الطيران المسيَّر: قاتل صامت غيَّر مسار الحروب
2024-12-1840 مشاهدة
Download PDF
تمهيد
فرض دخول الطائرات المسيَّرة (Drone) توازُنات جديدة ومُقلِقة في الحروب الحديثة لدى الكثير من الدول بما فيها الدول الكبرى، لا سيما أنها أثبتت كفاءتها الميدانية والقتالية والاستطلاعية ضِمن الأسلحة الأساسية والفعّالة في المعارك بمناطق مختلفة من العالم، وأدت مختلف المهامّ القتالية بدقة بما فيها الحروب السيبرانية.
يوفر هذا النوع من الطائرات الكثير من الجهد والوقت، ولا تحتاج إلى تكلفة مادية كبيرة في تصنيعها، إضافة لتوفُّر الموادّ الأولية اللازمة لتصنيعها، وسهولة استخدامها مدنياً وعسكرياً، حيث تُقاد بشكل ذاتي وَفْق تقنيات الذكاء الاصطناعي أو بالتحكُّم عن بُعد بواسطة طيار أو مُشغِّل، كونها مركبات غير مأهولة يمكن توجيهها عن طريق نظام تحديد المواقع GPS.
أثبتت المسيَّرات قدرتها على تنفيذ مهامّ خاصة يصعب على الطائرات المقاتلة أو المروحية تنفيذها في ساحة المعركة، وكانت في بعض المعارك السلاح الحاسم الذي غيَّر النتيجة، على سبيل المثال أوقفت المسيَّرات التركية عام 2020 تقدُّم المركبات المدرعة التابعة لجيش النظام السوري في إدلب.
لقد بدَا واضحاً زيادة حجم الإنفاق العالمي على تطوير المسيَّرات وإنتاجها، وصلت عام 2019 إلى 100 مليار دولار [1] لزيادة الطلب العالمي عليها، فهي صغيرة الحجم وقادرة على تخطِّي الدفاعات الجوية دون كشفها من الرادارات الحديثة.
ربما تزيد تكلفة التصدي للمسيَّرة عن كلفة المسيَّرة ذاتها، فصاروخ الباتريوت تصل تكلفته إلى مليون دولار، وصاروخ القبّة الحديدية تصل تكلفته إلى 50 ألف دولار، بينما تبلغ تكلفة المسيَّرة ما يقارب 500 دولار فقط أحياناً.
استخدمت المسيَّرات لمهامّ التجسُّس وتقديم المعلومات الاستخبارية، بالاستفادة من قدراتها العالية والذكية على التصوير، كما استخدمت لتنفيذ عمليات أمنية وعسكرية معقَّدة وتنفيذ الاغتيالات واستهداف القادة.
أولاً: نبذة عن البداية التاريخية
أطلق الجيش النمساوي عام 1948 أسطولاً من المناطيد المسيرة المحمَّلة بالمتفجرات فوق مدينة فينيسيا لمعاقبة مواطنيها على تمرُّدهم [2] ، ربما يكون هذا الاستخدام الأول لفكرة السلاح المسيَّر جواً، ويعد الفرنسيان "فكتور كافودين" و"جورج ماركونيت" أول مَن اخترع الطائرة دون طيار في مطلع القرن العشرين [3] ، ثم ظهرت أول طائرة دون طيار في إنكلترا عام 1917، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى (1914 - 1917) لتكون الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا أول مَن استخدم المسيَّرات في جيوشهم، ثم استخدمها بعد ذلك الاتحاد السوفياتي في ثلاثينيات القرن العشرين [4] .
توسع استخدام المسيَّرات في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) ثم في الحرب الكورية (1950 -1953) وخاصة في الأغراض التدريبية، واستمر تطويرها واستخدامها مطلع الستينيات [5] ، ثم برزت الحاجة إليها بصورة كبيرة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب الفيتنامية (1964 - 1972) حيث تم تنفيذ أكثر من 3400 طلعة جوية قتالية بطائرات دون طيار فوق شمال فيتنام والصين ومواقع أخرى في جنوب شرق آسيا [6] .
تم استخدم الطائرات المسيَّرة في الصراع بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية وفي جنوب لبنان، خاصة بين عامَيْ 1978 و1982، حيث استخدمت إسرائيل الطائرة المسيَّرة من طراز Tadiran Mastiff التي تزن 90 كيلوغراماً [7] ، بينما استخدم اللبنانيون صواريخ أرض جو من طراز SA - 6 لتدمير المسيَّرات الإسرائيلية، وكان هذا فخّاً استنزف أنظمة الدفاع الجوي اللبنانية، فوصلت الطائرات المقاتلة الإسرائيلية إلى أهدافها بأريحية، وقد عُدَّ هذا الفعل بالدور الجديد للمسيَّرات في عمليات الاستطلاع والمراقبة ورصد الأهداف والخداع العملياتي.
ظهر استخدام المسيرات جليّاً خلال حرب الخليج الثانية في عمليتَيْ "عاصفة الصحراء" و"درع الصحراء" (1990 - 1991)، عندما تم استخدام الطائرة المسيَّرة لأول مرة عسكرياً بوصفها وسيلة للمراقبة [8] من قِبل قيادة القوات البحرية ومشاة البحرية الأمريكية "المارينز" في إدارة ساحة المعركة باستخدامها في الاستطلاع والمراقبة ورصد الأهداف، وتقديم الدعم الناري البحري باستخدام نظام RQ-2A Pioneer .
