خيارات بوتين الصعبة

خيارات بوتين الصعبة

2022-06-13
2201 مشاهدة

وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى موقف لا يُحسد عليه، إذ بالرغم من أن لدى بلاده الموارد الكافية لإلحاق الضرر بأوكرانيا إلى الأبد، إلا أنه ونظراً لأن المرحلة الأولى من الحرب كانت مُكلِفة للغاية بالنسبة لروسيا ولأن الجيش الأوكراني يقوم بمثل هذه المقاومة الشديدة، فإن موسكو تواجه صعوبة حقيقية في تحقيق أي شيء ذي مغزى في ساحة المعركة دون الحاجة لاستدعاء عدد أكبر بكثير من القوّة البشرية المتوفرة لديها حالياً.
 

استدعاء أعداد كبيرة من جنود الاحتياط مع القيام بوضع المجتمع الروسي علانية في حالة حرب، يحلّ المشكلة من الناحية النظرية، ولكنّه أمر قد لا يكون الجمهور الروسي مُستعدّاً له من حيث المبدأ. حتى الآن، أشار بوتين إلى الحرب في أوكرانيا على أنها «عملية عسكرية خاصة»، وقام بحشدِ تجمُّعٍ جماهيريٍّ واحدٍ فقط لدعم الحرب. التعبئة العامّة، التي من شأنها أن تجعل الحرب حقيقة لا مفرّ منها في الحياة الروسية، من شأنها أن تُحدث ثورة في النظام الذي بناه بوتين منذ وصوله إلى السلطة في عام 2000. كانت البوتينية عبارة عن المعادلة التالية: أثنت الحكومة الناس عن التدخُّل في السياسة، بينما تركتهم في حالهم، وبذلك تنازل الناس عن مسؤوليتهم في اتخاذ القرار. وقد تمكّن بوتين في عام 2014، من تحقيق أهدافه العسكرية في أوكرانيا دون إعادة تحديد السياسة الروسية بشكل جذري، إذ إن تحديد السياسات لم يَعُد خياراً أصلاً.
 

إذا قرر الرئيس الروسي إعلان التعبئة العامّة، فسوف يغير القواعد التي أرساها للتعامل مع شعبه ومن المُحتمل أن يزعزع استقرار نظامه. قد تشعر الولايات المتحدة بإغراء تشجيع الروس على الانقلاب على بوتين خلال مراقبتها للأوضاع الجارية في روسيا وجوارها. فإدارة الرئيس جو بايدن، ومن دون أن يكون لها تأثير كبير -أو ربما أي تأثير حقيقي- على الرأي العامّ الروسي، يمكنها أن تبذل قُصارى جهدها لتجنّب الأخطاء المُكلفة. والأهم من ذلك هو قيامها بفهم كيف ولماذا يُفكّر الروس في ما يفعلونه. في الصراع طويل الأمد الذي يتكشّف، سيكون الفضول سلعة ثمينة يمكن الاستثمار فيها.

 

لا أثر يمكن ملاحظته
 

خلال السنوات العشر الأولى أو نحو ذلك من عهد بوتين في السلطة، كان الميثاق القائم بين الكرملين والجمهور الروسي بعنوان «عدم المشاركة». كان اتفاقاً غير مُعلَن بين الحاكم والمحكوم: لا تُسبّبوا المتاعب، ولكم أن تستمتعوا بالاستقرار والازدهار النسبي وفرص تحقيق الذات أو حتى الإثراء. ولكن كِلا الجانبين انتهكا هذا الاتفاق في شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام2011، إذ قام المتظاهرون الغاضبون بالهتاف «روسيا بدون بوتين»، مُعبّرين عن استيائهم من عودة الأخير إلى الرئاسة وتزوير الانتخابات البرلمانية. ورداً على ذلك، بدأ الكرملين في تقويض الحقوق والحريات التي كان يتمتع بها المجتمع الروسي حتى ذلك الحين، مما أدّى إلى تأليب الأغلبية الوطنية ضد أولئك الذين اعتبرهم النظامُ «حداثيين» و«متغرّبين» بشكل مفرط. بعد هذا الاشتباك، عادت الحياة إلى طبيعتها نسبياً، لكن شعبية بوتين تراجعت وبدأت شرعية النظام في التآكُل. بدأ هذا الفصل الجديد في رئاسة بوتين، حوالَيْ عام 2011، بحالة من النَّكَد.
 

