تداعيات الانهيار الأمني في مالي على موازين القُوى في غرب إفريقيا
2025-11-1872 مشاهدة
تشهد مالي حالياً تدهوراً أمنياً متسارعاً وتَشرذُماً في السيطرة الإقليمية، بدأ تصاعُده الفعلي منذ سلسلة الانقلابات العسكرية التي بدأت في عام 2020، والتي أدت إلى وضع زمام الحكم في قبضة المجلس العسكري الانتقالي، ثم طرد القوات الفرنسية وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة .
يتركز الصراع حالياً بين ثلاثة محاور رئيسية: الجيش المالي المدعوم بمرتزقة روس، والجماعات الجهادية (أبرزها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة)، والحركات الانفصالية للطوارق، وتحديداً تنسيقية حركات أزواد.
تسيطر الجماعات الجهادية على مساحات شاسعة من الريف والمناطق الوسطى والشرقية من البلاد، بينما تركز قوات الجيش على حماية المدن الرئيسية (مثل العاصمة باماكو) ومناطق محددة. أما شمال مالي، فقد شهد تصعيداً كبيراً منذ سبتمبر 2023 بعد انسحاب قوات الأمم المتحدة، حيث تجدد القتال بين الجيش المالي وحركات أزواد الانفصالية للسيطرة على القواعد العسكرية التي تم إخلاؤُها، مثلما حدث في محيط مدينة بوريم.
هذا المشهد المُعقَّد أدى إلى أزمة ثقة عامة بين المؤسسة العسكرية والشعب، لا سيما بعد الخسائر العسكرية الكبيرة التي مُنِيَ بها الجيش والمرتزقة الروس في هجمات شرسة شنتها الجماعات المتطرفة في عام 2024 على الحدود مع الجزائر وفي محيط العاصمة.
تفاقُم الخلافات داخل المؤسسة العسكرية نفسها يساهم في إضعاف الأولويات الأمنية على حساب تثبيت أركان الحكم.
من غير المتوقَّع في الوقت الراهن أن يحصل سقوط عسكري مباشر وسريع لنظام الحكم وسيطرة الجماعات الجهادية على العاصمة باماكو بالمعنى التقليدي (أي اقتحام العاصمة والسيطرة على المباني الحكومية).
ومع ذلك فإن مالي تواجه خطراً وجودياً حقيقياً، يتجسد في شكل حصار وخنق اقتصادي وسياسي يهدف إلى إسقاط النظام من الداخل.
تعتمد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إستراتيجية جديدة تبتعد عن المواجهة العسكرية المباشرة مع الجيش المالي المدعوم بـ"المرتزقة الروس" في قلب العاصمة. وبدلاً من ذلك، فإن الجماعة تفرض حصاراً خانقاً على باماكو عَبْر قطع طرق الإمداد الرئيسية المؤدية إليها منذ مطلع شهر نوفمبر 2025، وقد أدى هذا الحصار المستمر إلى نقص حادّ وغير مسبوق في الوقود والغذاء والدواء، مما شلّ الحياة في العاصمة وبعض المدن الرئيسية الأخرى.
الهدف من هذه الإستراتيجية هو خنق النظام العسكري الحاكم اقتصادياً وتجويع الشارع لإشعال غضب شعبي أو التسبب في انقلاب عسكري داخلي جديد، بما يضمن لهم مقعداً مؤثراً في أيّ حلّ سياسي قادم أو انهيار كلي للدولة.
لا تمتلك الجماعات الجهادية القدرة اللوجستية والعسكرية الكافية لاقتحام باماكو والسيطرة عليها عسكرياً في مواجهة القوات الحكومية المرابطة فيها، لكن الفشل الأمني المتراكم للنظام العسكري قد يؤدي إلى انهيار داخلي في نهاية المطاف.
هذا الانهيار قد يجعل مالي أول دولة في العالم تُدار فعلياً من قِبل تنظيم القاعدة من خلال السيطرة على محيطها، وهو ما دفع بعضَ الدول الغربية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى إجلاء موظفيها غير الأساسيين في أواخر أكتوبر 2025.
فشل الدولة وتدهور الوضع في مالي يخلق تداعيات إقليمية خطيرة وفورية تمتدّ لتشمل دول الجوار المغاربي ودول غرب إفريقيا، فمالي أصبحت بمثابة ملاذ آمِن ونقطة انطلاق للتنظيمات المتطرفة، مما ينعش نشاط هذه الجماعات في بلدان المغرب العربي والساحل، وتحديداً في النيجر وبوركينا فاسو، حيث ترتبط هذه الدول بخطوط إمداد وتهريب حيوية تعتمد عليها الجماعات الجهادية لتمويل أنشطتها عبر تجارة المخدرات والأسلحة والذهب غير المشروع.
كما أن عدم الاستقرار سيؤدي إلى تفاقُم أزمة الجريمة المنظَّمة، حيث يتيح الفراغ الأمني للمهربين والمتاجرين بالبشر التحرك بحرية أكبر ضِمن شبكات إقليمية وعالمية مرتبطة بالجزائر وليبيا والمغرب، مما يهدد استقرار الحدود الشمالية.
وتقوض الأزمة داخل مالي الأمن داخل دول شمال إفريقيا عَبْر إحداث تشويش في الإستراتيجيات الوطنية، كما حدث في الجزائر التي اضطُرت لتغيير مقاربتها التقليدية للإشراف على الشؤون الأمنية في بلدان الساحل، مما يبرز مالي كنموذج مصغَّر ومحوري لمشاكل الساحل التي تتطلَّب حلّاً إقليمياً ودولياً شاملاً.




