
ممرّ زنغزور ساحة صراع جديدة في القوقاز
2025-08-2398 مشاهدة
يشكّل الاتفاق الأخير بين أرمينيا وأذربيجان الذي تم توقيعه في بدايات أغسطس 2025 بوساطة أمريكية نقطة تحوُّل جيوسياسية مؤثرة في منطقة القوقاز. فبعد عقود من التوترات والحروب تَوصَّل رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأذربيجاني حيدر علييف إلى اتفاق سلام شامل في البيت الأبيض، برعاية الرئيس دونالد ترامب.
أبرز ما يميز هذا الاتفاق هو بند إنشاء ممرّ ترانزيت جديد يربط أذربيجان بإقليم نخجوان التابع لها عَبْر مقاطعة سيونيك الأرمينية.
هذا الممرّ الذي أُطلق عليه اسم "طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي" (TRIPP)، لم يُنهِ الصراع بين البلدين فحَسْب، بل وضع الولايات المتحدة بشكل مباشر على حدود إيران.
يُنظر إلى هذا التطور على أنه يعكس تراجُعاً في النفوذ الروسي التقليدي في المنطقة، لصالح تزايُد الحضور الأمريكي والتركي.
يأتي هذا التقدم نتيجة جهود مكثفة على مدار الأشهر السبعة الأولى من عام 2025، مدفوعة بتوتر العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان مع موسكو.
لقد عملت عدة أطراف - بما في ذلك تركيا - على تحويل الهدنات الهشة إلى سلام دائم. كما ساهمت العلاقات الدافئة بين يريفان وأنقرة في تقريب البلدين من تركيا، بعيداً عن روسيا.
دخلت واشنطن على الخطّ مع بداية ولاية ترامب الثانية أوائل عام 2025، مستفيدة من ثلاثة عوامل رئيسية: انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، وضعف قبضتها على دول آسيا الوسطى، وتزايُد الانقسامات بين موسكو وكل من أرمينيا وأذربيجان، وقد أثمرت جهود الوساطة التي قادها وزير الخارجية ماركو روبيو والمبعوث الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف وانتهت بعقد الاتفاق.
يعود الممرّ بفوائد ومخاطر متباينة على مختلف الأطراف، فبالنسبة لأذربيجان يمثل الممرّ مطلباً قديماً يربطها بمنطقتها المنفصلة نخجوان، بينما تستفيد أرمينيا من إمكانية فتح طرق تجارية جديدة مع أذربيجان وتركيا.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الممرّ يمنحها موطئ قدم إستراتيجياً في منطقة لطالما كان نفوذها فيها محدوداً، فواشنطن حصلت على حقوق حصرية لتطوير وإدارة الممرّ لمدة 99 عاماً، كما أنها ستستفيد من هذا المشروع في احتواء الطموحات الروسية والإيرانية ومراقبة مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.
وعلى النقيض من ذلك، يمثل الممرّ تحدياً كبيراً لروسيا وإيران، اللتين تعارضان بشدة الوجود الأمريكي في المنطقة، فالممرّ يهدد نفوذهما ويقوض مشروع "ممرّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب" الذي يربط الهند بأوروبا عَبْر إيران وروسيا، كما يُقلّل الممرّ من عائدات النقل لإيران عن طريق تجاوُز أراضيها.
تدرك كلٌّ من طهران وموسكو خطورة هذا المشروع على مصالحهما الإستراتيجية والأمنية، وقد عملتا منفصلتين ومعاً على إحباط أيّ اتفاق بشأن الوجود الأمريكي.
وخلال زيارة علي لاريجاني (أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني) الأخيرة إلى موسكو، تم تشكيل تحالف غير معلَن بين طهران وموسكو لمواجهة التدخل الأمريكي في مشروع ممرّ زنغزور، وقد ضمت هذه اللجنة مسؤولين عسكريين ودبلوماسيين من كِلا البلدين.
في الماضي كانت موسكو تعارض النفوذ الإيراني في القوقاز، لكن مع إعلان واشنطن إدارتها للممرّ، تغير الموقف الروسي، وأصبحت موسكو تريد التعاون مع طهران لمواجهة واشنطن.
يضع هذا التطور إيران في مأزق، ويحدّ من مساحات المناورة المتاحة لها، وأصبح لزاماً على طهران الآن مراقبة تنامي التقارب "الإسرائيلي-الأذربيجان"، والتحالف الإقليمي الجديد بين أذربيجان وأرمينيا والولايات المتحدة، في ظلّ غياب إستراتيجية واضحة لإيران في القوقاز، سيكون عليها الاختيار بين مسارين:
• التعاون والدبلوماسية: تعمل إيران على إعادة دمج نفسها في هذا الطريق الرئيسي الجديد، من خلال التعاون مع جيرانها. هذا المسار يتطلب من طهران تطوير سياسة واضحة تجاه المتغيرات الجديدة لتجنُّب التهميش في المنطقة.
• التصعيد الأمني: تلجأ طهران إلى دعم مجموعات متمردة في إقليم نخجوان، و الدفع بالوضع الأمني في الإقليم نحو الصراع المسلح، بما يضمن عرقلة مشروع ممرّ زنغزور . وهو السيناريو المرجَّح.
يُظهر الممرّ أن الجغرافيا السياسية المعاصرة لم تَعُدْ تدور حول الحدود التقليدية فحسبُ، بل حول مَن يتحكم في طرق العبور، وخطوط الأنابيب، وشبكات الاتصالات.
وفي النهاية، سيتحدد مصير هذا المشروع في السنوات القادمة، وما إذا كان سيُساهم في الاستقرار والنمو الاقتصادي، أو سيصبح نقطة صراع جديدة في تنافُس القُوى العظمى.