حدثت طفرة كبيرة في صناعة المسيَّرات واستخدامها حين تم تزويدها بالصواريخ الهجومية، نهاية القرن العشرين وتحديداً في الفترة التي سبقت حرب كوسوفو [9] عام 1999، ثم بدأ عصر جديد من الحروب عام 2002 عندما تم الاعتماد على المسيَّرات في مهام قتالية مختلفة، حيث أطلقت أول مسيَّرة مسلحة من طراز MQ-1B Predator صاروخها من طراز Hellfire على سيارة تقلّ قيادياً من تنظيم القاعدة في اليمن، ليزداد بعدها استخدام المسيَّرات في توجيه مئات الضربات من هذا القَبِيل في باكستان والصومال وأفغانستان والعراق.
أصبحت المسيَّرات أداة حاسمة في الحروب الحديثة مع تسارُع التطورات التكنولوجية التي جسَّدها تقاطُع اتجاهين مهميْنِ في التكنولوجيا العسكرية، هما: الطبيعة الدقيقة للأسلحة المستخدَمة، وصعود الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى أنظمة الطيران المسيَّر، الأمر الذي عزَّز الكفاءة التشغيلية لهذا النوع من الأسلحة الذكية، وساهم في تغيير ديناميكيات العمليات العسكرية، خصوصاً أن المسيَّرات قدمت مزايا تكتيكية وقتالية متنوعة لا تستطيع الطائرات الأخرى تقديمها في ميدان المعركة، بسبب فارق الحجم الذي انعكس على قدرات المناورة وعلى التكلفة.
ثانياً: أهم الدول المصنِّعة للمسيَّرات
لا يكفي توفُّر المواد الأولية في عملية صناعة المسيرات، حيث هناك حاجة إلى امتلاك التكنولوجيا والتطوير العلمي، لذلك تفوَّقت بصناعتها وتطويرها وإنتاجها دول عظمى، أهمها الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، وتبعتها مجموعة واسعة من الدول أهمها إسرائيل وتركيا والهند وإيران..
· الولايات المتحدة الأمريكية
كانت الولايات المتحدة من أوائل الدول التي صنعت المسيَّرات واستخدمتها في الحروب، ألا أن التحوُّل الكبير في تطوير هذا النوع من السلاح واستخدامه جاء بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2011، عندما بدأت واشنطن بعد هذه الأحداث قيادة الحرب ضدّ الإرهاب والجماعات المتطرفة، الأمر الذي جعل التنافُس شديداً بين الشركات المصنِّعة لإنتاج هذا النوع من الطائرات الذي يلبي طموح الولايات المتحدة في حروب جديدة تختلف عن الحروب التقليدية بين الدول.
امتلكت الولايات المتحدة أكثر من 7000 طائرة مسيَّرة بعد هجمات 2011، في حين لم يكن عدد المسيَّرات لديها قبل هذا التاريخ يزيد عن 200 طائرة مسيَّرة [10] .
من أشهر الطائرات المسيَّرة الأمريكية MQ-9 Reaper وهي طائرة مسيَّرة هجومية قاذفة للصواريخ، تُستخدم في سلاح الجو الأمريكي والبريطاني، شاركت في معارك أفغانستان وفي اليمن، ويُعتقَد أنها التي نفذت في 2020 غارات على مطار بغداد الدولي أدت لمقتل قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، وطائرة MQ-4 Global Hawk وهي مسيَّرة هجومية ذاتية القيادة، تتميز بأجهزة الرادار وأجهزة الاستشعار المحسَّنة، وطائرة MQ-20 Avenger وهي مسيَّرة قتالية، تتميز بمحرِّكاتها النفّاثة، والقدرة العالية على التحمُّل والمناورة الجوية، وحمل أوزان من القنابل تصل إلى نصف طن، وطائرة Switchblade وهي مسيَّرة انتحارية خفيفة، قابلة للحمل على الظهر، تحمل رأساً متفجراً وقادرة على استشعار أهدافها.
· إسرائيل
أطلق الجيش الإسرائيلي أول طائرة مسيَّرة إلى الأجواء المصرية خلال حرب الاستنزاف عام 1969، ليبدأ عصر اعتماد المسيَّرات بشراء 12 مسيرة من طراز Firebee سراً من الولايات المتحدة عام 1970، لاستخدامها في الاستطلاع الليلي والمراقبة [11] .
قامت الشركات الإسرائيلية بتطوير نُسَخ من المسيَّرات الأمريكية واستخدمتها في حرب لبنان عام 1982، وكانت الاستخدامات تتنوع بين مهامّ الاستطلاع والمراقبة وتحديد المواقع أو التشويش وتضليل الدفاعات الجوية، ثم تم استخدام المسيَّرات الإسرائيلية لمهامّ هجومية في فلسطين عام 2004 في عمليات اغتيال.
تُعَدّ إسرائيل من الدول المتقدِّمة في تصنيع المسيَّرات، وهي تُصدِّر الطائرات دون طيار لأكثر من 56 دولة في العالم [12] ، واستحوذت على أكثر من 60% من الصادرات الدولية للطائرات دون طيار على مدى العقود الثلاثة السابقة [13] ، خصوصاً أنها تتفوَّق بشكل كبير جداً في المجال التكنولوجي بشكل عامّ وبتكنولوجيا تصنيع الطائرات المسيَّرة بشكل خاصّ بفضل شراكة الولايات المتحدة ودعمها.
