"الجهاديون" خارج سجن "المرناقيّة" التونسي.. كيف ولماذا؟

"الجهاديون" خارج سجن "المرناقيّة" التونسي.. كيف ولماذا؟

2023-12-04
1045 مشاهدة

 

في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، استطاع خمسة عناصر جهادية الفرار من سجن "المرناقية" في تونس، والذي يُعَدّ واحداً من أكثر سجونها تحصيناً وتعقيداً وحراسةً، مما أثار تساؤُلات كثيفة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي حول خلفية العمليّة وغاياتها في ظل شكوك تجاه بعض المسؤولين الأمنيين بتسهيل هروبهم، وهو ما يُلاحَظ في رصد أكثر التساؤُلات حول عملية الهروب "هل هي عملية تهريب مرتَّبة أم هروب ناجح مخطَّط له"؟

بعيداً عن هذه التساؤُلات، فقد انعكست العملية على الواقع الداخلي في تونس بشكل واضح، بدءاً من إقالة 18 مسؤولاً أمنيًّا في عدد من أجهزة الدولة، مثل إقالة مدير السجن وإقالة المدير العامّ للمصالح المختصة والمدير المركزي للاستعلامات العامة.

الهاربون والهروب.. ما الحكاية؟

لم يَطُل الأمر بالهاربين حتى ألقت عدة أجهزة أمنية القبض عليهم بشكل متفرِّق، وهم في طريقهم نحو الغرب، مما يشير إلى أن الخطة المتفَق عليها بين الهاربين هي الخروج من السجن والوصول بشتى الطرق المتاحة إلى سلسلة الجبال التونسية على الحدود مع الجزائر- مثل جبال الشعانبي.

يُتّهم الرجال الخمسة بأنهم قياديون في خلية اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في 6 شباط/ فبراير 2013، والقيادي اليساري محمد البراهمي في 25 تموز/ يوليو 2013 إلى جانب التخطيط لعمليات اغتيال أخرى لشخصيات من الحكومة التونسية عام 2014.

بالعودة إلى شخصيات الهاربين فإنه من المرجَّح أن يكون أحمد المالكي الملقّب بالصومالي -لتلقيه تدريبات في الصومال- الشخصية المُخطِّطة للهروب، حيث إنه قاد عملية التخطيط لاغتيال شخصيات حكومية وسياسية عام 2013، بينما يسانده الآخرون بوصفهم أصحاب انتماء فكري وعقدي للتيار الجهادي التونسي[1].

ينتسب الأشخاص الهاربون إلى أيديولوجية حركة "أنصار الشريعة" التي تشكَّلت في تونس عام 2011، وبالرغم من رفض مؤسِّس الحركة أبو عياض التونسي -سيف الله بن حسين- اللجوء إلى العنف في تونس، إلا أن المطاف انتهى به في ليبيا مقاتِلاً.

في إطار ملاحظة تيارات الحركة فإنها مكوّنة من ثلاثة أجيال من الجهاديين التونسيين من أصحاب الخبرات والأفكار المختلفة، بينهم مَن تكوَّن فِكْره الجهادي في أفغانستان إبّان تشكيل تنظيم القاعدة في حين أن آخرين كوّنوا أفكارهم الجهادية بشكلٍ مَا في عدة دول أوروبية كفرنسا وإسبانيا، أما بقيتهم فقد شكّل عقيدته الجهادية أثناء انضمامه لتنظيم التوحيد والجهاد الذي شكَّله أبو مصعب الزرقاوي في العراق، ثم تطوّر إلى تنظيمات لاحقة، آخِرها تنظيم الدولة الإسلامية، وآخرون قاتلوا في سورية وليبيا إلى جانب القاعدة أو تنظيم الدولة.

هنا تبرز ملاحظة في غاية الأهمية، وهي أن المقبوض عليهم من غالب هذه التيارات وجدوا أنفسهم مسجونين معاً منذ 2013 إلى يومنا هذا، وبالتالي فإنه من الخطأ توصيف كثير منهم بأنهم من تنظيم معيَّن، ولعل الأجدى توصيفهم بأنهم الجيل الجهادي الجديد في تونس، ومنهم الهاربون الخمسة الذين سلطت وسائل الإعلام الضوء على قضية هروبهم دون أن تتطرق أي منها لمخاطر "الأكاديميات الجهادية" داخل السجون -في تونس وغيرها على حدّ سواء.

على العكس من مسلسل "الهروب من السجن "(Prison Break) فإن الهاربين من سجن "المرناقية" لم يستخدموا خرائط أو معالق لحفر أنفاق تقودهم خارج السجن، ولا يبدو أن العملية بالغة التعقيد، إذ كل ما استلزمه الأمر بضع قطع قماشية لتحويلها إلى حبل يتدلى من برج المراقبة، وأدوات تقليدية -مبرد- لقطع القضبان الحديدية على نافذتهم المطلة على ساحة السجن والمتصلة بممرّ نحو برج المراقبة.

