قرار حصر السلاح بيد الدولة: لبنان في قلب المواجهة الإقليمية

قرار حصر السلاح بيد الدولة: لبنان في قلب المواجهة الإقليمية

2025-08-19
91 مشاهدة
Download PDF

يعيش لبنان اليوم على وَقْع قرار استثنائي اتخذته حكومته في مطلع أغسطس 2025، ويقضي بتكليف الجيش بإعداد خُطّة عملية لحصر السلاح بيد الدولة.  

 القرار بَدَا وكأنه إعلان سيادي غير مسبوق منذ اتفاق الطائف، ويمثل لحظة فارقة في مسار العلاقة بين الدولة والقوى المسلحة غير الشرعية، وفي مقدمها حزب الله.  

الخُطوة لم تُطرح هذه المرة في سياق نقاش نظري أو في إطار حوار وطني طويل الأمد كما كان يحدث في محطات سابقة، بل جاءت بصيغة قرار رسمي واضح، مدعوم بخطاب سياسي مباشر يؤكد ألَّا مجال بعد اليوم لبقاء لبنان أسير المعادلات المفروضة من الخارج أو لهيمنة السلاح على قرار الدولة.  

المسؤولون اللبنانيون رفعوا هذه المرة   سقف خطابهم إلى مستوى غير مألوف، إذ أعلنوا بوضوح رفضهم التدخُّلات الخارجية، في إشارة خاصة إلى إيران. هذه اللهجة الجديدة تعبّر عن رغبة في فتح صفحة مختلفة مع المنطقة والعالم، وترك الماضي المليء بالحروب والتجاذُبات. ومع ذلك، فإن هذا التوجه، على أهميته، سرعان ما ارتبط مباشرة بالصراعات الإقليمية، لأنّ أيّ مَسْعًى لحصر السلاح في الداخل اللبناني يصطدم تلقائياً بمصالح إيران الإستراتيجية وبموقع حزب الله في المعادلة.  

حزب الله أمام مأزق داخلي   

منذ لحظة صدور القرار، وجد حزب الله نفسه أمام معضلة حقيقية، فقبول القرار وتنفيذه تدريجياً يعني السير في مسار لا رجعة فيه، يبدأ بالتخلي عن السلاح الثقيل شمال الليطاني، وقد ينتهي بوضع السلاح الخفيف على الطاولة، الأمر الذي يعتبره الحزب مساساً بجوهر وجوده، أما المواجهة المباشرة مع الدولة فتعني عزلة داخلية وتدويل الملف بطريقة قد تُفقده الكثير من رصيده.  

خطاب الأمين العامّ للحزب نعيم قاسم عكس هذا المأزق بوضوح، فقد سعى إلى تحويل القرار من "تكليف ملزم" للجيش إلى ورقة تفاوضية قابلة للصياغة، مع وضع شرط عملي شِبه مستحيل هو وقف الاعتداءات الإسرائيلية قبل أي بحث في موضوع السلاح، ويبدو أن الحزب أراد بهذه الطريقة شراء الوقت، أو أن يؤجل النقاش إلى ما بعد تبدُّل البيئة الأمنية في المنطقة [1] .  

وفي الوقت نفسه، أعلن الحزب بالتفاهم مع حركة أمل تأجيل خيار النزول إلى الشارع، وهو ما يعني رفع سقف الخطاب السياسي دون كلفة أمنية، وفتح الباب أمام مساومات داخلية حول نص القرار وخريطة الطريق، وتثبيت وحدة الموقف الشيعي في مواجهة أي محاولة للاستثمار في التباينات.  

على الصعيد العملي، اكتفى الحزب بتحرُّكات محدودة كتسيير مواكب دراجات نارية أو تنظيم تظاهرات رمزية، بينما حافظ على مشاركته في الحكومة، محاولاً أن يوازن بين الاعتراض السياسي والتفادي الكامل لأي صدام مباشر.  

وفي خلفية المشهد، تبدو خشية الحزب واضحة من أن يؤدي القرار إلى مسار طويل يبدأ بالتفكيك التدريجي لسلاحه وينتهي بإعادة صياغة موقعه في النظام اللبناني، وربما دفعه في اتجاه مسار تطبيع "سياسي – أمني" مع إسرائيل، وهو ما يراه خطّاً أحمر لا يمكن تجاوُزه.  