تصنع إسرائيل مسيَّرات صغيرة تكتيكية تساهم في إسناد العمليات البرية، مثل طائرة Heron وهي مسيَّرة طويلة المدى متخصصة بالاستطلاع الإستراتيجي، وتتميز بالتكنولوجيا الحديثة ذاتية القيادة، وتُصدِّرها إسرائيل لكل من تركيا والهند وفرنسا وكندا، وهي من أكثر المسيَّرات مبيعاً في إسرائيل، وطائرة Skylark-1 وهي مسيَّرة صغيرة تُصدّرها إسرائيل لدول عدة منها كرواتيا والتشيك والمجر ومقدونيا، وهولندا وبولندا وسلوفاكيا والسويد وفرنسا، وتم نشرها في أفغانستان والعراق.
بالانتقال إلى المسيَّرات الإستراتيجية التي تنفذ مهامَّ استطلاعية حدودية وإقليمية واسعة فأشهر ما تنتجه إسرائيل طائرة Hermes وهي مسيَّرات هجومية متطورة تُخفي أسلحتها لتستفيد من الخصائص الشبحية في الطيران، وتتميز بطيرانها لفترة طويلة، وطائرة Heron TP وهي مسيَّرة هجومية مطوَّرة، تتميز بارتفاعها وقدرتها العالية على العمل في مختلف الأجواء.
· الصين
تهتم الصين في منافسة الشركات الأمريكية والإسرائيلية في تصنيع المسيرات، وقد تمكنت من تصنيع أكثر من 25 نوعاً من طائرات دون طيار وانتشرت مبيعاتها في منطقة الشرق الأوسط، ودخلت سوق مبيعات المسيَّرات بمليارات الدولارات مستفيدة من امتناع الولايات المتحدة والدول الغربية عن البيع لبعض الدول [14] .
من أشهر المسيَّرات التي تصنعها الصين طائرة Wing Loong وهي مسيَّرةٌ قتاليةٌ قدراتُ الاشتباك والمناورة فيها عاليةٌ، وتحمل أكثر من 10 أنواع من الصواريخ والقنابل، تستخدمها الصين وتُصدِّرها لكل من السعودية ومصر والإمارات، وطائرات CASC Rainbow وهي عدة أنواع من المسيَّرات القتالية مختلفة الأحجام، وتم تطويرها تكنولوجياً، وتُصدّرها بكين لكل من الجزائر ومصر وإثيوبيا وباكستان والسعودية والإمارات، وطائرة KVD002 وهي مسيَّرة استطلاع حديثة، سهلة الصيانة، وقادرة على تنفيذ مهامّ استطلاعية لمساحات شاسعة وتنفيذ مهامّ تدمير أنظمة الدفاع الجوي والمدرعات وتدمير التحصينات، ويُعتقد أنها تطوير لطائرة Caihono-no-no-no-no-no-no-ng-4 المسيَّرة التي تُعَدّ الأكثر مبيعاً بين المسيرات الصينية وتُصدِّرها بكين لأكثر من 10 دول [15] .
نجحت بكين في سدّ الفجوات في السوق من خلال سياستها التصديرية الأكثر مرونة وسرعة، ففي عام 2015 نفذت باكستان والعراق ونيجيريا ضربات باستخدام مسيَّرات صينية الصنع أو مطوَّرة في الصين، وعملاء الصين يلمسون الفرق في الكلفة وسهولة الحصول على المنتجات وقلة الشروط نسبياً في المقارنة مع الاستيراد من الولايات المتحدة [16] .
· روسيا
انخرطت موسكو باهتمام أكبر في تصنيع الطائرات المسيَّرة بسبب التطوُّر الحاصل في حربها مع أوكرانيا، فركزت على تصنيع طائرات تلبي احتياجاتها في الرصد والاستطلاع، وأنتجت مسيَّرات تصل لارتفاعات شاهقة وبسرعة تقترب من سرعة الصوت.
أشار الرئيس الروسي أن جيشه كان قد تسلَّم 140 ألف طائرة مسيَّرة من مختلف الأنواع عام 2023، بينما سيكون الاعتماد على هذا النوع من السلاح في عام 2024 أكثر بما قد يصل إلى عشرة أمثال. وأضاف بوتين في اجتماع سان بطرسبورغ بخصوص إنتاج الطائرات المسيَّرة: "مَن يتحرك أسرع لتحقيق تلك المطالب في ساحة المعركة سينتصر" [17] .
أصبحت صناعة المسيرات رهان روسيا لإعادة رسم مستقبل الحرب في أوكرانيا، وقد أنتجت شركة IEMZ Kupol التابعة لشركة صناعة الأسلحة الروسية التابعة للحكومة أكثر من 2500 طائرة مسيَّرة من طراز Garpiya-A1 في الفترة الممتدة بين تموز/ يوليو 2023 وتموز/ يوليو 2024، وهي طائرات مسيَّرة هجومية بعيدة المدى، تشبه إلى حدّ ما مسيَّرة "شاهد" الإيرانية، تصنعها روسيا بالاعتماد على محرِّكات وقطع تستوردها من الصين، وتنتج روسيا أيضاً مسيَّرة Okhotnik وهي مسيَّرة هجومية تحمل صواريخ وقنابل مخفية لتتفادى اكتشاف الرادارات لها، وتتم قيادتها من طائرة مقاتلة مأهولة من طراز SU-57.
