الحَراك الطلابي يخطّ فصلاً جديداً من فصول التاريخ

الحَراك الطلابي يخطّ فصلاً جديداً من فصول التاريخ

2024-05-15
318 مشاهدة


تشهد الجامعات حركة نشطة غير مسبوقة من الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، حيث يواجه الطلاب قمعاً واسع النطاق من السلطات الجامعية، ولكن الحَراك الطلابي يتصاعد ويتطور ليشمل إقامة مخيمات تضامُن وإشغال مباني الحرم الجامعي، مما يثير ردود فعل قمعية من السلطات ومزيداً من الإصرار الطلابي، وهذا ما يسترعي انتباه وسائل الإعلام ويؤدي إلى محاولات لتحليل أسباب وتداعيات هذه الظاهرة.

نص الترجمة:

لقد كان اندلاع الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة – وفي جميع أنحاء العالم – متوقعاً منذ وقت طويل. وعندما بدأت المظاهرات بالانتشار منذ أشهر، كان المنظمون الطلابيون هم الفئة التي واجهت قدراً كبيراً من القمع والمنع من قِبل إدارات الجامعات العازمة بشدّة على الحدّ من أي تعبير سياسي مؤيد لفلسطين ومناهض للحرب على غزّة في جامعاتهم. وقد شمل ذلك إجراءات تأديبية عقابية أدت إلى تعليق الدراسة بسبب مخالفات بسيطة، وتشديد الرقابة، والاعتقال من قِبل شرطة الحرم الجامعي، وحلّ مجموعات مثل طلاب من أجل العدالة في فلسطين Students for Justice in Palestine (SJP) والصوت اليهودي من أجل السلام Jewish Voice for Peace (JVP). ولكن كان للطلاب تكتيكاتهم وأساليبهم المبتكرة للتعبير لضمان سماع رسالتهم والشعور بوجودهم، بما في ذلك في الآونة الأخيرة، من خلال إنشاء مخيمات تضامن مستمرة مع غزّة، واحتلال مباني الحرم الجامعي لمطالبة مؤسساتهم بالتخلّي عن دعم إسرائيل.

ومع ذلك، فإن السرعة والنطاق اللذين انتشرت بهما الحركة الطلابية في الأسابيع القليلة الماضية كانا مذهلين. وكذلك الحال مع العنف والقمع المستخدم لمحاولة سحق تلك الحركة.

منذ 17 نيسان/ إبريل، عندما قامت جامعة كولومبيا، في تصعيد خطير للقمع، بإحضار قسم شرطة نيويورك لإنهاء معسكر التضامن الطلابي، ظهرت معسكرات مماثلة في الجامعات على طول السواحل الشرقية والغربية للولايات المتحدة، (وكذلك في كندا وأوروبا وآسيا وأوروبا وأستراليا). وبدورها ردت إدارات الجامعات بالتنسيق مع أقسام الشرطة بقوّة ساحقة. فقد تمّ القبض على ما لا يقل عن 2300 طالب وأستاذ وناشط متضامن فيما يقرب من 50 مدرسة وكلّية في أكثر من اثنتَيْ عشرة ولاية. كما أدت حملات القمع إلى زيادة عزيمة الطلاب وأحيت حركة التضامن المحبطة بسبب عدم إحراز تقدُّم. وقد أشاد الفلسطينيون في غزّة بالنشاط، وأطلقوا عليه اسم "الانتفاضة الطلابية"، ودعوا الطلاب في جميع أنحاء العالم إلى تصعيد احتجاجاتهم.

لقد أصبحت لغة المنظمين وتكتيكاتهم موضوعاً تُركّز عليه وسائل الإعلام النخبوية بشكل مكثّف، حيث يتنافس المعلقون مع بعضهم البعض لإنتاج نظريات تافهة تفسّر سبب انفعال الطلاب إلى هذا الحدّ. ومن المفارقات أن هؤلاء المعلقين يتجاهلون أثر تعليقاتهم في زيادة الاحتجاجات داخل الجامعات على مستوى العالم.

وقد أدى الذعر الذي أثارته تعليقات النقّاد إلى ضغوط من الجهات المانحة والإدارات الحالية التي تسيطر فعلياً على الجامعات. وقد رأى الطلاب بعد ذلك قوة رسالتهم وشدّة ردّ الفعل المعارض لها، وهي تجربة مليئة بمظاهر الصراع الأيديولوجي بتكتيكات مختلفة وأحياناً بطرق راديكالية.