في خريف عام 2013، كان بوتين يستعدّ لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 في سوتشي، وهي مدينة روسية سياحية على البحر الأسود. بدا وكأنه ليس لديه مغامرات عسكرية في الخارج على جدول أعماله. وبعد بضعة أشهر فقط، غيّرت «انتفاضة ميدان» المؤيدة لأوروبا في أوكرانيا والهروب غير المتوقع لرئيس أوكرانيا فيكتور يانوكوفيتش حسابات الرئيس الروسي. كان بوتين قد اعتبر يانوكوفيتش رَجُلَهُ في أوكرانيا وتوقّع منه أن يُبقي بلاده في الفلك الروسي. كان موعد رحيل يانوكوفيتش هو اللحظة التي بدأ بوتين يشعر فيها أن الوضع يخرج عن سيطرته. فقام بضمّ شِبه جزيرة القرم وتدخّل إلى جانب المتمردين المسلحين في شرق أوكرانيا، وقام بتثبيت الجيش الروسي تدريجياً وخصّص لموسكو دوراً شِبه إمبراطوري في دونباس.
 

ضمّ شِبه جزيرة القرم أدى إلى قطع شوط طويل في استعادة الدعم الشعبي لبوتين. أنتج ذلك الضمّ موجة عفوية من الوطنية وأكّدت مزاج المُواجَهة مع الغرب. لكن الكرملين لم يسمح للصراع أن يترك الكثير من الأثر على الحياة اليومية لمعظم الروس، فسرعان ما عادت الحياة إلى طبيعتها.
 

وفرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات، فأحدثا تراجُعاً اقتصادياً حادّاً في عام 2015، ولكن بمرور الوقت استقرّ الاقتصاد، وتمكّن الناس من التكيّف. وإذا تمّ قمع النشاط السياسي ضد النظام، فقد سُمح لمنظمات المجتمع المدني بالعمل. وكانت المبادرات الخيرية والتعليمية والثقافية التي تمّ تنفيذها بمثابة فرضية تقول: يمكن للمنظمات غير الحكومية ومراكز الفكر والمنافذ الإعلامية التي لم تشارك في تظاهُرات ضد الحكومة، أن تقوم بعملها. تمّ التعامل مع الاحتجاجات المتفرقة (لأسباب مختلفة) في بعض الأحيان بوحشية، ولكن في كل مرة كانت هناك موجة من الاحتجاج، لم تكن تترك وراءها أيّ تحرُّك أو سبب يدعو الكرملين إلى القلق الشديد. بهذه الطريقة، عدّل بوتين طبيعة السياسة الروسية في عام 2014 دون إعادة صياغتها بالكامل.
 

جرى القتال في دونباس على موجات. فعندما تلاشت حدّتها إلى حدٍّ مَا بعد عام 2014، انحرفت السياسة الخارجية ليكون تركيزها خارج ما يجري في روسيا. بدت الحرب السورية، حيث كانت القوات الروسية تقاتل إلى جانب رئيس النظام السوري بشار الأسد، بعيدة ولم تُسفر عن خسائر روسية واسعة النطاق. ورغم أن الأزمات الدولية لم تكن غائبة أبداً، إلا أن مَن أراد تجاهُلها يمكن له أن يتجاهلها.
 

حرب غير بعيدة
 

بحلول عام 2020، كانت الحكومة الروسية أبعدَ ما يكون عن التعامُل الجيد مع المعارضة. فقد تحمّلت الشخصية المُعارضة البارزة في روسيا، أليكسي نافالني، وطأة الغضب المتزايد للحكومة، حيث تمّ تسميمه بغاز أعصاب "نوفيتشوك" في شهر آب/ أغسطس من عام 2020 وذهب إلى ألمانيا لتلقي العلاج. عند عودة نافالني إلى روسيا في كانون الثاني/ يناير من العام التالي، قامت السلطات باعتقاله. وبعد إلقاء القبض عليه، أصدر حزبه أحد مقاطع الفيديو الخاصة به التي تكشف فساد كبار النخب، وهذه المرة كان بوتين نفسه موضوع التسريب. لم يكن نافالني يُشكّل تهديداً مباشراً لسلطة بوتين. ومع ذلك، فقد كان يُمثّل ثِقلاً موازناً لشعبيته، وهي مسألة ذات أهمية قصوى بالنسبة للكرملين، نظراً لأن مكانة بوتين غير المُتنازَع عليها ومستوى التأييد المرتفع الذي يتمتع به هما أساس الاستقرار السياسي.
 