زيارة لاريجاني ورسائل طهران   

وفي خِضَمّ هذا المشهد، جاءت زيارة أمين عامّ المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى بيروت في الأسبوع الثاني من أغسطس 2025 لتزيد من رمزية المرحلة.  

 الزيارة الأولى لمسؤول إيراني بهذا المستوى منذ فترة طويلة لم تكن مجرد محطة بروتوكولية، بل بدت وكأنها محاولة مباشرة لإعادة تثبيت الحضور الإيراني في لبنان بعد التطوُّرات الكبرى التي شهدتها المنطقة، من سقوط نظام الأسد في سوريا، إلى استهداف البرنامج النووي الإيراني، وصولاً إلى المواجهات العسكرية مع إسرائيل.  

لاريجاني حرص منذ لحظة وصوله على إرسال إشارات متعددة، إلقاؤه التحية على مستقبليه في طريق المطار عكس شعوراً بأنه يقف بين جمهوره الطبيعي لا في دولة أجنبية، فيما جاءت تصريحاته لتؤكد أن حزب الله هو رأس مال قوة لبنان، وأنه لا يمكن تجاوُز دوره في أيّ تسوية داخلية.  

 حاول لاريجاني أن يمنح الزيارة طابعاً دبلوماسياً عَبْر الحديث عن عدم تدخُّل إيران في الشؤون اللبنانية، لكنه في الوقت نفسه وجّه انتقادات مباشِرة لواشنطن، وعقد سلسلة لقاءات مع قوى وشخصيات محسوبة على المحور الإيراني، في رسالة واضحة مفادها أن طهران ما زالت صاحبة كلمة وازنة في الداخل اللبناني  [2] .  

الأهم أن الزيارة بدت وكأنها تهدف إلى تعطيل -أو على الأقل- تأجيل مفاعيل القرار الحكومي، فإيران، وإن كانت تدرك أن القرار يحظى بدعم خارجي كبير، إلا أنها سعت عبر مبعوثها إلى فتح الباب أمام مساومات جديدة، أو على الأقل إلى كسب الوقت بانتظار ما ستسفر عنه المفاوضات الإقليمية. بهذا المعنى، لم يكن لاريجاني يزور بيروت على أنه مسؤول عادي، بل موفَد يحمل مهمة محددة: تثبيت خطوط النفوذ ومنع انزلاق لبنان إلى مسار يُضعف أوراق طهران في لحظة إقليمية حسّاسة.  

في المقابل، لم يكن الحضور الإسرائيلي بعيداً، ففي التوقيت نفسه تقريباً ظهر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في جولة على الجبهة الجنوبية [3] ، مطلقاً رسائل بأن إسرائيل لن تتراجع خُطوة قبل تفكيك البنية العسكرية لحزب الله. بذلك، وجد اللبنانيون أنفسهم أمام مشهد مزدوج: مسؤول إيراني رفيع يزور بيروت معلناً دعم المقاومة، وقائد عسكري إسرائيلي يجول على الحدود ملوِّحاً باستمرار المواجهة. وكأن لبنان أعيد مرة أخرى إلى موقع "الساحة"، على الرغم من كل محاولاته للابتعاد عن لعبة المحاور.  

السيناريوهات المحتملة   

أمام لبنان اليوم مجموعة من السيناريوهات المتباينة، تتراوح بين التفاؤل الحذر والتشاؤم المفرط، مع بقاء احتمال وسط يبدو الأكثر واقعية:  

السيناريو الأول: وهو الأكثر تفاؤلاً، يقوم على أن تنجح الدولة في المضيّ بخطتها خطوة بعد أخرى، بحيث يتم تنفيذ القرار المتعلق بحصر السلاح ضمن إطار زمني مَرِن، مع تجديد الثقة بالجيش وتوسيع الدعم الدولي له. في هذا السياق، يجري التركيز على نزع السلاح الثقيل شمال الليطاني، بما يسمح بتقليص المخاطر المباشرة من دون الدخول في صدام شامل مع حزب الله. هذا المسار، إن تحقق، سيمنح الدولة زخماً سيادياً ويفتح الباب أمام تحصين الإنجازات تدريجياً، خاصة إذا ترافق مع انتخابات نيابية تُترجم سياسياً هذا التوجه.  