وبالحديث عن استخدام روسيا للطيران المسيَّر في الحرب الأوكرانية، فقد استخدم الجيش الروسي مسيَّرات إيرانية من طراز "شاهد" لتنفيذ أكثر من 4 آلاف هجوم جوي، في المقابل استخدمت أوكرانيا المسيَّرات التركية لإبطاء الزحف الروسي إلى مدينة كييف.
· تركيا
سعت تركيا إلى التميُّز في صناعة المسيَّرات وإنتاجها وتصديرها ضِمن مسار تعزيز صناعاتها الدفاعية خلال العقدين الأخيريْنِ، وتصدرت الأسواق على المستوى العالمي رغم دخولها المتأخر، وقد أبرمت شركة Baykar وهي أشهر المصنِّعين عقوداً لتصدير المسيَّرات عام 2022 مع 27 دولة، أهمها أوكرانيا وبولندا وأذربيجان ورومانيا وألبانيا والمغرب والكويت والإمارات وإثيوبيا وتركمانستان وقرغيزستان [18] .
هناك مجموعة واسعة من المسيَّرات التركية أشهرها طائرة Bayraktar TB2 وهي مسيَّرة قتالية حديثة ومتطوِّرة، تتميز بالقدرة على الإقلاع والهبوط في مختلف الأماكن والظروف، وهي نسبياً منخفضة الكلفة، وطائرة Aksungur وهي مسيَّرة قتالية تحلق في مستوى متوسط ولمدة طويلة، وتنفذ مهامّ مراقبة واستطلاع إلى جانب التدخل القتالي بأنواع مختلفة من الأسلحة والذخائر.
اكتسبت المسيَّرات التركية شهرة واسعة بعد استخدامها ضِمن عمليات أمنية وعسكرية في أذربيجان وأرمينيا وسوريا وليبيا، وكذلك ضِمن الحرب الروسية الأوكرانية، وهي مسيرات مستواها ليس ببعيد عن الأمريكية والإسرائيلية، وسعرها ليس مرتفعاً، بذلك تعيد تشكيل ساحات القتال والجغرافيا السياسية [19] .
· إيران
تُعَدّ إيران من الدول المتقدِّمة في تصنيع المسيَّرات وتصديرها، وقد بدأت الدخول إلى هذا المجال منذ ثمانينيات القرن الماضي عندما أسسَّت منظمة القدس للصناعات الجوية التابعة للحرس الثوري الإيراني عام 1985.
أنتجت إيران مجموعة من المسيَّرات أهمها طائرات مهاجر Mohajer وهي مجموعة من المسيَّرات طوَّرتها طهران بنماذج متنوعة دفاعية وهجومية واستطلاعية وانتحارية، منذ استخدامها أول مرة في الحرب مع العراق (1980 – 1988)، وطائرة " شاهد Shahed" وهي مجموعة من المسيَّرات طورتها طهران أيضاً بنماذج متنوعة دفاعية وهجومية واستطلاعية وانتحارية، منها أبابيل وهدهد وكرار وكمان والصاعقة وفطرس ومعراج وبيلكان وغزة وغيرها الكثير من الطائرات بارتفاعات متعددة ولمهامّ مختلفة. وقد زودت الحوثي وحزب الله والميليشيات العراقية بأنواع مختلفة من هذه الطائرات.
تستخدم طهران الطيران المسيَّر في حروبها، وفي عملياتها العسكرية مثل الضربات التي وجَّهتها في نيسان/ إبريل 2024 ضد إسرائيل [20] ، كما تُزوِّد إيران بها حلفاءها والمجموعات العسكرية التابعة لها أو الموالية في كل من سوريا والعراق واليمن ولبنان وفلسطين، وتصدر مسيَّراتها لكل من روسيا وفنزويلا وإثيوبيا والسودان [21] .
ثالثاً: أنواع الطائرات المسيَّرة وتصنيفاتها
تخضع الطائرات المسيَّرة لعدة معايير في التصنيف، بحسب استخداماتها وشكلها وآلية عملها وطبيعة تشغيلها ووزنها وحجمها، وأشهر هذه التصنيفات على الشكل التالي:
أ. التصنيف من حيث الاستخدام
· المسيَّرات مدنية الاستخدام: تُستخدم لأغراض مختلفة منها التصوير، وتنظيم حركة المرور، ومراقبة الطرق السريعة والحدود البرية والبحرية والجوية، ومكافحة التهريب والهجرة غير الشرعية، ومكافحة الآفات، ورشّ المبيدات، وحماية خطوط الكهرباء، وتأمين أنابيب النفط، والكشف عن حرائق الغابات، وخدمات الأرصاد الجوية، والبحث والإنقاذ.
· المسيَّرات عسكرية الاستخدام: تُستخدم لأغراض أمنية وعسكرية وبمهامّ قتالية ومناورات مختلفة هجومية أو دفاعية، مثل المراقبة والاستطلاع وتقديم المعلومات الاستخبارية الدقيقة في توقيت قياسي، وكذلك عمليات الإنقاذ وتأمين القواعد العسكرية والجوية خاصة، واشتهر في المسيَّرات الطائرات الانتحارية التي تُستخدم لمرة واحدة بالانقضاض على أهدافها بشكل دقيق والانفجار بها.
ب. التصنيف من حيث الشكل
· مسيَّرات متعددة المراوح: تتميز بشكل أساسي بقدرتها على الإقلاع والهبوط العمودي، لكن مداها قصير وحمولتها منخفضة نسبياً.
