بريطانيا: إعادة تعريف التطرُّف بما يحاكي النهج الفرنسي المعادي للإسلام
2024-03-29918 مشاهدة
يناقش الكاتب، وهو إمام أمريكي ومؤثر في الأوساط الإسلامية ما يحدث في بريطانيا، حيث يرى أنه في ظل استمرار الهجمات الإسرائيلية الوحشية على غزّة، تُظهر الحكومات الغربية تواطُؤاً واضحاً من خلال محاولاتها لإسكات المنظمات والحركات الإسلامية التي تُندّد بالاحتلال في تلك البلدان، حيث يتم تجريم أحزاب وحركات في بريطانيا تطالب بوقف العدوان، ويتعرض المسلمون البريطانيون لمحاولات تقييد حقوقهم، ويرى أنه لا بدّ لكل المجتمعات -وعلى اختلاف خلفياتها واعتقاداتها- أن تقف صفاً واحداً دفاعاً عن حرياتها.
نصّ الترجمة:
مع استمرار عرض مشاهد الإبادة الجماعية المباشرة التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في غزّة، لا يقتصر تواطُؤ العديد من الحكومات الغربية على الاشتراك المباشر في ارتكاب هذه المذبحة، بل يتجاوز ذلك من خلال المحاولة لإسكات وشَيْطَنة الحركات والمنظمات الإسلامية التي تقاوم الاحتلال الإسرائيلي في تلك الدول الغربية.
في شهر كانون الثاني/ يناير من العام الحالي، قامت الحكومة البريطانية بتصنيف حزب التحرير باعتباره منظمة "إرهابية"، مما يُجرّم الانتماء أو الدعوة إلى دعم الحركة التي تملك عقوداً من تاريخ العمل الدعوي، وبغضّ النظر عن وجهة نظرنا حول الحركة نفسها، إلا أنه من الواضح أن هذا الحظر هو لعبة سياسية سهلة قامت بها الحكومة؛ لأنها لا تحتاج للكثير من الجهد لتبريرها.
في أعقاب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2011، تعرّض حزب التحرير للتهديد المتكرر بالتصنيف كمنظمة إرهابية والمراقبة القاسية في إطار برنامج مكافحة التطرف المتصف بمعاداة الإسلام، والذي تمّ فرضه في المملكة المتحدة تحت اسم مَنْع (Prevent). حاول رؤساء الوزراء السابقون، توني بلير وديفيد كاميرون، حظر الحركة، في عامَيْ 2005 و2010 على التوالي، لكن في كِلتا الحالتين انتهى محامو وزارة الداخلية إلى استنتاج أن الحركة لا تشارك أو تُمَجّد أي شكل من أشكال العنف، ونصحوا بالسماح لها بمواصلة أنشطتها.
لا توجد أي مؤشرات على أن الحركة قد غيرت نهجها تجاه العنف، أو ارتكبت أي جريمة وفقاً للقانون البريطاني، لذلك يبدو أن حظرها الحالي ليس إلّا محاولة تحاكي النهج الفرنسي لتصوير أي حركة إسلامية أو أيديولوجية أو تعبير سياسي يتحدى المعايير الغربية على أنه عنيف وتهديد للأمن الوطني للدول والحكومات الغربية.
هذا الأسبوع، قامت الحكومة البريطانية مجدَّداً بمحاكاة السياسة الفرنسية المناهضة للمسلمين، وأعادت تعريف "التطرُّف" في محاولة صارخة لإخضاع وتهميش المسلمين البريطانيين الذين يتخذون موقفاً مناهضاً للإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزّة.
وفي محاولة واضحة للحدّ من المظاهرات الأسبوعية المؤيدة لفلسطين التي يحضرها مئات الآلاف، ووسط محاولات أوسع لوسم جميع الأنشطة المؤيدة لفلسطين بالتطرُّف، أعلن وزير شؤون التنمية الاقتصادية والإسكان والمجتمعات في بريطانيا مايكل غوف أن الدولة وسّعت التعريف الرسمي للتطرّف.
