لبنان في عهد إدارة بايدن
2021-01-223924 مشاهدة
لا يمكن الحديث عن الشرق الأوسط دون أخذ رياح واشنطن العاتية بالحسبان، وهي ليست بالريح الثابتة كما يحلو لبعض الملّمين في السياسة الأميركية أن يعتبروها. فالبعض يرى، ومن بينهم من هم في واشنطن، أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية تجاه الشرق الأوسط لن تتغير خلال ولاية الرئيس المنتخب جو بايدن، وأن هذه السياسة الخارجية قائمة بالدرجة الأولى على الالتزام الأميركي بأمن إسرائيل وتفوقها، ليكتمل المشهد باعتبار اتفاقيات التطبيع العربية الإسرائيلية الأخيرة ستؤثر على المنطقة ومن شأنها أن تضيف عنصرا جيوسياسياً جديداً ومهماً عليها.
لا بد لنا من أن نثبت أن سياسة واشنطن الخارجية الأصل فيها المتغيرات لا الثوابت، منذ عهد بوش إلى ترامب مروراً بأوباما. فجورج بوش بالمفهوم السياسي الخارجي أورث أوباما منطقة مستتبة نسبياً رغم كل حروبه وتدخلاته المباشرة، فأوجد نوعاً من التوازن بين القوى الفاعلة. بينما سياسة أوباما، والذي كان بايدن نائبه، زعزعت مشهداً لم تستطع فهمه أو فهم توازناته مما أخلّ بالتوازنات، وشهدنا تمازج فصول بين ربيع وخريف غائم، حتى جاء ترامب بأسلوب فريد ليُعيد إلى المنطقة بعض التوازن الإقليمي المفقود.
وحين نترقب دخول الرئيس المنتخب جو بايدن إلى البيت الأبيض ونحلل سياسته الخارجية علينا أن لا نغفل عن بضعة وقائع، فبايدن هو من يؤيد سياسة العقوبات على إيران ولكنه أيضاً من الرافضين لاعتبار الحرس الثوري منظمة إرهابية، وهو من المصوتين على حرب أفغانستان وواحد من 77 سيناتور أعطوا التفويض للرئيس بوش لغزو العراق، وهو من مؤيدي حل الدولتين ودعم إسرائيل، وهو من دعاة تقسيم العراق الى ثلاث دول، وهو من مؤيدي إقامة السور (سور ترامب) مع المكسيك إلخ... وهو ما يؤكد أن ساكن البيت الأبيض الجديد براغماتي ومرن، ويتعامل مع التجاذبات والمعطيات.
وقبل أن نستعرض بضعة نقاط في السياسة الخارجية الأمريكية التي يمكن أن تؤثر على الداخل اللبناني، لا بدّ أن نُذكّر بأن الخلافات الداخلية الواهية بين الأحزاب اللبنانية لا تزال تؤخر تشكيل حكومة جديدة تواجه الأزمات التي تعصف بلبان. بالطبع ليس هناك ارتباط مباشر بين الإدارة الأمريكية وعرقلة ملف تشكيل الحكومة، فلبنان ليس في صلب اهتمام الإدارة الأميركية حالياً، ولكن بعد فوز بايدن قد لا يكون هناك اعتراض أميركي واضح وحازم على إشراك "حزب الله" في الحكومة، مما سيسهل عملية تشكيلها.
أبرز تأثيرات السياسة الخارجية الأمريكية على لبنان
1) مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل
واشنطن ستستكمل مساعيها لإنجاز مفاوضات ترسيم الحدود بين البلدين حتى الرمق الأخير، حينها ستزول الضغوط الدولية عن شركات التنقيب وسيسمح للبنان الاستفادة من موارده الطبيعية. ويعد اتفاق الترسيم إنجازاً للسياسة الخارجية الأميركية. ومؤخراً، دخل لبنان وإسرائيل في مفاوضات غير مباشرة لترسيم الحدود البحرية بينهما، برعاية الأمم المتحدة ووساطة أمريكية، على خلفية نزاع بمنطقة في البحر المتوسط تعد غنية بالنفط والغاز، فإما العقوبات أو النفط.
