العراق والبحث عن مصالَحة إقليمية جديدة بين تركيا والنظام السوري

العراق والبحث عن مصالَحة إقليمية جديدة بين تركيا والنظام السوري

2024-06-10
917 مشاهدة

 

أثار حديثُ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال لقاء له مع قناة "خبر ترك" التركية مطلع الشهر الجاري، عن جهود عراقية لتحقيق وساطة إقليمية بين تركيا والنظام السوري -تُنهي حالة القطيعة السياسية بين الطرفين، والتي امتدت على طول السنوات الماضية- العديدَ من التساؤلات حول فرص نجاح العراق في تحقيق مثل هذا المسعى الإقليمي، بالنظر للتعقيدات الكبيرة التي تحيط بالعلاقة بين تركيا والنظام السوري، وتحديداً في مرحلة ما بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011.

حسابات سياسية وراء خُطوة السوداني الأخيرة

مما لا شك فيه أن حكومة السوداني تدرك أهمية النجاح في تحقيق مثل هذا المسعى السياسي الإقليمي، خصوصاً أن السوداني يطمح لتحقيق ولاية ثانية العام المقبل، إذ إنه -وعَبْر تقديم نفسه كصانع للسلام الإقليمي- يسعى لتحقيق نوع من الدعم الخارجي له، في حال تعرض لضغوط داخلية من قِبل القيادات السياسية الشيعية المنضوية ضِمن الإطار التنسيقي، والتي قد تنافسه على رئاسة الوزراء في المرحلة المقبلة.

إن إعلان السوداني عن هذه الوساطة على قناة تركية، مثَّل بشكل آخر رسالة غير مباشرة للداخل التركي، خصوصاً أن هناك تيارات سياسية تركية عديدة، والحديث هنا عن قُوى المعارضة التركية التي قد اكتسبت زخماً سياسياً واضحاً بعد صعودها الأخير في الانتخابات المحلية، وأعلنت في أكثر من مناسبة عن رغبتها تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد بالتوازي مع المساعي الحكومية لتحقيق التطبيع مع الأسد أيضاً، وهو ما قد يشجعها على ممارسة ضغط أكبر على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتفاعل مع مبادرة السوداني، من أجل إنهاء أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، كما أعلنت عن ذلك في أكثر من مناسبة.

ومن جهة أخرى، فإن السوداني يدرك أيضاً أن سحب ورقة النظام السوري من جانبها الأمني إلى الجانب السياسي، عَبْر البَدْء بمسار سياسي يعيد إنتاج تصوُّر جديد للنظام السوري، يمثل بداية الحل، فالانفتاح السعودي، وكذلك العربي على نظام الأسد، لن يكتسب دفعة قوية، إذا بقيت تركيا خارج معادلة الانفتاح، إذ إن استمرار التوتر بين تركيا والنظام السوري، وتحديداً على مستوى الحل السياسي للأزمة السورية، قد يمثل عقدة سياسية تقف عائقاً أمام أي مبادرة سياسية للتوافق بين النظام السوري، وتركيا والدول العربية، وهي مسارات حرص السوداني على التأكيد عليها في مكالمة هاتفية جمعته مع الأسد مطلع الأسبوع الجاري.

تحديات كبيرة تفرض نفسها

إن أبرز تحدٍّ قد يقف بطريق السوداني في تحقيق مثل هذه الوساطة، يتمثل في حالة انعدام الثقة بين تركيا والنظام السوري، إذ لا زالت تركيا تنظر بخشية كبيرة لسلوكيات النظام السوري، وهي مخاوف عبَّر عنها الرئيس أردوغان في أكثر من مناسبة، بل واعتبر أن هذه المخاوف هي أبرز عقدة تقف في طريق الانفتاح على نظام الأسد، خاصة بعد محاولات الوساطة الروسية التي لم تصل إلى نتائج ملموسة، وهو ما يزيد المهمة العراقية صعوبة.

وفي مقابل ذلك، لا زال النظام السوري ينتقد طبيعة الدور التركي في الأزمة السورية، خصوصاً في سياق الدعم الذي تقدمه تركيا لقوى المعارضة السورية، وهي انتقادات حرص نظام الأسد على التأكيد عليها في عدة مناسبات، هذا الواقع سيفرض نفسه بشكل أو آخر على فرص نجاح الوساطة العراقية التي يقودها السوداني بالوقت الحالي.