ربما كانت الحالة الطبيعية والاستقرار أوهاماً للجمهور الروسي في عامَيْ 2020 و2021، ولكنها مع ذلك كانت أوهاماً مُستدامة. فقد حطّمت الحرب التي بدأها بوتين في شهر شباط/ فبراير هذا العام هذه الأوهام. حجم الغزو الروسي في أوكرانيا أكبر بكثير من أي شيء تمّ القيام به في عام 2014، والانفصال بين روسيا والغرب يكاد لا يسبق له مثيل: نطاق العقوبات، والقيود المفروضة على السفر، وإغلاق أو خروج المؤسسات الغربية من روسيا.
 

وهكذا، في الأشهر المُقبلة، سيواجه بوتين اختيار المعاقبة من عدمه. يُمكنه التهدئة ومحاولة إصلاح العلاقات مع الغرب. أو يمكنه شنّ حرب واسعة النطاق على أوكرانيا، مما يزيد من تعميق الخلاف مع أوروبا والولايات المتحدة.
 

إن الحرب الشاملة تتطلب تعبئة تدريجية على الأقل. وبذلك يمكن لبوتين أن يوسّع خياراته في ميدان المعركة. هنا، لكلمة «تعبئة» معنيان: إعداد جيش للحرب من خلال استدعاء جنود الاحتياط والمتخصصين، وتوجيه المجتمع الروسي بالكامل نحو الحرب. التعبئة تُعكّر صفو الشؤون الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء، كما تميل إلى تعريف السياسة على أنها عدوان والعدوان على أنه سياسة. وهو ما يُشجّع على تنامي الشوفينية. إذا اختار بوتين التعبئة بما تحمله الكلمة من هذين المعنيين، فإنه سيحتاج إلى بناء مبرِّرات قوية لاستحضار الوطنية المتشددة بين أفراد شعبه. سيتعين عليه تأطير المواجهة بشكل أكثر وضوحاً على أنها حرب ضد الغرب، مع ربط أوكرانيا بالعدو (في الوقت الحالي، يُشار إلى الأوكرانيين غالباً باسم «الإخوة»، بينما يدّعي الكرملين شنّ حرب ضد «النازيين» المتواجدين بينهم). ستنتهي الحياة المدنية التقليدية، ولن تبدأ من جديد حتى تنتهي الحرب، بغضّ النظر عن الوقت الذي سيستغرقه ذلك والكيفية التي ستكون عليها تلك العودة إلى الحياة المدنية.
 

ما ستمكّنه التعبئة بالنسبة لبوتين يتمثل في مجموعة موسّعة من أهداف الحرب: هجوم مرة أخرى على كييف، أو حملة لتقسيم البلاد إلى نصفين شرقي وغربي، أو جهد مُنسّق لتحويل أوكرانيا إلى دولة فاشلة، أو الوصول إلى حالة تكون فيه بِنْيَتها التحتية ومدنها واقتصادها مدمّرة بالكامل.
 

ستفرض التعبئة في الوقت نفسه مخاطر سياسية هائلة على بوتين. فقد أسس نظامه على فكّ ارتباط الرأي العامّ بالشؤون السياسية والسياسة الخارجية. سيكون من الخطورة إلى أقصى حدّ الإعلان عن شيء مثل الحرب الشعبية، بدلاً من مجرّد «عملية عسكرية خاصة». هذه التعبئة تتطلب أن يشارك الروس بفعّالية في الحرب، وأن يتقبلوا مبرِّراتها وأهدافها، التي يجب أن تكون واضحة ومؤكدة. حتى الآن، كانت الأسباب الرسمية للحرب غامضة ومُتغيّرة. كما أن التعبئة الجماهيرية ليست بالضرورة عملية يمكن التحكّم بها. فهي يمكن أن تقوّي بشكل جذري فصيل النخب الأكثر تشدُّداً، مما يؤجِّج المشاعر القومية بطرق لا يمكن التنبؤ بها، خاصة إذا لم تَسِر الحرب على ما يرام.
 

