث كتب أندريه غوروليف، نائب روسي في مجلس الدوما وعضو لجنة المجلس الدفاعية، على حسابه على تيليجرام: "مَن هو حليف إيران والعالم الإسلامي المحيط بها؟ إنه نحن".

تقول هانا نوتي (Hanna Notte)، الخبيرة في سياسة روسيا الخارجية في الشرق الأوسط في مركز جيمس مارتن لدراسات عدم الانتشار النووي: "إن روسيا اتخذت موقفاً مؤيداً للفلسطينيين لدرجة أنني تفاجأت به حتى أنا".

ويقول مارك كاتز (Mark Katz) وهو أستاذ في جامعة "جورج ميسون": "إنهم يحاولون أن ينحازوا إلى التيار العربي السائد كمحاولة لتحسين مكانة روسيا في المنطقة".

بالنسبة لحميد رضا عزيزي، الخبير في العلاقات الإيرانية الروسية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن، فإن ردّ فعل روسيا على هجمات حماس يعكس أيضاً ميلاً نحو إيجاد علاقة أقرب مع طهران وحلفائها في المنطقة، وهذا يشمل تحسين العلاقة مع حماس، وبناءً عليه فقد أصبحت إيران -العدو اللدود لإسرائيل- واحدةً من أهم مورِّدي الأسلحة لروسيا في حربها في أوكرانيا، ويقول عزيزي: "أعتقد أن روسيا قد اتخذت بالفعل خياراً إستراتيجياً بشأن مَن ستقف معه في الشرق الأوسط، وهو ليس إسرائيل".

كيف يمكن لروسيا أن تستفيد من الاضطرابات في الشرق الأوسط؟

حتى الآن، قد تعتقد روسيا أنها يمكن أن تستفيد من الصراع بين إسرائيل وحماس، كما يقول الخبراء.

بينما تظل القوات الروسية غارقة في قتال متصاعِد على خطّ الجبهة في أوكرانيا، أعرب مُروِّجُو الدعاية الإعلامية الروسية في الكرملين عن سعادتهم بأمل أن تؤدي الاضطرابات في الشرق الأوسط إلى تشتيت دعم الغرب لأوكرانيا، مما يُسهّل على روسيا توطيد سيطرتها الإقليمية على أجزاء من أوكرانيا، ووفقاً لِمَا تقوله هانا نوتي، فإنه “من المهمّ القيام بتشتيت الانتباه عن الحرب في أوكرانيا على الصعيد الإعلامي، وكذلك الدعم العسكري المحتمَل على المدى المتوسط".

وبحسب ما ورد في موقع "أكسيوس" الإخباري، فقد قرر البنتاغون إرسال عشرات الآلاف من قذائف المدفعية عيار 155 ملم إلى إسرائيل، والتي كان مخططاً أصلاً إرسالُها إلى أوكرانيا، وبالإضافة إلى ذخائر المدفعية، التي أصبحت إمداداتها ضئيلة بالفعل في الدول الغربية، تحتاج كل من إسرائيل وأوكرانيا إلى العديد من أنظمة الأسلحة المتطورة. وحتى الآن يُصِرّ مسؤولو البنتاغون على أنهم سيكونون قادرين على دعم أوكرانيا وإسرائيل في نفس الوقت، كما قال وزير الدفاع لويد أوستن في مؤتمر صحافي عُقد في بروكسل يوم 11 تشرين الأول/ أكتوبر: "يمكننا أن نفعل الأمرين معاً، وسنفعل ذلك بالتأكيد".

ومع ذلك، تواجه روسيا أيضاً مخاطر إذا امتد الصراع إلى ما هو أبعد من إسرائيل وغزة، ومن الجدير بالذكر أن روسيا تريد الحفاظ على وجودها العسكري في سورية دون إرسال المزيد من القوات، الأمر الذي من شأنه أن يزيد الضغط على القوات الروسية التي تعاني مسبقاً من ضغوط شديدة، كما يقول المحللون.

إذا زادت روسيا دعمها لحماس بما يتجاوز الخطابات والتصريحات، فمن المرجَّح أن يأتي ذلك على حساب تدهور العلاقات مع إسرائيل، روسيا كانت مُمتَنَّة لإسرائيل لعدم إرسالها الدعم العسكري إلى أوكرانيا، ويحافظ البَلدانِ على اتصالاتهما بشأن العمليات العسكرية في سورية.

ومع ذلك تمكنت روسيا مراراً وتكراراً من الحفاظ على التوازُنات الصعبة في الشرق الأوسط، وربما تكون قادرة على القيام بذلك مرة أخرى، وكسب الدعم العربي دون قطع العلاقات مع إسرائيل، كما تقول نوتي.

وتقول نوتي أيضاً: “ما زلتُ أعتقد أن هناك المزيد من الدلائل على أنه سيظل هناك نوع من التسوية المؤقتة بين إسرائيل وروسيا، ولكن ذلك يعتمد أيضاً على كيفية تطور الأمور في هذا الصراع".

ترجمة: عبد الحميد فحام

المصدر: التايم (TIME)