يبدو المشهد بسيطاً إلى هذه الدرجة، إلا أن الرئيس التونسي قيس سعيّد استغل الحادثة لإصدار قرارات عديدة بعزل مسؤولين في أجهزة أمنية مختلفة، إلى جانب تصريحه بوجود عملية تعاوُن داخلية وخارجية دبّرت عملية التهريب.

وبعيداً عن كون العملية هروباً أو تهريباً إلا أنها تنقلنا نحو مساحة أخرى من التفكير، مثل ارتباط العملية الأخيرة بعملية هروب 4 قيادات من القاعدة من سجن نواكشوط المركزي في 5 من آذار/ مارس 2023.

قاد عملية الهروب من السجن الموريتاني الشيخ ولد السالك، وكان معه في العملية أشبيه محمد الرسول، القياديان في تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وشابّان آخران حاولا الانضمام للقاعدة مطلع 2020.

بالرغم من الحراسة المشددة في سجن نواكشوط، إلا أن الشيخ ولد السالك الذي قاد سيارة مفخخة لتفجير المجمع الرئاسي عام 2011، واخترق بها الحدود المالية الموريتانية وصولاً لنواكشوط، استطاع الفرار من السجن مرتين؛ أولهما في 2015 وأُلقي القبض عليه بعد شهور في غينيا، والثانية في 2023 وما زال طليقاً.

تتشابه عملية الهروب في تونس مع عملية الهروب الموريتانية، فكِلتا العمليتين تمت في سجون مشدَّدة الحراسة، وكلتاهما نُفّذتا مطلع الفجر، ولم يُستخدَم فيها أدوات أو خطط هروب معقَّدة، إلا أن الأولى كانت صريحة بالخروج من الباب الرئيسي للسجن إثر اختطاف أسلحة من بعض العناصر ثم إطلاق النار على حراس البوابة والهرب من خلالها، في حين أن الثانية احتاجت لحبالٍ ومسير طويل في البراري قبل الدخول للمدن والأحياء التونسية.

هل كانت عملية موريتانيا ملهمةً لعملية تونس؟

يمكن القول -بكل تأكيد- إن العديد من المقارَبات والوقائع تتجه إلى إثبات تشابُه سلوكيات التنظيمات الجهادية داخل السجون، بل إن السجون نفسها غالباً ما تتحول إلى "أكاديميّات" لتناقُل خبرات الفكر والعمل الجهادي بين الأجيال المتعاقبة من الجهاديين، ولن يغيب عن البال الإشارة إلى أن أبا بكر البغدادي تلقى الفكر الجهادي بدايةً من سجن بوكا الأمريكي في بغداد، وخرّج مئات الجهاديين بين عامَيْ 2003 و 2009، فكان السجن مدرسة لتنظيم القاعدة، قدّم فيه قياديون ميدانيون دروساً نظرية ودورات مكثفة حول صناعة المتفجرات وتقنيات تشغيلها لمعظم نزلاء السجن الفتيان الأصغر سنًّا.

وليس بعيداً عن هذه الحادثة، كان الجهادي أنيس العمري -منفذ هجوم برلين عام 2016- أحد الذين تلقّوا الفكر الجهادي في سجنه بإيطاليا عام 2011- 2015 على خلفية سرقته سيارة في مدينة بيلباسو الإيطالية.

ختاماً -بالعودة إلى العملية التونسية- فإن ارتباط الهاربين مع الخارج وتنسيقهم -كمرحلة نهائية- للوصول إلى أحد ميادين القتال الجهادي أمر غير مستبعَد، فهم محكومون بأحكام مدى الحياة، وبالتالي لا فرصة لهم في البقاء داخل تونس، كما أن الاستثمار في الهاربين من السجن هو إستراتيجية جهادية ممتدّة منذ بَدْء تأسيس الزرقاوي في العراق لجماعته الجهادية وصولاً إلى تنظيم الدولة في أوضاعه المعاصرة، كما أن إلقاء القبض عليهم لن يُثني مجموعات وأفراداً آخرين عن التخطيط للهروب داخل تونس، خاصة مع تصاعُد أسهُم الحركات الجهادية في إفريقيا.


المراجع:

[1] هم: نادر بن حسن بن محمد الغانمي، وعلاء الدين عبد الرزاق يوسف الغزواني، ورائد عز الدين الأزعر التواتي، وهو متهم بذبح شرطي عام 2014 في جبال الشعانبي قرب الحدود الجزائرية، وعامر الهاشمي بن الحبيب البلعزي.