وفي المقابل، زاد الطلاب من نضالهم، وازداد عدد مخيمات الاحتجاج ليشمل احتلال المباني الجامعية. وقد أثار هذا المزيد من الذعر وبالتالي المزيد من القمع. وبعد فقدان السلطة الرادعة التي يمتلكونها كمنظمين، يقوم المسؤولون بصبّ المزيد من الزيت على النار.

وعلى النقيض من الروايات الإعلامية الشائعة، انتشرت وجهات النظر اليسارية بين الطلاب، ليس من خلال العدوى الاجتماعية ولا من خلال التلقين الأكاديمي، بل من خلال التجربة الجديدة غالباً في مواجهة السلطة بمطالب معقولة وواضحة أخلاقياً، على سبيل المثال، مثل  مطالبة جامعتك بقطع العلاقات المالية مع دولة ترتكب جريمة إبادة جماعية، والتعرض للرفض والقمع والنبذ. وفي المقابل، يطور الشباب وجهات نظر عالمية نقدية. بمعنى آخر ليس الذكاء الخاص ولا السذاجة الخاصة هي التي تنتج الطلاب الثوريين، وإنما مجرّد التموضع داخل المؤسسات القوية واكتشاف أن الحراك من أجل العدالة يعطل تماماً وظيفتها الأساسية التي هي إعادة إنتاج الطبقة الحاكمة.

هذه الديناميكية مألوفة بالنسبة لي، ليس فقط من خلال دوري كمحامٍ في Palestine Legal، حيث ساعدت النشطاء والجماعات المتضامنة مع فلسطين على التحرّك بحذر في موجة القمع ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وهو ما تعايشت معه كطالب جامعي منذ أكثر من عقد من الزمان.

عندما دخلتُ جامعةTufts  في خريف عام 2011، كنت ليبرالياً. وُلدت لأب فلسطيني وأم يهودية عام 1993، وكنت ابن معاهدة أوسلو بالمعنى الحقيقي للكلمة. وعلى الرغم من الانهيار التاريخي لتلك الحقبة في الانتفاضة الثانية وما تلا ذلك من بداية الحصار على غزّة، إلا أنني تمسكت بمبدأ المعاهدة- وهو على وجه التحديد أنه من خلال التواصل الفعال والمفاوضات الشاقّة، يمكن أن يسود السلام.

ويكفي أن أقول إنني سرعان ما تحررت من الوهم من هذه الأفكار. ففي سنتي الأولى، انضممت إلى فرع جامعة Tufts  في حركة SJP، الذي تم تشكيله في الحرم الجامعي في العام السابق. لقد انضممت إلى العشرات في المجموعة. وبعد بعض المداولات، قررنا إقامة "أسبوع الفصل العنصري الإسرائيلي"، حيث نقوم خلاله بعرض أفلام وفعّاليات نقاشية ومظاهرة للفت الانتباه إلى محنة الفلسطينيين الذين يعيشون في أراضي عام 1948، الضفة الغربية وغزّة وكلاجئين. لقد رأيت ذلك كوسيلة لتعزيز المبادئ العالمية الأساسية لهُوِيّتي السياسية. في رأيي كنا ندعو ببساطة إلى حقوق متساوية للفلسطينيين واليهود في الأرض الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، فضلاً عن حق العودة للفلسطينيين الذين تشردوا وفقدوا ممتلكاتهم في عام 1948.

على الرغم من أن هذا لا يشبه ما يواجهه الطلاب اليوم، فقد قُوبلنا بدرجة من ردود الفعل العنيفة - من الإداريين والأقران - والتي كانت مذهلة. تعرض أعضاء مجموعتنا للاعتداء والشتم من قِبل كبار أعضاء هيئة التدريس، وحاولت الإدارة إلغاء تصريحنا باستخدام ساحة الجامعة لإقامة الفعاليات، وقام زملاؤنا الطلاب باتهامنا بمعاداة السامية ودعم الإرهاب. كان مستوى النقد اللاذع الموجه إلينا يهدف إلى عزلنا، ولكنه قادنا إلى إدراك أن العامل الذي يعوق تحقيق العدالة الاجتماعية لم يكن متعلقاً بالعقلانية أو الحكمة، بل بالقوة أو السلطة.