كشف غوف عن أن "التعريف الجديد سيشمل الترويج أو مناصرة أيديولوجيا تقوم على العنف أو الكراهية، أو عدم التسامح، وذلك بهدف إبطال أو تدمير الحقوق الأساسية لبقية المواطنين، أو تقويض نظام المملكة المتحدة المبني على الديمقراطية والليبرالية والحقوق الديمقراطية أو ازدرائه أو السعي لقلبه، والسعي لخلق بيئة تساعد الآخرين على تحقيق الأهداف السابق ذكرها". وقال غوف أيضاً إن الحكومة البريطانية ستصنف الأفراد الذين "يخلقون بشكل مقصود بيئة تساعد الآخرين على تحقيق الأهداف المشار إليها على أنهم متطرفون".
في حين ركّز التعريف السابق للـتطرُّف على الأفعال العُنْفيّة، إلا أن هذا التعريف الجديد أوسع وأقلّ دقة بكثير، ويبدو أنه قد تمت صياغته عمدًا لفتح الباب أمام تفسيرات مشحونة وذات دوافع أيديولوجية يمكن أن تؤدي إلى تصنيف كل الفكر الإسلامي والعمل السياسي الذي لم توافق عليه الحكومة صراحةً على أنه "تطرُّف". إن إدراج أولئك الذين يفترض أنهم يخلقون "بيئة متساهلة" للسلوك المتطرّف في هذا التعريف أمر خطير بشكل خاص؛ لأنه قد يؤدي إلى التجريم التعسفي لقطاعات كبيرة من المجتمع المدني الإسلامي في بريطانيا.
لقد استخدمت فرنسا على مدار سنوات تعريفاً وفهماً فضفاضاً مدفوعاً بأيديولوجية علمانية لتهميش مواطنيها القادمين من مستعمراتها السابقة وتجريمهم وإخضاعهم، وأغلبهم من المسلمين، واليوم ومع هذا التعريف الجديد الفضفاض والموجَّه أيديولوجياً للتطرُّف، تحاول بريطانيا أن تفعل الشيء نفسه مع المسلمين البريطانيين، الذين يدعمون الفلسطينيين الذين يواجهون الإبادة الجماعية، ويفعلون ذلك بدعم متزايد من بريطانيين آخرين من أصحاب الضمير الحيّ.
إن المجتمع الإسلامي في كل دول العالم، الذي وقف إلى جانب المسلمين الفرنسيين لدى محاولة حكومتهم قمع حقوقهم الأساسية تحت ستار العلمانية، سيكون حازماً أيضاً في دعمه للمسلمين البريطانيين في الوقت الذي تحاول فيه حكومتهم تقليص حقوقهم تحت ستار "محاربة التطرُّف"، وقد أشار غوف خلال خطابه الذي ألقاه الأسبوع الماضي في مجلس العموم، إلى أن عدداً من المنظمات الإسلامية الرئيسية، مثل جمعية مسلمي بريطانيا (MAB)، قد تواجه مشاكل جرّاء اعتماد هذا التعريف الجديد للتطرُّف، ونتيجة لذلك سيتم منعها من الوصول إلى المال العامّ، والوزراء، والموظفين الحكوميين.
ردًا على ذلك قامت جمعية مسلمي بريطانيا، المعروفة بالدور الواسع الذي لعبته في الاحتجاجات ضدّ الحرب في العراق وبتحرُّكاتها في بريطانيا، بإدانة إعادة تعريف الحكومة للتطرُّف كـ "خُطوة غير مبالية لإرضاء اليمين المتطرّف، مستهدفة المنظمات الإسلامية البريطانية الرئيسية"، وطالبت غوف بتكرار الاتهامات بدون حصانة برلمانية حتى يمكنهم رفع دعوى قضائية ضده.
كانت جماعات إعلامية مسلمة أخرى مثل 5Pillars مهدَّدة بالإدراج في قائمة الجماعات المتطرفة التي صنفتها الحكومة، ولكن تم استبعادها في النهاية. كان ردّ ديلي حسين Dilly Hussain، رئيس تحرير 5Pillars، على الاقتراح الأولي بأن منصّته الإعلامية ستكون على قائمة المتطرفين، وقال: "ينبغي على ريشي سوناك ومايكل غوف ومكتب رئيس الوزراء البريطاني، الذين يدّعون بأنهم مناصرون وحامون لـحرية التعبير، عدم تصنيف الصحافيين العاملين في الصحافة الحرّة الذين يختلفون معهم في المعتقدات والآراء واستهدافهم".
