الموقف التركي من الحرب على غزة
2023-10-271382 مشاهدة
في ساعات صباح يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بدأت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس تنفيذ عمليات عسكرية شاملة وغير متوقعة ضد المناطق التي تحتلها إسرائيل. هذه الخُطوة المفاجئة لحماس، التي استولت على مناطق كثيرة في وقت قصير، دمرت الكثير من الأساطير حول قوة إسرائيل، وهزّت التوازنات الإقليمية، ومع اشتداد الصراع والهجمات الإسرائيلية، تباينت مواقف الدول، ونسعى في هذه المقالة لنناقش الموقف التركي الذي كان محل جدل في الأوساط العربية.
سياسة تركيا تجاه القضية الفلسطينية:
تتميز سياسة تركيا تجاه فلسطين بخلفية مؤسسية مستقلة عن الحكومات، وبهذا المعنى فإن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس على حدود عام 1967 والاعتراف بها من قِبل الجهات الدولية الفاعلة يُشكِّل أساس وجهة النظر التركية بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إضافة إلى ذلك تسعى أنقرة دائمًا للحفاظ على العلاقات مع إدارات تل أبيب، فهي أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل، وفي التسعينيات بشكل خاص، عندما كان الجيش نشطاً ومتحكماً في السياسة التركية، تعمق التعاون الأمني بين تركيا وإسرائيل. على الرغم من أن الهجوم الذي شنه جنود إسرائيليون على سفينة مرمرة الزرقاء التي كانت تحمل مساعدات إنسانية إلى غزة في عام 2010 قد أضرَّ بالعلاقات الثنائية، إلا أن الطرفين تصرفا بشكل عملي وأوصلا العلاقات إلى عملية التطبيع في السنوات الأخيرة، والتقى نتنياهو والرئيس أردوغان في البيت التركي في نيويورك.
عمليات 7 أكتوبر والخطاب التركي:
بالتأكيد يمكن القول بأن الهجمات التي شنتها إسرائيل على غزة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول قد أضرت بالعلاقات الثنائية بين إسرائيل وتركيا، أعلنت تركيا للجمهور من خلال العديد من المسؤولين أن الهجمات يجب أن تتوقف في أسرع وقت ممكن، وقد صرحت نخب سياسية وبيروقراطية رفيعة المستوى، وخاصة الرئيس أردوغان ووزير الخارجية هاكان فيدان، بأن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في غزة، وأن نتنياهو ارتكب جرائم حرب، علاوة على ذلك ذكر المسؤولون الأتراك أنه يجب محاكمة إسرائيل في المحاكم الدولية بسبب مهاجمتها المتعمدة للمناطق المدنية مثل المستشفيات ومخيمات اللاجئين والمدارس. وعندما نحاول تحليل خطاب تركيا وتصريحاتها منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، كما ألقى أردوغان اللوم بشكل كبير على الجهات الفاعلة الدولية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية باعتبارها داعمة لإسرائيل دون قيد أو شرط، كما أشار الرئيس التركي أردوغان إلى أن التوصل إلى وقف لإطلاق النار في أقرب وقت ممكن هو الخيار الأكثر منطقية للاستقرار الإقليمي، ومن ملاحظة الموقف التركي، يمكن القول: إن أنقرة تحاول إعطاء رد فعل سياسي معقول قدر الإمكان، إلا أنه بدا وكأنه موقف ضعيف في الأوساط العربية مقارنة مع عِظَم الأحداث، ولذلك كان محل انتقاد.
تصاعُد الخطاب السياسي التركي مع تصاعُد الهجمات:
ازدادت التصريحات التركية شِدّة مع اشتداد الهجمات الإسرائيلية، على سبيل المثال صرح أردوغان أن إسرائيل لا تتصرف كدولة، لذلك لن يتم معاملتها كدولة، وبالمثل بعد الهجوم على المستشفى، قال أردوغان في خطابه أمام حزب العدالة والتنمية: إن حماس ليست منظمة إرهابية، بل هم مجاهدون يدافعون عن أراضيهم. ولذلك بدأ موقف تركيا وسياستها بعد هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول يتشدد يوماً بعد يوم. واتبع المسؤولون الأتراك، الذين أدلوا بتصريحات أكثر ليونة نسبياً في الأيام الأولى، سياسة أكثر صرامة في تعبيراتهم ولهجاتهم رداً على استمرار الهجمات الإسرائيلية، ويمكن اعتبار فشل تركيا في اتخاذ موقف صارم ضد إسرائيل في بداية الهجمات، وتشديد ردة فعلها مع استمرار تزايُد الانتهاكات، بمثابة انعكاس لإستراتيجية أردوغان الجديدة التي تركز على تقليل التوترات مع مختلف الفاعلين.