من يُصدّق هذه الأشياء؟
 

إن السرديّة الروسية الرسمية للحرب هي شائعة بقدر ما هي هشّة. فهي تقول: إن موسكو، بسبب استفزاز الغرب والفظائع التي ارتكبتها الحكومة الأوكرانية في دونباس منذ عام 2014، أُجبرت على خوض «عملية عسكرية خاصة». في البداية، وبشكل مُتقلّب، تمّ ربط السردية بـــ «نزع السلاح» و«التخلّص من العناصر النازية» في أوكرانيا والاستقلال التامّ لمناطق دونيتسك ولوهانسك (أو الأوبلاستات)، الأمر الذي شكّل السبب الأكثر تماسُكاً لشنّ مثل هذه الحرب. كما تمّ التأكيد أيضاً على اعتبار أوكرانيا امتداداً طبيعياً لـــ«العالم الروسي». من الضروري لهذه السرديّة أن تدّعي التوقع بأن «حلف شمال الأطلسي» سيهاجم روسيا، مما يجعل «العملية العسكرية الخاصّة» في أوكرانيا وقائية بطبيعتها. ويمكن للحرب أن تستمر وَفْق ادّعاءات محددة، ليس أقلّ من «صراع وجودي» ضد الغرب، وضد «الأطلسي»، وضد مُخطَّطات الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الرئيسيين.
 

طبعاً، يقول مهندسو «العملية العسكرية الخاصة»: إنها تسير على ما يرام. وتُشير الرواية الرسمية إلى أن الأمر كان سيصير أفضل، إنْ لم تَقُم الولايات المتحدة وشركاؤها بتزويد الأوكرانيين بالسلاح، وإنْ لم يتلاعبوا بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وهو الشخص الذي يقومون من خلاله، بتأجيج القومية الأوكرانية و«النازية». في الرواية التي يتبنّاها الكرملين، هناك العديد من الأشرار، ليس فقط الولايات المتحدة، ولكن أيضاً المملكة المتحدة، وبولندا، وجمهوريات البلطيق، وأوروبا على نطاق واسع.
 

بعض الروس مناهضون للحرب، والبعض الآخر حريص على عدم سماع أخبار سيئة عن هذه الحرب ويغضب عندما يواجه أدلّة على ارتكاب الفظائع. البعض مؤيد للحرب بعصبية، والبعض الآخر مؤيد للحرب بحزم، ومؤمن حقيقي بها وبأهدافها. لكن الأهم من ذلك أن الكثير منهم غير مشاركين فيها ولسان حالهم يقول: «إنها حرب أوكرانيا. إنها حرب الكرملين»، إنها ليست حربهم.
 

في الحقيقة، لا توجد بيانات استقصائية يمكن أن تُنصف التعديلات المتغيرة في الشعور والموقف داخل بلد في حالة حرب. فالتوترات والتناقضات لا تحدث فقط بين مجموعات مختلفة من الناس، بل هي تتقلّب في أذهان الأفراد أيضاً.

 

ما قد يكون أكثر صلة بالرأي العامّ الروسي هو أن الحرب لم يتم الشعور بتأثيراتها على الفور في داخل البلاد. كانت هناك ضربات قليلة على الأصول العسكرية في روسيا. وبالنسبة لمعظم الناس، لم تُغيّر القيود المفروضة على السفر والضغط الاقتصادي للعقوبات حياتهم اليومية بشكل جذري. بالنسبة للعائلات التي تضمّ أفراداً في الجيش وبالنسبة لعائلات المجنّدين، فإن الحرب ليست بعيدة بالطبع. الكرملين بالكاد يذكر الخسائر، مما يجعل الكثير الروس غير مطلعين على ما يجري. بالنسبة للغالبية العظمى من الروس، فإن الحرب بالكاد تشغلهم. هذا هو السبب في أن التعبئة ستشكل تحدياً، إذ إنها ستعني التحوّل من «عملية عسكرية خاصة» إلى «حرب شعبية»، وبالتالي، فقدان الروس لوَهْم مفاده أن الحرب بعيدة عنهم وعن حياتهم الطبيعية. يجب أن تُقابل معاناة وضحايا حرب واسعة النطاق بتضحيات متناسبة في الداخل. سينتشر الخوف والغضب عَبْر المجتمع الروسي الذي تم تحفيزه لعقود على الابتعاد عن المشاعر السياسية القويّة.
 