منظمات المجتمع المدني المسلمة البريطانية الأخرى مثل أصدقاء الأقصى (Friends of Al-Aqsa)، التي كان لها وجود بارز في الاحتجاجات ضد الإبادة الجماعية الحاصلة في غزّة، ومنظمة كايج (CAGE)، التي قادت الجهود للاحتجاج على قمع فرنسا للحريات المدنية للمسلمين، تواجه أيضاً خطر تصنيفها كمجموعات "متطرفة" بموجب التعريف الجديد، والأمر يصل إلى تعرُّض مسجد رئيسي مثل مركز لويشام Lewisham الإسلامي للتهديد بسبب الإدراج الأولي لإمامه، شكيل بيج (Shakeel Beg).
إعادة تعريف الحكومة البريطانية للتطرُّف يتطلب فحصاً دقيقاً؛ لأنه يشكل محاولة ماكرة وتتصف بالغشّ لتحديد ما يعنيه "التطرُّف" في الواقع، وقد قامت منظمة المشاركة الإسلامية والتنميةMuslim Engagement and Development (MEND)، وهي منظمة غير حكومية معتمدة، بالإشارة إلى ذلك في ردودها على الاتهامات التي وجَّهها غوف حيث قالت: "إن عدم قدرة غوف على تصنيف MEND ضمن قائمة التطرف هو انتصار للمقاومة ضدّ تطرُّف؛ لأن الحقائق على الأرض لم تسمح له بذلك، رغم أنه يفعل كل ما في وسعه لإطلاق الاتهامات مستفيداً من حصانة البرلمان التي يمتلكها".
كمسلمين يجب علينا أن نكون سبّاقين في إدانة الفكر البوليسي المُمارَس على المجتمع المسلم البريطاني، ويتعين علينا أن نعارض بأصوات مرتفعة كل الجهود التي تبذلها الحكومة البريطانية لإسكات المجتمع المدني الإسلامي وتجريمه بسبب جرائم الفكر، وخاصة في الوقت الذي تتواطأ فيه الحكومة ذاتها في الإبادة الجماعية ضدّ المسلمين في غزة، كما يجب أن نتحدث باسم جميع المجموعات والمنظمات التي تواجه مثل هذه الهجمات التمييزية التي لا أساس لها من الصحة، ويشمل ذلك المجموعات التي قد يكون لديها أفكار أو مناهج لا تمثل غالبية المسلمين.
في الوقت الذي تتزايد فيه كراهية الإسلام والتعصب ضد الفلسطينيين، لا يمكننا أن نسمح للحكومة البريطانية باختيار المسلمين الذين لديهم الحق في تطوير الأفكار أو الحملات أو الاحتجاج وانتقائهم، يجب أن نقف بحزم في الدفاع عن جميع إخواننا وأخواتنا في المجتمعات المسلمة في المملكة المتحدة وفي كل مكان، يجب علينا أيضاً أن نُشجّع أعضاء المجتمع المدني البريطاني من كافة الخلفيات العِرْقية والدينية على التحدُّث بصوت مرتفع دفاعاً عن المسلمين في بلادهم الذين يتعرضون حالياً لهجوم متعدِّد الجوانب، ولن نتمكن من منع بريطانيا من التحوُّل إلى حالة تسيطر فيها الحكومة بشكل كامل على حياة الناس وتفكيرهم، ويتم مراقبتهم بشكل دائم ومتكرر، ويتعرضون للتلاعب الإعلامي والتضليل، ويفتقرون إلى حرية التعبير والاختيار، كما فعلت فرنسا مسبقاً، إلا إذا تحدثنا بشجاعة، وقُمْنا بذلك معاً.
ترجمة: عبد الحميد فحام
المصدر: (الجزيرة الإنجليزية)