هل يَسلَم التحوُّل الديني الجاري في الشرق الأوسط من حرب غزة؟
2023-12-151148 مشاهدة
نشرت مجلة "الإيكونوميست" مادة تحدثت فيها عن التحوُّلات التي تطرأ على الاعتقاد الديني لدى المسلمين واصفةً إياها بـ"الثورة الدينية" في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وعن احتمالات تأثير الحرب الدائرة في غزة على مثل هذا التحوُّل الملاحظ لدى الحكومات والشعوب بشكل متزايد.
نص الترجمة:
تعود الصور النمطية القديمة المتمثلة بالقتال وإراقة الدماء لملاحقة دول منطقة الشرق الأوسط مجدداً، حيث وقعت أكبر مَقتَلة منذ قيام دولة إسرائيل أودت بحياة العديد من مواطنيها، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أعقبتها مذبحة بحق المدنيين الفلسطينيين. أمريكا التي موّلت إسرائيل وسلّحتها ودافعت عنها-وهو ما فعله حلفاؤها الغربيين أيضاً- أصبحت مرة أخرى موضع انتقاد، وأثارت غضب الكثيرين، إذ إن أصابع الاتهام موجَّهة نحو الأمريكان وحلفائهم من الدول الغربية لتسهيلهم قصف غزة وتهجير سكانها. وقد أدّت الهدنة التي بدأت في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر، والتي كان من المقرر أن تنتهي مع بدء نشر هذا العدد من مجلة الإيكونوميست، إلى إطلاق سراح 81 رهينة و180 معتقلاً فلسطينياً حتى 28 تشرين الثاني/ نوفمبر.
لقد أثرت أعمال العنف هذه على الجهود الأخيرة الرامية لتحسين العلاقات في المنطقة، حيث كان حاملو لواء الإسلام -السعودية السنية وإيران الشيعية– قد بدؤوا في التعالي على انقساماتهم الطائفية، كما لم يقتصر الأمر على تقبُّل الدول الإسلامية لبعضهم البعض، وإنما بدأ بعضهم في تقبُّل الدولة اليهودية أيضاً، فمنذ عام 2020، انضمت أربع دول عربية إلى اتفاقيات إبراهام، معترفة بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وكادت دول أخرى، بما في ذلك السعودية، على وشك أن تحذو حذوهم، ولكن يبدو أن هذه الحرب قد تقوّض كل تلك المساعي.
تؤدي الآن الحرب في غزة إلى تطرف العالم الإسلامي وترويعه، فيما ينصبّ الاهتمام العالمي على الفلسطينيين وعلى محنتهم بعد سنوات من إهمالهم، وقد تدّعي حماس أن ذلك يمثل نجاحاً من نوع ما، لكن الكثيرين يلومون الجماعة الإسلامية على استجلاب غضب إسرائيل.
وتُظهر التداعيات أن المسلمين يمرون بمنعطف حرج فيما يتعلق بتطور عقيدتهم، فالتحولات الدينية والسياسية والاجتماعية الضخمة تعمل على تغيير الشرق الأوسط وسكانه البالغ عددهم 400 مليون نسمة، والسؤال الآن هو ما إذا كان هجوم حماس قادراً على عكس اتجاه هذا التغير، الأشبه بالثورة، من خلال إيقاد جذوة الإسلام السياسي، حيث من الممكن أن تؤدي الحماسة المناهضة لإسرائيل والغرب إلى إثارة جماهير المنطقة المسلمين من جديد.
لفهم سبب كون مثل هذه النتيجة مؤذية بشكل كبير، علينا أن نضع في اعتبارنا حجم تغير مواقف المسلمين تجاه الدين في السنوات التي سبقت هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فلقد تغيرت الممارسة الدينية من تعبئة سياسية من أجل الخلاص الجماعي، وهو المبدأ الذي يتبناه الإسلاميون، إلى مسعى يحمل بُعداً شخصياً بشكل أكبر وسعياً لبلوغ التجليات الروحانية، وكنتيجة لذلك أصبح الإسلام وبشكل متزايد اعتقاداً غير مُسيّس بالنسبة للعديد من المسلمين.