وما يدلل على مثل هذا الواقع، هو أن زيارة الرئيس أردوغان إلى بغداد منتصف شهر مارس/ آذار الماضي، ومن ثَمّ زيارة رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض إلى دمشق في منتصف شهر إبريل/ نيسان الماضي، من أجل تقريب وجهات النظر بين الجانبين، أكدت على حجم التحدي الكبير، إذ يحرص العراق على ترتيب لقاء بين مسؤولين أتراك وسوريين في بغداد، إلاّ أن التحفظات المتبادلة، وانعدام الثقة بينهما، أفشلت هذه المبادرات حتى الوقت الحاضر.

إن النقطة المهمة التي تجدر الإشارة إليها، هي أنه رغم هذه التحديات الإقليمية والدولية التي ستفرض نفسها في سياق الوساطة العراقية، وتحديداً من قِبل الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن حكومة السوداني من جهة أخرى تحاول القفز على حقائق الجغرافيا المعقدة بين تركيا والنظام السوري، إذ إن التحفظ الذي توليه تركيا ونظام الأسد للورقة الكردية، قد يمثل أرضية مشتركة للتوافق، صحيح أن تركيا ونظام الأسد لا يمتلكان أرضية مشتركة كبيرة لتطبيع العلاقات بينهما، وهو ما أكدت عليه عملية توقُّف مسار التطبيع الرباعي في منتصف عام 2023، بين موسكو وطهران وأنقرة ودمشق، لكن مصالحهما تتوافق بما يكفي لتطبيق بعض المساومات والتسويات لحدودهما المشتركة، ولا سيما في الجغرافيا الواقعة في شمال غرب البلاد. 

والجدير بالذكر أن الاجتماعات بين المسؤولين الأتراك ومسؤولي النظام السوري متواصلة على قدم وساق، قبل وساطة السوداني، لكن الحسابات معقدة للغاية، إذ إن هذه المناطق موضع التفاوض بين الجانبَين قد رسمت معالمها الحرب، أي تُعَدّ جميع العوامل الديموغرافية والأمنية والاقتصادية القائمة هناك تجسيداً لتأثير الحرب، وقد نشهد تبلور سلسلة من التفاهمات الأمنية والاقتصادية حول أجزاء من جغرافيا في شمال غرب سورية، وليس كل الحدود، وذلك بسبب تواجد إيران وروسيا وفواعل مسلحة هناك.

إيران الرابح الأكثر من هذه الوساطة

إنّ أيّ تقارُب قد يحدث بين تركيا والنظام السوري سيمثل جائزة كبرى لإيران، وتحديداً في الساحة السورية، إذ إن مثل هذا التقارب، سيؤدي بشكل أو آخر إلى إعادة تهذيب الدور التركي، وبالشكل الذي يجعله أكثر توافُقاً مع الدور الإيراني في الساحة السورية، ولعل انخراط رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض في سياق هذه الوساطة، وكذلك دعم قُوى الإطار التنسيقي للسوداني، يمثل بشكل آخر دعماً إيرانياً للوساطة العراقية، فما لم تحققه إيران من تركيا عَبْر مسار أستانا، قد تحققه عَبْر الوساطة العراقية، وما يجعل إيران تنظر باهتمام لهذه الوساطة، جعلها بمثابة جزء من مرحلة انتقالية ما بعد رئيسي وعبد اللهيان، حتى تستطيع إعادة ترتيب أوراقها الإقليمية من جديد.

إن نظرة بسيطة لطبيعة المكاسب التي قد تحققها إيران في الساحة السورية، من أي تقارُب بين تركيا والنظام السوري، سيجعلها أكبر الداعمين لمبادرة السوداني، إذ إن مثل هذا التوافُق، سيجعل دورها الإقليمي أكثر تأثيراً، خصوصاً أنها تطمح لجعل هذه المبادرة بمثابة انطلاقة إقليمية للفوز في حصد المزيد من الاستحقاقات السياسية في سياق مبادرة الحل السياسي للحرب في غزة.

إن القبول الإيراني بقيام تركيا بعملية عسكرية تركية مرتقبة في شمال العراق الصيف المقبل، يأتي في سياق توظيف مثل هذه العملية في سياق الوساطة العراقية، إذ تدرك إيران أهمية ربط الاستحقاقات العسكرية التي تطمح تركيا لتحقيقها من هذه العملية، بالاستحقاقات السياسية التي قد تتمخض عن الوساطة العراقية، وبذلك تكون هي الرابح الأكبر من كل التحوُّلات الإستراتيجية التي تجري في سياق العلاقات العراقية التركية السورية، وذلك من أجل التفرغ للاستحقاقات الكبرى التي ستنتج في مرحلة ما بعد الحرب على غزة، حيث سنكون أمام شرق أوسط جديد، تطمح إيران لأن تحجز مكانة متميزة فيه.