صورة مسيَّرة بمراوح متعددة
· مسيرات ذات جناح ثابت: لا تستطيع الإقلاع والهبوط بشكل عمودي، لكنها تتميز بالسرعة والمدى الطويل.
صورة مسيَّرة بأجنحة ثابتة
· مسيَّرات بمروحة واحدة ثابتة: إضافة للاعتماد على الأجنحة الثابتة فإن هذه المسيرات تعتمد على مروحة واحدة مركزية، وتتميز بالتحليق طويل المدى في ارتفاع عالٍ وحمولة كبيرة.
صورة مسيرة بمروحة مركزية
· مسيَّرات هجينة (VTOL): تكون هذه المسيَّرات بأجنحة ثابتة تمكنها من توسيع مدى التحليق، وبمراوح متعددة تجعلها قادرة على الإقلاع والهبوط بشكل عمودي.
صورة مسيَّرة هجينة بأجنحة ثابتة ومراوح للإقلاع العمودي
ج. التصنيف من حيث مصدر الطاقة
· مسيَّرات تعمل بوقود الطائرات التقليدي.
· مسيَّرات تعمل بخلايا البطاريات.
· مسيَّرات تعمل بالخلايا الشمسية.
· مسيَّرات تعمل بخلايا الوقود.
د. التصنيف من حيث استقلالية نظام التشغيل
· مسيَّرات يقودها الإنسان: هو المستوى الأول البسيط، حيث يقود الطيار المسيَّرة عن بُعد، ويتخذ المشغل البشري جميع القرارات، وبالتالي الفرق بين المسيَّرة والطائرات المقاتلة والمروحية هو أن الطيّار غير محمول في جسم الطائرة في الجوّ.
· مسيَّرات بنظام مفوَّض من الإنسان: هو المستوى الثاني الأكثر استقلالية من النظام البسيط، بحيث يؤدي نظام الطائرة العديد من الوظائف بشكل مستقلّ عن التحكم البشري، بينما جزء من المهامّ تعطى بأوامر من الإنسان المتحكِّم بالقيادة.
· مسيَّرات ذاتية التشغيل بإشراف الإنسان: هو المستوى الثالث من الاستقلالية، بنظام يشرف عليه الإنسان، بحيث يمكن لهذا النظام أداء المهامّ المختلفة بناء على الأذونات والتوجيهات التي يمنحها الإنسان للنظام الآلي.
· مسيَّرات ذاتية التشغيل: هو المستوى الأخير من الاستقلالية بنظام مستقلّ تماماً، يتلقى أوامر مدخلة من قِبل الإنسان، ويترجمها إلى مهامّ محددة دون مزيد من التفاعل البشري.
ه. التصنيف من حيث الحجم والوزن
· المسيَّرات الصغيرة (تكتيكية) Mini UAVs
يمكن أن تُطلَق باليد، ويكون وزنها أقل من 9 كغ، تعمل ضِمن مدى أفقي لا يتعدى 2 كلم، بالمستوى التعبوي تكون على مستوى سرية فما دون.
· المسيَّرات الخفيفة (تكتيكية – تعبوية) Light UAVs
تطلق من قاذف ميكانيكي ومن مدارج غير ممهدة، وزنها أكثر من 9 كغ حتى 25 كغ، تعمل ضِمن مدى أفقي لا يتعدى 16 كلم وبارتفاع أقل من المتوسط، بالمستوى التعبوي تكون على مستوى لواء فما دون.
· المسيَّرات المتوسطة (عملياتية) Mid UAVs
تُطلق من مدارج ممهدة أو غير ممهدة حيث وزنها أقل من طن واحد، تعمل ضِمن مدى أفقي أقل من 50 كلم وبارتفاع يصل إلى 18 ألف قدم فوق سطح الأرض، تعمل على مستوى فرقة ضِمن المستوى العملياتي.
· المسيَّرات متوسطة الارتفاع بعيدة المدى (عملياتية - إستراتيجية)
Medium - Altitude Long Endurance
مخصصة حيث وزنها أكثر من طن، تعمل ضِمن مدى أفقي أكثر من 200 كلم وبارتفاع يصل إلى 27 ألف قدم فوق سطح الأرض، أي أنها تعمل على مستوى مسرح عمليات وضمن المستوى الإستراتيجي.
· المسيَّرات عالية الارتفاع بعـــيدة المدى (إستراتيجية) High-Altitude Long Endurance تطلق من قواعد جوية حيث وزنها أكثر من 4 أطنان، ضمن مدى بعيد جداً وبارتفاع يصل إلى 70 ألف قدم فوق سطح الأرض، أي أنها تعمل على المستوى الإستراتيجي.
رابعاً: مواجهة المسيَّرات وإسقاطها
مع توسُّع استخدام المسيَّرات في المعارك، وتَبَوُّئها مكاناً ضِمن صنوف الأسلحة الأكثر أهمية وفعالية توسَّعت الحاجة لدى الدول إلى إيجاد وسائل مواجهة المسيَّرات المعادية، وبدأ التعامل لمواجهة المسيرات وَفْق وسائل متنوعة وإنْ كانت بمعظمها غير فعّالة حتى الآن.
هناك طريقتان رئيسيتان لإسقاط المسيرات، حركياً وإلكترونياً، وَفْق التفصيل التالي:
· إسقاط المسيَّرات باستخدام ذخائر البنادق والمدافع الرشاشة وهي غير مُجدِية إذا كانت المسيَّرات على ارتفاع كبير، أو استخدام الصواريخ المضادّة للطائرات وهي طريقة عالية الكلفة.