إن هذا التوجّه واضح في إيران، فالدولة منذ قيام الثورة الإيرانية في عام 1979، التي قادها رجل دين شيعي، تُعرف باسم "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" ورسمياً، 99.5٪ من سكانها البالغ عددهم 89 مليون نسمة هم من المسلمين. لكن في عام 2021، كشف استطلاع للرأي أجرته مجموعة Gamaan الهولندية للأبحاث عبر الإنترنت أن حوالي نصف المشاركين الإيرانيين البالغ عددهم 50,000 قالوا إنهم تخلّوا عن تديّنهم أو غيروا ديانتهم. أقل من الثلث تم تحديدهم على أنهم شيعة، وهي الطائفة الإسلامية الحاكمة. وعلى الرغم من حظر البلاد للنشاط التبشيري، فإن الاهتمام بديانات البلاد غير المسلمة، مثل الزرادشتية والبهائية، في تزايد، ويقول المبشرون الإنجيليون في إيران إن المسيحية تزداد هناك بشكل أسرع من أي بلد آخر، ويعتقد شهريار آهي (Shahriyar Ahy)، أحد الخبراء الإيرانيين" أن إيران هي أول "مجتمع ما بعد الإسلاموية".
في جميع أنحاء العالم الإسلامي، تعرّض رجال الدين، الذين كانوا يُعتبرون فئة لا يمكن المساس بها، إلى السخرية في السنوات الأخيرة بسبب جشعهم ونفاقهم، كما أثارت الإعفاءات الضريبية، وعمليات تخصيص الأراضي، وأشرطة الفيديو الجنسية المثلية لبعض رجال الدين في دول، من ضمنها إيران والعراق وباكستان، موجة من الغضب الشعبي، وقد حاول بعض علماء الدين التكيف، إما عن قناعة أو في محاولة للحفاظ على مكانتهم، ففي المغرب، قام عبد الرحمن طه، الذي يُعتبر على الأرجح أكثر الفلاسفة تأثيراً في العالم الإسلامي، في الجمع بين النزعة الإنسانية والقواعد الأخلاقية للإسلام.
أما المؤسسات التي كانت في السابق منسجمة مع الإسلام، مثل العائلة المالكة السعودية، فقد أصبحت أكثر مرونة، حيث تخلّى وليّ العهد والحاكم الفعلي للمملكة، محمد بن سلمان، عن اعتناق عائلته للوهابية والذي دام 250 عاماً. (الوهابية هم أتباع محمد بن عبدالوهاب وهو رجل دين من القرن الثامن عشر دعا إلى التمسك بأصول الدين الإسلامي). أعلن ابن سلمان نفسه مُجدِّداً للدين، وفي عام 2018، في استطلاع أجراه العام الماضي جيمس زغبي (James Zogby)، خبير استطلاعات الرأي الأمريكي، قال إن أكثر من ثلثي الشباب في الشرق الأوسط يريدون جعل المؤسسات الدينية مؤسسات عصرية.
وقد زاد التسامح الديني على نطاق واسع بين البلدان الإسلامية، فعلى مدى العقد الماضي، قامت أكثر من اثنتَيْ عشرة دولة مسلمة باستضافة البابا فرانسيس، وقامت مصر والإمارات العربية المتحدة والمغرب بتجديد المعابد اليهودية أو بناء معابد جديدة. وفي العراق، تم افتتاح مركز للحوار بين الأديان قبالة أبواب أقدس ضريح للشيعة في النجف.
لقد رافق الإصلاحَ الاجتماعيَّ تراجُعٌ في الحماس الإسلامي، ففي السعودية، جاء الضغط من السلطات العليا، لكن العديد من المواطنين رحّبوا بالسياسات الجديدة، فلم تعد الآن المساجد هي الفضاءات الوحيدة التي تجمع الناس بشكل جماعي وإنما برزت في المملكة منافسة من خلال إقامة الحفلات الموسيقية التي تضم نجوماً بارزين، والمهرجانات المخصصة للأفلام السينمائية، والفعاليات الرياضية لجذب الانتباه الشعبي. لم يَعُدْ هناك فصل بين الرجال والنساء في الجامعات والمكاتب والمطاعم، كما دفعت الضرورة الاقتصادية النساء إلى شغل وظائف كانت تقليدياً حكراً على الرجال، من رعي الماشية إلى قيادة سيارات الأجرة. في الوقت نفسه، ألغى البرلمان التونسي في عام 2017 حظراً مبنياً على التعاليم الشريعة يُمنع بموجبه النساء المسلمات من الزواج من رجال غير مسلمين.
