إفريقيا بين تطلُّعات استعادة النمو في العام الجديد وتفاقُم أزماتها الموروثة
2022-01-033088 مشاهدة
ودَّعت إفريقيا العام 2021 وهي تعاني من تفاقُم أزماتها الموروثة لأسباب ذاتية وموضوعية، لعل أبرزها هشاشة وضعها الاقتصادي بعد تراجُع مؤشرات النمو بسبب الجائحة الصحية التي كشفت ضَعْف البِنْية الصحية الأساسية في إفريقيا، مما سبَّب تراجُعاً في معدلات تدفُّق الاستثمارات الخارجية، وكذلك التراجع والعجز الديمقراطي بعد اندلاع موجة من الانقلابات في القارة، وتوسُّع رقعة النزاعات المسلحة. لكن هل تستطيع إفريقيا أن تتجاوز هذه الأزمات في العام الجديد وتستعيد قدرتها على النمو مجدداً رغم التحديات؟.
تسببت الجائحة الصحية "Covid-19" في خفض مستوى النمو في إفريقيا جنوب الصحراء إلى 3.3% حسب إحصاءات البنك الدولي، مما جعلها تعاني من أول موجة ركود خلال 25 عاماً. وكشفت الجائحة ضعف البنيات الصحية الأساسية في إفريقيا. وقد أشعل الوضع الصحي في إفريقيا ما يُسمَّى "دبلوماسية اللقاحات"، حيث تسابقت الدول الكبرى في إطار تنافسها الإستراتيجي خاصة الولايات المتحدة والصين إلى تقديم ملايين الجرعات إلى الشعوب الإفريقية.
ويتوقع مع تراجع آثار الجائحة خلال العام الجديد 2022 أن تستعيد القارة بعضاً من عافيتها الاقتصادية، ليرتفع مؤشر النمو الاقتصادي حسب توقعات البنك الدولي إلى حوالَيْ 4%. يثير تراجع الوضع الديمقراطي أو ما يعرف بـ"العجز الديمقراطي" في إفريقيا قلقاً في الدوائر الغربية، خاصة بعد اندلاع موجة من الانقلابات أو انحرافات في نقل السلطة ومخالفة الدستور كما في تونس، والسودان، وغينيا، ومالي، وتشاد، وبوروندي. وحسب الإحصاءات فقد تعرضت 2% من دول القارة لمحاولات انقلابية منذ العام 2013، خاصة بعد تجربتَيْ مصر وزيمبابوي.
ويرى كثير من السياسيين والمثقفين الأفارقة أن مثل هذه الانقلابات ما تزال تُعتبر حسب الإرث السياسي في القارة وسيلة لنقل السلطة، وتُعبِّر عن الصراع الطبقي في المجتمع، والتنافس بين النخب للسيطرة على السلطة والثروة.
ورغم تشديد الاتحاد الإفريقي والتكتلات الإقليمية على فرض سياسات واتخاذ تدابير تصل إلى تجميد العضوية وفرض عقوبات لمناهضة الانقلابات، إلا أنها لم تفلح في محاصرة هذه الظاهرة؛ لأنها في الأساس نتاج لاختلالات السلطة وبِنْية الدولة في إفريقيا، كما أن العقوبات التي يفرضها الاتحاد الإفريقي تعاني من الانتقائية، ففي الوقت الذي جمد فيه مجلس الأمن والسلم عضوية السودان بعد قرارات قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر، سكت الاتحاد عن الانقلاب الدستوري للرئيس التونسي قيس سعيد، كما سكت قبلها على طريقة نقل السلطة المخالفة للدستور في تشاد.
تُسهم القوى الخارجية في تنشيط الانقلابات في إفريقيا، ورغم تسليط الضوء مؤخراً على النشاط السالب لشركة "فاغنر" الروسية في عدد من الدول وتأثيرها على توازنات السلطة مثل ما حدث في مالي، لكن هناك دولاً غربية وإقليمية تُسهم أيضاً في شَرْعَنة الانقلابات للمحافظة على مصالحها الإستراتيجية.