2) سياسة العقوبات
أن انعكاس فوز بايدن على الساحة اللبنانية سيكون طفيفاً، فسياسة العقوبات الاقتصادية تستسيغها واشنطن وستمضي فيها ولن يختلف الوضع عما كان عليه في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وبالطبع سيستمر حصار المساعدات على البلد ومواطنيه وأحزابه بغية تطويع الجميع. وللتذكير فقد بدأت العقوبات على حزب الله في عهد الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، وكان بايدن حينذاك نائبه، واستكملت العقوبات في عهد ترامب. ذلك يشير إلى أن الفريقين الجمهوري والديموقراطي يفضلان هذه السياسة. وخلال الأشهر الماضية، فرضت الخزانة الأميركية عقوبات على أفراد ومؤسسات بتهمة ارتباطهم ودعمهم لجماعة "حزب الله"، فطالت وزير المالية اللبناني السابق علي حسن خليل، ووزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس لتصل إلى الشريك الماروني الأساسي لحزب الله الوزير جبران باسيل مما يوحي بأن المطرقة الأميركية لن تتوانى عن ضرب أي رأس.
3) الأوضاع الاقتصادية وانهيار العملة
يرى الخبراء الاقتصاديون أنه لا يوجد ترابط مباشر بين نتيجة الانتخابات الأمريكية والأوضاع الاقتصادية اللبنانية، خاصة وأن كافة المؤشرات تقول أن نهج الإدارة الأميركية للرئيس بايدن لن يتغير بشكل جذري عن سلفه العنيد حيال الملف اللبناني. فتخفيف العقوبات على حزب الله وبعض الشخصيات القريبة منه قد لا يؤثر على الاقتصاد اللبناني بشكل مباشر، فوحدها مكافحة الفساد الداخلي وتخفيف التشنج السياسي والإسراع بولادة حكومة موثوقة من قبل المجتمع الدولي لإجراء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي هو ما سينعكس إيجاباً على الاقتصاد.
ومنذ أكتوبر الماضي، وعقب اندلاع احتجاجات شعبية في بيروت واستقالة الحكومة، تراجعت قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، فانعكس على أسعار المواد الاستهلاكية الأولية، وتآكل رواتب الموظفين بجميع القطاعات. ومن المعلوم أن إدارة ترامب لم تضع أي فيتو على تقديم مساعدات إلى لبنان عبر صندوق النقد الدولي، وهذا لن يتغير في عهد بايدن، ولكن تشترط الإدارة الأميركية أسوة بالأوروبيين إصلاحات حقيقية وجادة في بنية الاقتصاد اللبناني. فلم يعد مقبولاً دولياً سيطرة المافيات والميليشيات على الدولة ومؤسساتها وتجيير أي دعم دولي لزبانيتهم.
4) مكافحة الفساد
يراهن المقربون من القوى السياسية الموضوعة تحت مجهر قانون ماغنتسكي والذي يختص بمكافحة الفساد على تراجع الضغط الأميركي في هذا الاتجاه مع تغيير الإدارة الأميركية. هم يعتقدون أن المفعول الأول لوصول بايدن إلى الرئاسة الأميركية سيكون وقف العمل بالقانون الحالي، وبالتالي وقف ملاحقة الأسماء المقترحة من قبل الخزانة الأميركية تحت مسمى الفساد.
إنه اعتقاد خاطئ، أولاً لأن قانون ماغنتسكي قد أُقر بموافقة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وثانياً لأن أولويات بايدن في علاقاته مع الدول الخارجية، ستستند إلى مدى مكافحة هذه الدول للفساد في مؤسساتها من أجل مصلحة شعوبها. في أواخر مارس (آذار) 2020 وتحت عنوان "إنقاذ السياسة الأميركية الخارجية بعد ترامب"، كتب بايدن في مجلة "فورين أفيرز"، "من هونغ كونغ إلى السودان، ومن تشيلي إلى لبنان، يذكرنا المواطنون مرة أخرى بالتوق المشترك إلى الحكم الصادق والبغض العالمي للفساد...".
بايدن ربط المساعدات الأميركية لهذه الدول وغيرها ممن سيتعامل معها بمحاربة الفساد، وتعزيز حقوق الإنسان. وفي المقال نفسه، تعهد بايدن بإصدار توجيه رئاسي في السياسة يحدد مكافحة الفساد كمصلحة أمنية وطنية أساسية، ومسؤولية ديمقراطية. وقال "سأقود الجهود الدولية لتحقيق الشفافية في النظام المالي العالمي، ومصادرة الأصول المسروقة وجعل الأمر أكثر صعوبة على القادة الذين يسرقون من مواطنيهم للاختباء خلف شركات واجهة مجهولة.."