السيناريو الثاني: أكثر تشاؤُماً ويقوم على تعطيل العملية بالكامل، في هذه الحال قد ينجح حزب الله مدعوماً من إيران في تحويل القرار الحكومي إلى مجرد ورقة تفاوضية تُستنزف في المساومات الداخلية والخارجية، عندها يصبح الجدول الزمني حبراً على ورق، وتبقى الدولة عاجزة عن التنفيذ الفعلي.  

 هذا السيناريو، وإن بَدَا بعيداً في ظل الإصرار الدولي الحالي، إلا أنّه يظل وارداً إذا تراكمت الضغوط أو إذا تعرّض الداخل لهزّات تعطل مسار التنفيذ، خصوصاً أن الحزب يملك أدوات قادرة على شلّ المؤسسات ومنع إتمام القرارات المصيرية.  

السيناريو الثالث: وهو الأكثر منطقية وربما الأكثر احتمالاً في ضوء التجاذبات القائمة، فيتمثل بحالة وسطية: أي إخضاع القرار لمسار زمني غير محسوم، بحيث يبقى التنفيذ مرهوناً بظروف ميدانية وسياسية متغيرة، وهذا يعني عملياً أن لبنان قد يدخل مرحلة "الاختبار"، حيث يُراقب المجتمع الدولي حجم التقدم ومدى قدرة الجيش على فرض حضوره، فيما يبقى حزب الله ممسكاً بجزء من أوراق القوة بانتظار ما ستؤول إليه المفاوضات الإقليمية.  

هذا السيناريو لا يحسم المواجهة لصالح أيّ طرف، لكنه يضع لبنان في موقع المعلَّق بين مشروعين: مشروع الدولة الساعية إلى بسط سيادتها، ومشروع الحزب الذي يحاول حماية مكانته الإستراتيجية بانتظار نتائج التوازُنات الإقليمية.  

خُلاصة  

تتقاطع كل المعطيات عند نتيجة واحدة: لبنان يقف على عتبة مرحلة مفصلية، فقرار حصر السلاح بيد الدولة لا يُختصَر بمجرّد تكليف إداري للجيش، بل يعبّر عن إرادة سياسية داخلية مدعومة من الخارج لتغيير قواعد اللعبة.  

 زيارة لاريجاني جاءت لتؤكد أن إيران لن تقف متفرجة، وأنها ترى في لبنان ساحة أساسية في صراعها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وفي المقابل، لا تخفي تل أبيب نيتها في ربط أي انسحابات أو استدامة التهدئة بمدى نجاح الدولة اللبنانية في تفكيك بنية حزب الله العسكرية.  

هكذا يجد لبنان نفسه بين مشروعين متناقضين: مشروع الدولة الساعية إلى السيادة الكاملة وحصر السلاح بيدها، ومشروع الحزب الذي يربط مصيره بمصير الصراعات الإقليمية، والسيناريوهات المطروحة مهما تباينت، تؤكد أن المرحلة المقبلة لن تكون سهلة، وأن لبنان سيظل ميدان اختبار لإرادة الداخل وقدرته على التماسك، ولحدود التدخل الخارجي وموازين القوى الإقليمية.  

 النتيجة النهائية لا تزال مفتوحة، لكن المؤكَّد أن ما بعد قرارَيْ آب وزيارة لاريجاني لن يكون كما قبلهما، وأن الأسابيع المقبلة ستحدد ما إذا كان لبنان على طريق استعادة دولته، أم أنه سيعود مجدَّداً رهينة لعبة المَحاور.  

 


[1] نعيم قاسم: حزب الله لن يسلم سلاحه مع استمرار عدوان إسرائيل، الجزيرة نت، 5 أغسطس 2025، الرابط               

[2] الحضور الإيراني في لبنان: رسائل ردع أم رسائل تفاوض، النشرة، 16 أغسطس 2025، الرابط  

[3] رئيس الأركان الإسرائيلي من جنوب لبنان: حققنا إنجازات غير مسبوقة، ولن نسمح بعودة التهديدات، موقع جنوبية، 13 أغسطس 2025، الرابط