أبرز تحديات القارة الإفريقية لهذا العام الجديد هو استعادة النمو الاقتصادي وتجاوُز آثار الجائحة الصحية، والتي أثرت أكثر على الشرائح الضعيفة في ماكينة الاقتصاد التقليدي، مما يهدد بزيادة معدلات الفقر. ولعل انخفاض معدلات تدفُّق الاستثمارات الخارجية بنسبة 16% خلال العام 2021 بسبب جائحة كورونا يُعتبر التحدي الأبرز، خاصة في تأثيره البالغ على نسبة تشغيل الشباب وتفشي البطالة مجدداً في القارة.
من ناحية أخرى، ورغم أن التراجع الديمقراطي أو ما يسميه البعض "الركود الديمقراطي" في إفريقيا وما تسببه الانقلابات من آثار عميقة في الاقتصاد مثل الفساد والمحسوبية وتراجُع معدلات الاستثمارات الخارجية في القارة يُعَدّ الهاجس الأول، لكن التهديد الحقيقي في تقديري لإفريقيا ليس مجرد الانقلابات التي تقوم بها الجيوش، ولكن انتشار رقعة النزاعات المسلحة.
إذ تعاني 19 دولة في القارة جنوب الصحراء من انتشار نزاع مسلح على أراضيها، مع وجود 20 بعثة سلام دولية في القارة. وتمثل النزاعات في إثيوبيا وجنوب السودان أبرز نموذج لعجز الدول الإفريقية عن فضّ النزاعات ذات الطابع السياسي المرتبط ببناء الدولة القومية في إفريقيا. ويهدد النزاع في إثيوبيا بين الحكومة التي يقودها رئيس الوزراء آبي أحمد وجبهة تحرير تيغراي مجمل الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي. ومع تطورات الأوضاع في الصومال والتململ في إريتريا والأوضاع في جيبوتي والاضطرابات في السودان، فإن القرن الإفريقي يُعتبر برميل بارود قابل للانفجار في أي لحظة، لا سيما بعد تمدُّد نفوذ دول الخليج إلى المنطقة وسباق التسلح في البحر الأحمر.
تُعتبر إفريقيا أبرز الضحايا لقضية تغيُّر المناخ، خاصة مع ازدياد ظاهرة الجفاف والتصحر، كما أنها أقل القارات مساهمة في التلوث البيئي مُقارَنةً بالدول الصناعية الكبرى، ولا تجد إلا الفتات من المساعدات الدولية لإعادة تكييف اقتصادياتها مع السياسات الدولية للتغير المناخي. ولا نتوقع أي نجاح لجهود المجتمع الدولي لمساعدة إفريقيا في الاستجابة لتحديات التغيير المناخي؛ لأنها تتطلب استثمارات ضخمة في إعادة تكييف الاقتصاديات الإفريقية لتَتَّسِق مع المعايير العالمية التي قننتها الاتفاقيات الدولية.
إن العام الجديد 2022 يمثل نافذة أمل لتعافي القارة الإفريقية من الأزمات المتلاحقة التي عانت منها بسبب الركود الاقتصادي وتراجُع معدلات النمو وتفشِّي البطالة وتراجُع الاستثمارات الأجنبية نسبة لجائحة "كورونا" الصحية. وإنْ كان هناك ثَمّة أمل في بعض التعافي الاقتصادي إلا أن تحديات القارة في انتشار النزاعات المسلحة وتمدُّد موجة الانقلابات ربما لن يطرأ عليها أيّ تحسُّن، لأنها نتيجة طبيعية لأزمات بناء الدولة الوطنية وصراعات النخب والطبقات الاجتماعية على الثروة والسلطة في القارة.