· تعطيل عمل المسيَّرة وإسقاطها باستخدام أجهزة التشويش أو مقاطعة الإشارة بين المسيَّرة ومشغِّلِها، أي من خلال الحرب الإلكترونية، وما يتصل بها من أنشطة متعلقة بالاستحواذ السيبراني والتحكم في الطيف الكهرومغناطيسي، وهذه الطريقة هي الحلّ الفضل والأقدر والأقل كلفة؛ لكنه لا يزال تجريبيّاً.
قامت الولايات المتحدة بتطوير أنظمة C – UAS لمكافحة المسيَّرات في منظومة متكاملة تتضمن الكشف من المسيرات وتتبعها وتحييدها، واستخدمت كل من أوكرانيا وروسيا إشارات كهرومغناطيسية قوية تتسبب في إسقاط المسيَّرات أو حَرْفها عن مسارها، أو استدارتها ومهاجمة مشغلها.
إن مواجهة المسيَّرات تجمع بين الحاجة إلى تدابير مضادّة موثوقة عسكرياً وفعّالة من حيث التكلفة، بحيث تكون الدفاعات أرخص من أهدافها، وهذا -لا شك- يتضمن خيارات محتملة منها الجمع بين المدافع المضادّة للطائرات وأنظمة الرادار والليزر المدمَجة؛ للكشف عن الهدف وتحديده ثم تحييده.
خامساً: نماذج من حروب حديثة استُخدمت فيها المسيَّرات
أ. الحروب النظامية التقليدية
· حرب ناغورنو كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا:
اندلعت الحرب بين أذربيجان وأرمينيا مجدداً في أيلول/ سبتمبر 2020، لكنها هذه المرة كانت وكأنها حرب من جانب واحد، حيث كانت القوات البرية الأذربيجانية تعتمد على المسيَّرات التركية والإسرائيلية التي حققت بها انتصارات متتالية بأقل قدر من القتال.
كان الطرفان الأذربيجاني والأرمني يستخدمان المسيَّرات، لكن المسيَّرات التي كانت بحوزة أذربيجان تمكنت من تفكيك المظلة الدفاعية الجوية الأرمنية التي تحمي موقع الجيش على الأرض، وبعد ذلك دمرت بشكل منهجي مواقع المدفعية، والدبابات، والقطعات البرية، وقوافل الإمداد، وأجبرت أرمينيا على قبول وقف إطلاق النار الذي فرضته روسيا.
كان أسطول المسيَّرات الأذربيجاني يتألّف بشكل أساسي من الطائرات التركية Bayraktar TB2 والطائرات الإسرائيلية Thunder B وORBITER 3 وSkyStriker وIAI Harop.
يمكننا القول: إن هذا الصراع تغلبت فيه الطائرات دون طيار على قوة برية تقليدية، مما أدى إلى استنزافها إلى حدّ العجز وتمهيد الطريق للقوات البرية للتدخل والاستيلاء على عُقَد إستراتيجية مهمة وحاكمة ساعدت في حسم الصراع بسرعة كبيرة [22] .
· الحرب الروسية الأوكرانية:
منذ بَدْء الصراع في شباط/ فبراير 2022 كان القتال يدور بطريقة منهجية، وحقق منطق ساحة المعركة الحديثة لتكيف طرفَي النزاع، فالطائرات دون طيار التي تُستخدم بأعداد كبيرة، والمرتبطة بنظام معالجة بيانات فعّال، وشبكة نيران موزعة، تخلق نهجاً متكاملاً في الاستطلاع، والهجوم، ومزايا تكتيكية جديدة قلَّلت من الفارق الكبير بين الطرفين، لذا فهي ليست الحرب الأولى التي تُستخدم فيها الطائرات دون طيّار أو يكون لها فيها دور مهم، ومع ذلك فإن استخدام المسيَّرات في هذا الصراع تميز بمجموعة من الأمور أهمها:
- لم يسبق من قبل أن استُخدم هذا العدد الكبير من المسيَّرات في مواجهة عسكرية، حيث يُقدَّر أن أوكرانيا وحدها تخسر شهرياً ما يقارب 10 آلاف طائرة مسيرة [23] .
- تنوُّع الأساليب، وبروز تقنيات الاستخدام المزدوج، حيث استخدمت القوارب البحرية المسيَّرة USVs ، كما استُخدمت المسيَّرات البحرية Sea Baby Drone، واستهدفت أوكرانيا بها مواقع إستراتيجية مثل سيفاستوبول في شِبه جزيرة القرم وهو ما يُشكّل تهديداً كبيراً للبحرية الروسية.
- ظهور ما يسمى " الذخائر المتسكعة kamikaze drone"، وهي طائرات مسيَّرة انتحارية تمثل نمطاً جديداً للأسلحة الحديثة ذات القدرة التقنية القتالية العالية، فهي مجموعة من القنابل والذخائر والصواريخ التي تخرج فرادى أو في أسراب لتتسكع في الجوّ فترة طويلة، بما تحمله من رؤوس حربية تراقب أهدافها وتنقض عليها بدقة متناهية، ضِمن جبهات المواجهة أو خلف خطوط العدو [24] .