لقد تطورت مجموعتنا، وتحسّن أداؤنا وفهمنا للأمور، وبدأنا باستهداف جامعة Tufts نفسها، والمطالبة بسحب الاستثمارات من إسرائيل. ونمت قوتنا أيضاً، فبعدما تحولنا إلى حالة التنظيم السياسي، قمنا ببناء علاقات مع مجموعات العدالة الاجتماعية الأخرى، وازدادت أعدادنا. وبحلول سنتي الجامعية الأخيرة، كانت قد اندلعت انتفاضة Ferguson   وكذلك الجولة الأولى من حركة "حياة السود مهمة"، وكانت حركة SJP مستعدة تكتيكياً وسياسياً لهذه اللحظة. لقد انخرطنا في تحركات مباشرة واحتلال الشوارع جنباً إلى جنب مع مجموعات طلابية أخرى مناهضة للعنصرية للمطالبة بوضع حدّ لعنف الشرطة. لقد تعرضنا للشتم والإساءة، لكننا بنينا علاقات قوية ودائمة وأثّرنا بشكل عميق في الخطاب داخل الحرم الجامعي وخارجه.

لقد شارك العديد من الناشطين الطلابيين الذين عايشوا تحرُّكات مناهضة للاعتداء على جورج فلويد في عام 2020 في تجارب واحتجاجات مهمة، والآن هم مستعدون لتنظيم دعم فلسطين بنضج سياسي وتكتيكي.

ومن خلال تجربتي الجامعية، وجدت أن الأجواء كانت تتحضّر وتنضج لما هو قادم، حيث جاءت هذه التحركات والاحتجاجات نتيجة لما سبقها من حركات احتجاج.

المخاطر الآن أعلى بكثير مما كانت عليه عندما كنت في الكلية. إن الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزّة تشكل بالفعل جريمة تاريخية عالمية، والغزو الوشيك لرفح يَعِد بحجم جديد من الرعب، وكل هذا من شأنه أن يحفّز الطلاب على تقديم تضحيات ما كانوا ليقدموها لولا هذا العدوان، ومن الواضح أن القمع الذي يواجهونه أكثر تطرُّفاً بكثير مما سبق، حيث تقوم الجامعات بتوجيه عنف الدولة داخل حرمها الجامعي دون هوادة أو رحمة.

من وجهة نظري، يمكنني تتبُّع المسافة الفاصلة بين هذه اللحظات كجيل عايش فترات متباعدة من النضال، جيل ضمن حركة التضامن مع فلسطين. وجدنا أنفسنا نناضل ضد نموذج نسبي جديد في فترة ما بعد الانتفاضة الثانية، حيث بدأت إسرائيل في إطلاق هجمات متتالية على غزة المحاصَرة. وإذا تأملنا في الماضي نجد أننا كنا نحاول فهم العلاقة بين مكونات الصراع الأساسية: الولايات المتحدة، الدولة الإسرائيلية، حركة الاستيطان، النضال الفلسطيني، المجتمع المدني الفلسطيني، وحركة التضامن.

ولكن حالياً تم كسر النمط القديم وهياكله أصبحت واضحة، فإبادة إسرائيل البطيئة للفلسطينيين أصبحت الآن بوتيرة سريعة، وغطاء الولايات المتحدة اللفظي من حقوق الإنسان والتعدُّدية والدبلوماسية الدولية - التي اتبعها باراك أوباما كشخصية قيادية وطنية ببراعة- قد تلاشت، مما ترك عنصرية جو بايدن في القرن العشرين مكشوفة. وما يبدو واضحاً للعيان هو وجود دولة نووية، متغطرسة ومدعومة إلى أقصى حدّ من قِبل الهيمنة العالمية. لكن غزّة رفضت هذا الواقع، وبسبب رفضها، تواجه الانتقام بأبشع صوره.

إن المطلب العقلاني المعتدل هو وقف هذا الانتقام، ويدرك الطلاب مدى إلحاح هذا المطلب، ولهذا لن يتم رفض ما يطالبون به. وبسبب وضوحهم، وصلت أصواتهم إلى الفلسطينيين الذين يشعرون أنه تم نسيان معاناتهم، ولكنهم الآن بدؤوا يشعرون أن نداءات الطلاب تمثلهم وتنصفهم.

وسط هذه الأجواء من الرعب، اكتشفت أن ارتباطي بهذا النضال أمر مؤثر للغاية، فأنا أشعر بالتحرُّر من داخلي على طول الفترة التي التزمت بها بهذا النضال، وأشعر أنني أتخلّص من أعباء أثقلت كاهل مؤسساتنا التي تناصر الظلم، ولكنني أخشى أن تُغلق هذه النافذة التي أرى منها الضوء، وتتلاشى هذه الروح إذا ما سيطرت حقبة مشابهة لما كان عليه الحال قبل هذه التحرُّكات، وأتمنى أن ننجز شيئاً قبل أن تدور عجلة التاريخ وتُنهي ما نحن فيه من تحرُّكات نضالية.

 

ترجمة: عبد الحميد فحام    

المصدر: (The Nation)