5) التقارب مع إيران والعودة لاتفاق نووي جديد
حالياً لا يبدو هناك أي نية لإدارة بايدن الجديدة في تخفيف العقوبات أو القيود المفروضة على إيران وحلفائها، حتى ولو عاودت الولايات المتحدة الانضمام إلى الاتفاق النووي مع طهران، علماً أن عودة الديمقراطيين إلى الاتفاق النووي سيكون بشروط جديدة ستشمل بالطبع التزام إيران بكبح أذرعها في المنطقة وخاصة دعمها حزب الله. وفي قراءة أولية لمواقف بايدن من الاتفاق النووي الإيراني يعكس الرئيس المنتخب اختلافاً في الرأي مع أوباما، بحيث يعتبر بايدن أن الاتفاق النووي مع إيران يجب أن يشمل الصواريخ الباليستية التي يملك حزب الله عدداً منها، كما يجب أن ينص أي اتفاق جديد مع طهران على معالجة وضع المجموعات المسلحة الموجودة في منطقة الشرق الأوسط والمرتبطة بإيران.
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي كتب بايدن في افتتاحية لشبكة سي أن أن: قبل ترمب، مرت سنوات من دون هجوم صاروخي للميليشيات على المنشآت الأميركية في العراق، الآن تحدث بانتظام، وبدلاً من استعادة الردع، شجع ترامب إيران. باختصار يعتبر كثيرون أن بايدن سينطلق في سياسته في الشرق الأوسط وفي لبنان، من النقطة التي انتهى بها ترامب، وليس من النقطة التي ختم بها أوباما عهده، أي أن بايدن لن يعرض ترف أوباما لا على الإيرانيين ولا على حلفائهم، هو ببساطة خبير جداً بالشرق الأوسط ولعله نسخة عن ترامب في سياسته تجاه إيران، إنما بدبلوماسية عالية لطالما تمتع بها الرؤساء الديموقراطيون. وعن سلاح الحزب فإنه من الصعب مشاهدة تغيير في الموقف الأمريكي حول هذا الموضوع، لأنه من الأمور الثابتة بالنسبة لعلاقة واشنطن مع تل أبيب وحماية مصالحها.
خلاصة
يمكن الجزم أن لا أحد يريد للبنان أن ينهار، لا أوروبا ولا الولايات المتحدة، إن زادت العقوبات أو نقصت، لأن لبنان بأقلياته وبلاجئيه إذا انهار سيصبح عبئاً كبيراً على المنطقة وعلى أوروبا، ومن هذا المنطلق فلا يمكن أن نتصور حرباً وفوضى كاملة في لبنان، فليس من المصلحة الغربية أن تحدث فوضى غير منضبة في لبنان في ظل تعاظم نفوذ إيران، أي قوة حزب الله في عدة عواصم إقليمية.
أما بالنسبة للرخاء عقب اتفاق شامل يشمل الخليج وإيران وتركيا فالحقيقة أن لبنان ليس على أولوية الأجندة الأميركية، ولن يكون الملف اللبناني على مفكرة الرئيس في السنة الأولى من عهده. ثم إن الولايات المتحدة الأميركية تعاني من مشاكل داخلية جمّة ومن انقسام داخلي هائل، وبالتالي يحتاج الرئيس إلى التركيز على الشأن الداخلي في محاولة لتقليص أضرار الجائحة على الاقتصاد الأميركي، وتبعات الترامبية الناشئة في الولايات المتحدة والتي تنذر بالسوء على أسس الفدرالية الأمريكية.
ولعل الربط بين الكثير من الملفات المحلية والانتخابات الأميركية في غير محله، وهو نوع من الفوقية اللبنانية التي تجعل بعض اللبنانيين يظنون أننا محور الكون، فالملفات اللبنانية هي ملفات داخلية وحلها داخلي، وقبل تحقيقها لن تصل لبنان أي مساعدات. لكن هذا الحل الداخلي يواجه معضلة أكبر، وهي أن تعود الأحزاب اللبنانية لتصبح أحزاباً داخلية!