نشرت كل من روسيا وأوكرانيا ذخائر متسكعة ذات أداء مماثل بحمولة أقل من 4 كغ ومحدودة بمدى 30 كم، واستخدمت أوكرانيا طراز Switchblade 300 وطراز Phoenix Ghost الأمريكيتين، وطراز Warmate البولندية، بينما أهم ما استخدمته روسيا Lancet الروسية و شاهد الإيرانية.
- استخدام المسيَّرات ذات القيمة المنخفضة نسبياً لاستهداف مواقع إستراتيجية تُعَدّ من الأصول القيِّمة، الأمر الذي فرض إجراءات تَعْبوِيّة تمت الاستفادة منها تكتيكياً وإستراتيجياً، مثل هجوم المسيَّرات الأوكرانية على مدينة إنجلز الروسية وقاعدتها الجوية، الأمر الذي أجبر الروسَ على سحب وحدات دفاع جوي من الخطوط الأمامية لتعزيز حماية العاصمة موسكو [25] .
- إجبار طرفَي الصراع بصورة خاصة والدول الأخرى بصورة عامة على التفكير باتجاهين هما: الأول توطين صناعات الطائرات المسيَّرة أو امتلاكها، و الثاني الاستثمار في ابتكار آليات التصدي لهذه الطائرات بطرق مبتكرة ومتنوعة تكون مُجدِية وفعّالة في أي مواجهات حالية أو لاحقة.
لقد تمكَّن الخبراء الروس من تطوير نموذج مسيَّرة Shershen المزودة بأنظمة وأجهزة لتعطيل عمل المسيَّرات الأخرى، بينما ذهبت أوكرانيا لتوطين تصنيع الطيران المسيَّر بالتوازي مع توسيع الاستيراد، إضافة لاتخاذ حكومة كييف عام 2023 إجراءات منها إلغاء الرسوم الجمركية على مكونات الطيران المسيَّر لتشجيع التصنيع، وتخفيف قوانين الاستيراد وإلغاء الضرائب على قطع الغيار ومُعَدّاتها، ورفع حصة ربح الشركات المصنِّعة إلى 25%، فضلاً عن تخصيص ميزانية لنمو إنتاج المسيَّرات 10 أضعاف ما كانت عليه عام 2022، وتوقيع عقود مع 40 شركة وطنية لإنتاج المسيَّرات [26] ، علماً أن أوكرانيا تنتج عدة أنواع من المسيَّرات مثل طائرة Vampire .
ب. الحروب غير المتكافئة - الاستخدام غير الحكومي للمسيَّرات
لم يبقَ استخدامُ المسيَّرات حكراً على الحكومات وجيوشها الرسمية، بل ظهرت خلال العقدين الماضيين، وتحديداً بعد احتلال أفغانستان (2001) والعراق (2003) الكثير من الجماعات المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة تستخدم المسيّرات سلاحاً في مواجهاتها وصراعاتها.
تعتمد الجماعات غير الحكومية على استخدام المسيَّرات في الحرب غير المتكافئة؛ لأنها الطرف الأضعف الذي يحاول توظيف إستراتيجيات غير تقليدية لتجنُّب الاشتباكات العسكرية التقليدية مع قُوى متفوقة عسكرياً وتكنولوجياً، إضافة إلى فاعلية المسيَّرات في تحقيق أهداف خاصة تُعنى بها التنظيمات مثل الاغتيالات.
بشكل رئيسي قد ظهرت في منطقة الشرق الأوسط تنظيمات مسلحة ومجموعات عسكرية تابعة لإيران، في كل من العراق ولبنان واليمن وسوريا، إضافة لتنظيمات أمنية وعسكرية ارتبطت بشكل أو بآخر مع إيران أبرزها تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، وكانت للعلاقة مع إيران أهمية في الحصول على التكنولوجيا بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد عملت تنظيمات ما دون الدولة على تصنيع المسيَّرات محلياً من خلال مهندسين طوَّروا قدراتهم في هذا المجال، بينما حصل بعض التنظيمات على هذه المسيَّرات بشكل مباشر من إيران.
أيضاً سَعَتِ المجموعات المسلحة غير المرتبطة بإيران، بل المعادية لها لامتلاك المسيَّرات وتصنيعها وتطويرها، كما هو الحال في فصائل المعارضة السورية المناهضة للنظام السوري في إدلب، لكن بقيت أبرز التنظيمات والجماعات التي تمتلك المسيَّرات وتستخدمها هي المرتبطة بطهران والتي تأخذ تكنولوجيا المسيَّرات منها، ومثال ذلك حزب الله اللبناني، وحركة حماس الفلسطينية، ومجموعات الحشد الشعبي العراقية، وتنظيم أنصار الله (الحوثيين) في اليمن.
حماس والمسيَّرات
بدأت حركة حماس عام 2006 بمشروع صناعة المسيَّرات، وبرز اسم المهندس التونسي محمد الزواري الذي تولى المهمة بالتعاون مع ضابط كبير سابق في الجيش العراقي، وحتى عام 2008 كانا قد أنجزَا للحركة 30 مسيَّرة، وتم إكمال مشروع طائرة أخرى أُطلق عليها اسم أبابيل 1 عام 2013، واستخدمتها كتائب القسام الجناح العسكري للحركة خلال حربها مع إسرائيل صيف عام 2014، وكان الزواري قد زار إيران والتقى هناك الخبراء والمهندسين المختصين بصناعة وتطوير المسيَّرات [27] .