فكما هو معروف كانت علاقات تركيا متوترة مع العديد من الجهات الفاعلة الإقليمية مثل مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة خلال الثورات العربية، كما كانت قد خفضت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل إلى مستوى القائم بالأعمال (أدنى مستوى) بسبب حادثة سفينة مرمرة الزرقاء، ومع ذلك مع تغيُّر التوازُنات الإقليمية والتطبيع مع الجهات المذكورة أعلاه، توقفت تركيا عن اتباع سياسات مثل تلك التي تلت عام 2010. وبعبارة أخرى تصرفت تركيا بشكل أكثر براغماتية، وركزت على المكاسب طويلة المدى، ولهذا السبب ذكر العديد من الباحثين أن ردة الفعل تجاه إسرائيل كانت ضعيفة بشكل متوقع، وبينما تحافظ تركيا على سياساتها النشطة، فإنها تتبع سياسات حَذِرة وواقعية قَدْر الإمكان حتى لا تكون في الجانب الخاسر في عمليات التحوُّل الإقليمي.
وتسبب تبنِّي هذه السياسة في انتقاد تركيا من قِبل سكان غزة وفلسطين بشكل خاصّ، والشرق الأوسط بشكل عامّ، وفي واقع الأمر، كانت هذه الجهات تتوقع خطوات أكبر بكثير من تركيا ضد إسرائيل، وعليه فإن المتوقع من تركيا بعد 7 أكتوبر هو اتخاذ موقف واضح إلى جانب المقاومة الفلسطينية، ولذلك فإن الخطاب التركي المعتدل في المراحل الأولى من الصراع خيَّب آمال الكثيرين في الشارع العربي، وبهذا المعنى انعكست في وسائل الإعلام تصريحات مفادها أن تركيا يجب أن تعطي طائراتها بدون طيار لجماعات المقاومة، ومع ذلك يمكن للشركات التي تنتج طائرات بدون طيار، وخاصة بيرقدار، مثل هذه الخطوة يجب أن تمر على القنوات القانونية والدبلوماسية المعترَف بها من خلال طلب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ذلك من تركيا، وهو أمر غير متوقع، ولا يبدو مجدياً ولا واقعياً خاصة مع تصاعُد بعض مواقف المعارضة التركية التي اعتبرت أن حماس جماعة إرهابية.
مع ذلك يمكن ملاحظة ثلاثة مواقف تركية لافتة للنظر.
ثلاث خُطُوات تركية أساسية:
أولاً في الإعلان الذي وقعته جميع الأطراف في الجمعية الوطنية الكبرى التركية، تمت إدانة إسرائيل والدعوة إلى وقف الهجمات، وبالمثل كان من المقرر أن يتوجه وفد مجلس الأمة التركي الكبير إلى فلسطين. ثانياً تشدد أردوغان تدريجياً في موقفه ضد إسرائيل، وأعلن أنه ألغى رحلته المقررة إلى إسرائيل، وفي هذا الظرف الذي تشهد فيه العديد من الدول العربية عملية التطبيع مع إسرائيل قامت تركيا -باعتبارها دولة غير عربية- بتبريد علاقاتها مع إسرائيل على الرغم من التقارب الأخير، مما يُظهر أن أنقرة تهتم بالقضية الفلسطينية، وكانت الخطوة المهمة الثالثة برأينا التي اتخذتها تركيا هي الحملة التوعوية والإعلامية المستمرة ضد الاحتلال الإسرائيلي من خلال أنشطة المجتمع المدني والإعلام. فمنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، قامت جميع وسائل الإعلام المعارضة أو الموالية للحكومة تقريباً بتغطية القضية الفلسطينية من الصباح إلى المساء، وناقش الخبراء ما يجب القيام به ضد الاحتلال الإسرائيلي، وبالمثل قامت جميع المنظمات غير الحكومية، بغض النظر عن أيديولوجيتها وطائفتها، بالعديد من الإجراءات مثل المسيرات والاعتصامات والاحتجاجات أمام السفارات منذ 7 أكتوبر، وعلى الرغم من التدخُّلات القاسية من قِبل الشرطة ضد المتظاهرين، إلا أنه يمكن ملاحظة وقوف المجتمع التركي بشكل واسع النطاق ضد إسرائيل، بالإضافة إلى ذلك تم إطلاق مقاطعة محدودة النطاق ضد الشركات والمؤسسات والجهات التي تدعم إسرائيل.
ومن المتوقع أن يستمر موقف تركيا المتشدد تدريجياً تجاه إسرائيل على هذا النحو إذا استمرت الهجمات على غزة، وفي واقع الأمر صرح دولت بهجلي زعيم حزب الحركة القومية الذي يتحالف معه حزب العدالة والتنمية أن الجنود الأتراك عليهم واجب حماية غزة، في إشارة إلى أن تركيا قد تتخذ خطوات أكثر صرامة ضد إسرائيل، كما بدأ الحديث عن إمكانية تعليق تركيا تعاوُنها مع إسرائيل في مجالات الطاقة والاقتصاد والعديد من المجالات الأخرى، مع ذلك لا تزال ردود الأفعال التركية تقع ضِمن دائرة الإدانات السياسية دون وصولها إلى إحداث تغيير في العلاقة مع إسرائيل.
في حال انخراط إسرائيل في عملية برية ضدّ غزة مع استمرار تكثيف استهداف المدنيين، فقد تتخذ تركيا خُطُوات دبلوماسية وعسكرية وسياسية واقتصادية أكثر صرامة، مع ذلك غالباً ما ستحاول تركيا المحافظة على علاقاتها مع مختلف الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية، والاستمرار في الدعوة إلى وقف إطلاق النار باعتباره توجُّهاً جوهرياً في السياسة التركية.