يتم الترويج لتغييرات أخرى من قِبل المسلمين العاديين، إنْ لم يكن من قِبل النخب، فقد شهدت إيران احتجاجات جماهيرية من أجل حقوق المرأة العام الماضي؛ وقد قتل النظام 500 شخص كرد فعل على تلك الاحتجاجات. لقد أصبحت معدلات الطلاق في دول الخليج المحافظة سابقاً تتجاوز تلك الموجودة في العديد من الدول الغربية، وكما يقول علماء الاجتماع، يعود ذلك إلى تأخير الناس للزواج كنتيجة للصعوبات الاقتصادية، وبالتالي أصبح الجنس قبل الزواج أكثر انتشاراً في المنطقة.
لقد تعثر الإسلام السياسي خلال العقد المنصرم الذي شهد تزايد تأثير العولمة على القواعد الاجتماعية والثقافية، ولكنه في عام 2011، عاد ليزدهر خلال فترة ثورات الربيع العربي، ولكن بحلول عام 2019، كان المتظاهرون في الجزائر وإيران والعراق ولبنان والسودان يطالبون بدولة مدنية، وفي عام 2021، صوّت المغاربة لإخراج رئيس وزراء إسلامي وحزبه من السلطة.
يعكس هذه الرفض للإسلام السياسي مدى تواضع الجهود التي بذلها السياسيون من الإسلاميين لمعالجة الكساد الاقتصادي المتجذّر في البلدان التي تولّوا فيها السلطة، ففي مصر وغزة وتونس، انخفض دخل الفرد في الشعوب الواقعة تحت حكمهم وازدادت البطالة؛ وانخفض الاستثمار الأجنبي، كما أن إدلب، الواقعة تحت حكم جماعة إسلامية جهادية في شمال غرب سورية، هي من بين أفقر المحافظات في البلاد. صحيح أن الكساد ليس دائماً من صنع الإسلاميين أنفسهم، لكنهم وعدوا بأن "الإسلام هو الحل"، وهو ما لم يتحقق.
في دول مثل مصر، أدت القوة العسكرية إلى إزاحة الإسلاميين من السلطة، (ولم يحزن عليهم الناس نتيجة الإحباط الشعبي المسيطر). وفي كل من السعودية والإمارات، تم حظر الإخوان المسلمين، أقدم حركة إسلامية في العالم، وفي العام الماضي، سجنت تونس راشد الغنوشي، الإسلامي الذي شغل منصب رئيس برلمان البلاد. لقد أثارت مظاهر التدين العلني استياء الحكومات أيضاً، ففي أيلول/ سبتمبر، حظرت مصر النقاب، أو تغطية الوجه، في المدارس.
انخفضت وتيرة التحركات الجهادية القتالية بالتوازي مع أفول نجم الإسلام السياسي، فمنذ عام 2001، شنت الحكومات الغربية "حرباً على الإرهاب"، وبعد عقدين من الزمان، أصبحت العمليات الجهادية الضخمة في معظم أنحاء العالم في حكم المنتهية، ففي سورية والعراق، قام تحالف بقيادة أمريكية بتدمير خلافة الدولة الإسلامية لتنظيم (داعش)، وهي منطقة بحجم بريطانيا كانت تأوي وتدرب عشرات الآلاف من المقاتلين. منذ عام 2019، انخفضت الهجمات الجهادية في سورية من أكثر من 1000 هجوم في السنة إلى حوالي 100.
تمكنت حركات إسلامية أخرى من كبح جماح تصرفاتها من أجل المحافظة على تواجدها، وكان فرع القاعدة في سورية أحد هذه الأمثلة. لسنوات، بدا أن حركة حماس، على الأقل ظاهرياً، جزءٌ من هذه الحركات التي خفضت نشاطاتها القتالية، حيث توقفت عن تنفيذ تفجيرات انتحارية في إسرائيل وأصدرت في عام 2017 ميثاقاً جديداً خلا من معاداة السامية الصريحة التي كانت موجودة سابقاً وخلعت العديد من النساء في مدينة غزة الحجاب. تكمن السخرية في أن إسرائيل، في محاولة لتقسيم الفلسطينيين، دعمت في الواقع واحدة من آخر معاقل الإسلاميين في المنطقة وتعايشت مع حكمها، ولكن الهجمة العنيفة التي قامت بها حماس في جنوب إسرائيل دمرت أي وهم بإمكانية التعايش المشترك.