لا ضرر ولا ضِرار
 

إذا اتخذ بوتين قراراً لصالح التعبئة، وإذا فشل الكرملين في المهمّة، فقد تشعر الولايات المتحدة بحالة من الإغراء للاستفادة من الفوضى. ففي النهاية، تريد واشنطن طرد الجيش الروسي من أوكرانيا. وقد نظّر على الأقل بعض المسؤولين الحكوميين الأمريكيين بشأن المُضي قُدماً والإسراع بعملية التفكك العسكري الشامل لروسيا. يعتقد البعض أنه من الضروري إذلال روسيا. لكن وجود الولايات المتحدة كوسيلة للتأليب على الحرب أو التأليب على بوتين داخل روسيا ليس فقط مسألة بعيدة التحقّق، لا بل إنه من المؤكد أنه سيكون لها نتائج عكسية. يجب على الولايات المتحدة أن تحاول أن تكون وأن تظهر مُحايدة رسمياً بشأن السياسة الروسية المحلّية، وأن تمتنع عن التعليق الصريح ولا تنحاز إلى حركات المعارضة. هذا ليس له علاقة بالخوف من الحساسيات السياسية مع الكرملين، وإنما الهدف هو ترك المجال في السياسة الروسية مفتوحاً للروس للتحرّك نحو روسيا ما بعد بوتين بوسائلهم الخاصّة.
 

في ظل مُضيها قدماً بلمسات خفيفة وبحَذَرٍ، يجب على إدارة بايدن التصرف وفقاً للرأي العامّ الروسي بطريقتين. يجب أن تفعل ما في وسعها لتعزيز النوايا الحسنة، إذ يمكن أن توضّح أن تمنّيها الخير لأوكرانيا لا يُترجَم إلى تمنّي السوء للشعب الروسي. قد يكون من الصعب التوفيق بين هذا الأمر والغضب الذي يشعر به العديد من الأمريكيين بشأن الطريقة التي تدير بها روسيا حربها. قد يكون من الصعب أيضاً التعبير عن تصرُّفات تنمّ عن حسن النيّة. فالحكومة الأمريكية لديها منصات قليلة للوصول إلى الجمهور الروسي. لكن طريقة التعبير بديهية. لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تُكرّر الحكومة الأمريكية التبريرات المتناقضة التي استخدمها بوتين لتفسير حربه وتبريرها.
 

في ما يتعلّق بخطاب الرئيس بايدن العلني، يجب أن تكون القاعدة الأساسية هي عدم التسبّب في أي ضرر. ولكن مع وجود الولايات المتحدة بقوّة إلى جانب الجيش الأوكراني، فإن قدرة بايدن على إقناع الروس مُباشَرةً -أو حَشْد أي نوع من التعاطف- متواضعة في أحسن الأحوال. ومن المثير للاهتمام أن بايدن حاول إرسال رسالة حسن نيّة إلى الشعب الروسي عندما زار وارسو في شهر آذار/ مارس. ففي خطاب ألقاه، حاول ألّا يصوّر الدعم الأمريكي لأوكرانيا على أنه يتعارض مع مصالح الشعب الروسي. ولكن في النهاية، قال بايدن عن بوتين بعض الكلمات المشوشة (بحق الله، لا يمكن لهذا الرجل أن يظل في السلطة)، والتي سيطرت على المناقشات لأيام عدة بعد ذلك. لذلك، فإن الفرصة ضاعت على بايدن لإرسال رسالة حسن نيّة. في روسيا، من المشكوك فيه أن يكون أي جزء من خطابه، باستثناء كلماته عن بوتين، قد تم بثه على التلفزيون. وبالنظر إلى أن هدف الولايات المتحدة لا يمكن أن يكون استسلاماً غير مشروط لروسيا، فإن الحديث عن هزيمة موسكو وحتى إضعافها أمر مُضلّل: يُفضل مجموعة من الأهداف المتعلقة بسيادة واستقلال أوكرانيا. وكإستراتيجية إعلامية لروسيا، فإن الحديث عن هزيمة موسكو أو إضعافها يزيد من تعميق الاغتراب عن الغرب الذي تعيشه الغالبية العظمى من الروس، بمن فيهم أولئك الذين يشككون في الحرب.
 