إن عودة التنافس الإستراتيجي بين القُوى الدولية على القارة لا سيما الولايات المتحدة والصين يمكن أن يكون عاملاً مساعداً للنمو إذا استطاعت القارة توظيفه لتحقيق مكاسب اقتصادية ملموسة. لكنه في نفس الوقت يمكن أن يكون عاملاً سالباً يعيد أجواء الحرب الباردة ويُحدث انقسامات سياسية عميقة واستقطابات في الدول والمجتمعات الإفريقية.
إن تجربة الشراكات الإفريقية مع عدد من الدول أثبتت نجاعة كبيرة في تحقيق مستويات غير مسبوقة من التعاون الاقتصادي ورفع مستوى التبادل التجاري، ولا شك أن أبرز نموذج هو القمة التركية الإفريقية الثالثة التي عُقدت في إسطنبول في النصف الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2021.
شهد العام الماضي 2021 تزايُداً في الهجمات الإرهابية التي استهدفت المدنيين، حيث ما تزال تنشط في الصومال حركة الشباب التي استغلت الاضطرابات السياسية، وشنت عدداً من الهجمات، ولا شك أن الانقسام المجتمعي العميق والاستقطاب السياسي قبيل الانتخابات بعد الخلافات بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء يجعل الوضع أكثر هشاشة وقابلية للتشظِّي.
وشهدت أجزاء أخرى من القارة أيضاً نشاطاً في الهجمات الإرهابية مثل موزمبيق ونيجيريا ودول الساحل. وشكَّلت الهجمات التي شنتها قُوى التحالف الديمقراطي في أوغندا خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي آخِر فصول العام من الهجمات الإرهابية. ومن الملاحظ أن العمليات الإرهابية ذات الارتباط بالحركات الجهادية قد شهدت انخفاضاً إلا في نيجيريا والصومال، لكنها انحسرت بشكل ملحوظ في مالي والنيجر ودول الساحل. وربما كان للتعاون بين دول المنطقة وجهود المجتمع الدولي -خاصة فرنسا التي نشرت منذ العام 2013 قوات كبيرة لمكافحة الإرهاب في منطقة دول الساحل- دور في ذلك. والأرجح أن هذا الانخفاض في معدلات الهجمات الإرهابية من الحركات الجهادية سيستمر في نفس الاتجاه خلال العام 2022 وذلك مع انخفاض معدلات النزاعات الداخلية المسلحة وتعزيز الاستقرار السياسي وتحسُّن الأوضاع الاقتصادية وإجراء الإصلاحات السياسية والديمقراطية.
رغم تعدُّد أسباب انتشار الحركات الإرهابية، إلا أن غياب الحكم الرشيد، وضعف هياكل الدول وأجهزتها، وانهيار بِنْياتها السياسية والاقتصادية، وضعف قدراتها على استدامة الاستقرار، والصراع على السلطة، والانقسامات العرقية والاثنية، تُعَدّ أسباباً رئيسة لذلك، مما يجعل الاعتماد على المُعالَجات الأمنية فقط غير كافٍ البتّة لمُحارَبة الظاهرة، ولا بُدَّ من الالتفات إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاهتمام بقضايا العدالة الاجتماعية والتعاطي الإيجابي مع الأسباب المُنتجِة للأزمات وضعف انهيار الدول.
رغم التحديات الراهنة تظل القارة الإفريقية هي قارة المستقبل، ليس من حيث الموارد فحسب، لكنها تعتبر أكبر سوق حرّ مشترك يقطنه أكثر من مليار نسمة، تبلغ نسبة الشباب من الكتلة السكانية أكثر من 60%، مما يزيد من رخص الأيدي العاملة ووفرة الكفاءات.
ومع الإصلاحات السياسية الديمقراطية، وتحقيق النمو الاقتصادي، وجهود التحديث في قطاع التعليم، والتركيز على التكنولوجيا، والاهتمام بالقطاعات الخدمية، والاستثمار في البِنْيات التحتية، تبقى إفريقيا هي رهان المستقبل لكل العالم.