كيف سيتطور الإسلام السياسي رداً على الحرب في غزة؟ من الممكن أن يظهر جيل جديد من المتطرفين، فالمشاكل الاقتصادية، وسوء الحكم، والاستبداد كلها توفر أرضاً خصبة لعودة محتملة للتطرف. ليبيا، ولبنان، واليمن هي بالفعل دول فاشلة، وأكثر دول الشرق الأوسط كثافة سكانية، هي مصر وإيران، وكِلتاهما غير مستقرة اقتصادياً.
يقول أحمد أبو الدوح، محلل مصري من تشاتام هاوس، وهو مركز أبحاث بريطاني، إن حرب غزة قد تكون حبل النجاة لجماعة الإخوان المسلمين، ومن الممكن أن تتسبب حماس، خارج الحكومة، في إحداث المزيد من الخراب، كما أن لهيب الأيديولوجيا تتّقد بين شعوب مختلف دول العالم الإسلامي، فالإسلاميون المتشددون يسيطرون في أفغانستان وفي شرق سورية تزيد سيطرة الفصائل الإسلامية كلما تراجعت سيطرة الأكراد وكذلك يسيطر إسلاميون متشددون على الكثير من منطقة الساحل الإفريقية ويتوسعون في أجزاء أخرى من القارة السمراء، ويقول راجان بسرا (Rajan Basra) من قسم دراسات الحرب في لندن: "من السابق لأوانه الاحتفال بنهاية الجهادية".
تحاول الحكومات في الشرق الأوسط قمع أي عودة محتملة للإسلام السياسي ويرى العديد من الحكام المسلمين أن عودة الإسلام السياسي تشكل تهديداً لهم بقدر ما هو تهديد للغرب. قد يدعمون حتى هدف إسرائيل في تدمير حماس، وإن لم يكن بوسائلها التي تستخدمها. في الحقيقة لم تَقُمْ أي دولة من تلك التي قامت بالتطبيع مع إسرائيل بقطع علاقاتها مع الأخيرة، ولم تَدْعُ تلك الدول أمريكا لمغادرة قواعدها الإقليمية، وقد حظرت معظم دول الخليج الاحتجاجات والخطب التضامنية مع الفلسطينيين. حتى قطر، المُدافِعة عن حماس وحركات إسلامية أخرى، عرضت طرد الإسلاميين إذا طلبت حليفتها، أمريكا ذلك، كما تراجعت إيران ومحور المقاومة عن القتال وتركت الجماعة تقاتل بمفردها.
مع ذلك، سيكون من الخطأ اعتبار الصمت موافقة ويجب "الحذر من الهدوء"، كما يقول علي باكير، خبير في الإسلام السياسي من المجلس الأطلسي (Atlantic Council)، وهو مركز أبحاث أمريكي. ويضيف باكير أن الهدوء يمكن أن ينذر بالانفجار القادم. الإسلام السياسي عادة يعود بقوة، فقد احتفل الكثيرون بموت الجهادية بعد مقتل أسامة بن لادن في عام 2011، ولكن مع ذلك، بعد عامين فقط، اجتاحت الدولة الإسلامية (داعش) الشرق الأوسط.
قد تؤدي الإطاحة بحماس في غزة إلى هدوء قصير الأجل، ولكن مع مرور الوقت، قد يتسبب ذلك في نشر أفكارها ومقاتليها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وقد يتطور الإسلام السياسي نفسه إلى شيء أقل طائفية مع انتشاره، مما قد يجمع بين أتباع السنّة والشيعة، ولكن قد تتصاعد عسكرته. يقول أندرو هاموند (Andrew Hammond) من جامعة أكسفورد: "إن العالم يحلم إذا كان يعتقد أن زمن الإسلام السياسي قد ولّى".
وللحفاظ على هدوء الإسلام السياسي بشكل معقول، يجب علاج الخلاف بين إسرائيل والفلسطينيين، فينبغي على الأنظمة الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة أن تتصدى بشكل عاجل للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي يتغذى عليها الإسلاميون، ويمكن لدول الشرق الأوسط الغنية بالنفط تبني سياسات توفر الحرية الفردية بدلاً من الحرية السياسية. ولكن الدول الأقل ثراءً لا تستطيع تحمّل تكاليف الحماية الاجتماعية التي يتعهدون بتوفيرها. مع ذلك، فإن الامتناع عن التعامل مع الإسلاميين لن يحلّ المشكلة، فكثيراً ما ازدهر الإسلام في عالم متعدد الأديان، ويمكن لذلك أن يتكرر.
ترجمة: عبد الحميد فحام
المصدر:( مجلة الإيكونوميست )