أخيراً، تمتلك إدارة بايدن مورداً رائعاً في الشتات الروسي. يوجد الآن مئات الآلاف من الروس الحاصلين على تعليم عالٍ، يعيشون في مدن على امتداد أوروبا وآسيا الوسطى وتركيا وجنوب القوقاز. غادر البعض لأسباب اقتصادية، مُقدّرين أن مُستقبل روسيا المالي قاتم. وقد غادر الكثيرون لأنهم لم يتمكّنوا من قبول الحرب. هؤلاء لا يُشكّلون حكومة في المنفى، ومن غير المرجَّح أن يقودوا عملية انتقال ديمقراطي داخل روسيا. ولأنهم غادروا، فقد لا يتم الترحيب بهم حتى في روسيا ما بعد بوتين. أولئك الذين غادروا خلال موجة الهجرة السابقة، بعد الثورة الروسية عام 1917، لم يتمتّعوا بأي تأثير على التطورات السياسية في الاتحاد السوفياتي. قِلّة قليلة منهم عادوا من قبل، ولم يبقَ سوى عدد قليل منهم على قيد الحياة لرؤية الاتحاد ينهار في عام 1991. وبالمثل، من غير المُرجَّح أن يكون الشتات في القرن الحادي والعشرين وسيلة لتغيير روسيا. وهم أيضاً قد لا يعودون إلى روسيا أبداً.
 

مهما كانت مساهمات الشتات في السياسة الروسية صغيرة، فإنها لن تكون بلا معنى. سوف يحافظ الشتات على أنماط الإبداع الثقافي غير المرتبط بنظام بوتين. في الوقت الذي يتضاءل فيه السفر والتجارة بين روسيا والغرب، سيكون الشتات بمثابة جسر اقتصادي بين الروس والعالم غير الروسي. سوف يولد حواراً ونقاشاً سيتسربان إلى روسيا من خلال العائلة والأصدقاء ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وسيكون هناك روسيا أخرى غير مرتبطة بإستراتيجيات وتصريحات بوتين.
 

في عام 1990، نشر المؤرخ مارك رايف بحثاً رائعاً عن بديل للمهاجرين الروس عن الاتحاد السوفياتي. أطلق على بحثه عنوان «روسيا في الخارج، تاريخ ثقافي للهجرة الروسية، 1919-1939». كان رايف نجلاً لروسييْنِ غادَرَا بلادهما بعد الثورة البلشفية، وهو نتاج البيئة الأوروبية التي سكنها والداه بعد هجرتهما. لكن في عمله، تمكّن من تجنُّب كل من الحنين والمرارة اللذين غالباً ما ينشآن في أعقاب المنفى. وبدلاً من ذلك، رأى قوة وإمكانات الشتات البعيد. في البداية، كتب رايف: «لم يفكّ المهاجرون حقائبهم، لقد جلسوا مُتأهبين»، وكانوا على يقين من أن الاتحاد السوفياتي سوف ينهار بسرعة. ولكنهم أُصيبوا بخيبة أمل، لكنهم أظهروا بمرور الوقت «كيف يمكن لمجموعة منفيّة أن تُحافظ على وجودها الإبداعي، على الرغم من التشتت والعقبات الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية». هذه الإمكانيات نفسها تكمن الآن في نسخة جديدة من «روسيا في الخارج». لا ينبغي أن تضيع تلك الإمكانيات وتبقى غير مُستغَلّة.

 

تم ترجمة المادة من مجلّة Foreign Affairs

المادة من كتابة: مايكل كيماج وماريا ليبمان

ترجمة: عبد الحميد فحام