أنتجت الحركة 3 نماذج من طائرة أبابيل، استطلاعية وهجومية وانتحارية، وقد استفادت الحركة من المسيَّرات التي يتم شراؤها عَبْر الإنترنت بأسعار رخيصة تتراوح بين 2000 و3000 دولار، والتي وصلت إلى غزة عن طريق التهريب على شكل ألعاب، كما عملت حماس على تصنيع أجزاء يصعب استيرادها حتى بدأت طائراتها المسيَّرة تحلق فوق المستوطنات الإسرائيلية (كيبوتسات) قرب حدود غزة.
في معركة سيف القدس عام 2021 كشفت حماس عن مسيَّرات انتحارية من نوع شهاب محلية الصنع، واستخدمتها في ضرب مصنع الكيماويات في مستوطنة "نيرعوز" وتجمُّعاً للجنود والآليات في موقع "كيسوفيم"، وتم استخدامها بعد ذلك عام 2023 في معركة "طوفان الأقصى" [28] .
تستطيع طائرة شهاب التحليق بسرعة 250 كم/سا، ويُعتقد أنها مزودة بإحداثيات GPS وصور من الأقمار الصناعية، مما يساعدها في العثور على أهدافها، وقد كان لها دور رئيسي في اختراق التحصينات والحواجز الإسرائيلية في الساعات الأولى من معركة "طوفان الأقصى"، بينما هاجمت المسيَّرات الانتحارية من طراز الزواري أبراج المراقبة والمراصد وأخرجتها عن الخدمة.
حزب الله والمسيَّرات
بدأ عصر المسيَّرات لدى حزب الله اللبناني في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، وأطلق على مسيَّرته الأولى اسم " مرصاد 1 " مع أول رحلة لها داخل المجال الجوي الإسرائيلي لأغراض استطلاعية، ثم تكررت العملية في نيسان/ إبريل 2005 بعمق نحو 25 كم، وفي آب/ أغسطس 2006 هاجمت مسيَّرات هجومية من طراز " أبابيل " القوات الإسرائيلية بحمولة تراوحت من 40 حتى 50 كغ من المتفجرات.
نقطة التحوُّل في مجال تصنيع المسيَّرات بالنسبة للحزب كانت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، حيث طور مسيَّرة اخترقت منطقة فوق البحر الأبيض المتوسط لمسافة 50 كم، ووصلت إلى صحراء النقب بالقرب من مفاعل ديمونة، قبل أن تُسقطها الطائرات الإسرائيلية [29] .
طوَّر الحزب بعد ذلك مسيّراته، وزودها بكاميرات وأجهزة استشعار مما مكَّنه من إجراء مراقبة دقيقة للمواقع الإستراتيجية، ومنها طائرة الهدهد ، كما يمتلك مسيَّرات انتحارية استخدمها في الهجمات المتتالية على إسرائيل، ومن المحتمل أن يتم إطلاق عدد كبير منها للتأثير على قدرات القبة الحديدية في التصدي لها، مستغلاً أن إسرائيل بنت أنظمة دفاعاتها الجوية والقبة الحديدية ضد الصواريخ والقذائف بالدرجة الأولى، مع التركيز بدرجة أقل على تهديد المسيرات، لكونها بطيئة ويمكن إسقاطها، لكنها من جانب آخر شكَّلت خطراً كبيراً لصغر حجمها وقدرتها على التخفي لتجاوُز الدفاعات الجوية.
اعتمد الحزب تكتيك المخادعة والإعماء والهجمات المركبة باستخدام المسيَّرات والرشقات الصاروخية لإرباك الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وأدى ذلك إلى وصول إحدى المسيرات إلى معسكر جولاني بالقرب من بنيامينا جنوب حيفا، وقتلت 4 جنود وأصابت بهجومها أكثر من 60 آخرين [30] .
سادساً: رؤية مستقبلية لاستخدام المسيَّرات
بما قلبته المسيَّرات في موازين الحروب واختصرت من الزمان والكلفة وبما حققته من أهداف؛ فإن الدول والقُوى في مختلف أنحاء العالم ستتجه إلى زيادة الاعتماد على هذا النوع من السلاح في الحروب وعلى تطوير ميزاته ومواصفاته.
من المتوقَّع أن تتوجه الجيوش بشكل أكبر وأوسع لاستخدام المسيَّرات؛ لأن ذلك يعني تقليل الأعباء المالية التي تُدفع في صفقات التسليح بما فيها الطائرات الحربية والمروحية، وتقليل الحاجة إلى استخدام الأسلحة المتطوِّرة من الصواريخ مرتفعة الكلفة، واستخدام طائرات جديدة أكثر قدرة من التقليدية في المناورة والوصول، وأكثر مرونة في تنفيذ المهامّ، بما يحققه تميُّزها بالتخفي وتجاوُز منظومات الدفاع الجوي، ثم قلة الكلفة إذا ما حدث خطأ أو تمكن الخصم من استهدافها، فلا هي بكلفة الطائرة الحربية أو المروحية، ولا يوجد فيها العنصر البشري من طيّار ومساعدين يُخشى أَسْرهم أو إصابتهم.
إن تطوير المسيَّرات الذي بدأ ويُتوقع أن يستمر يقترن بسهولة الحصول على هذا السلاح النوعي، وهو ما لم يكن متوفراً في الطيران الحربي والمروحي، وتأتي خطورة ذلك في أن الحصول على المسيَّرات أو تصنيعها وتطويرها لا يقتصر على الدول وجيوشها النظامية، بل هو متاح لجهات غير حكومية في مواجهة الحكومات، وفي استهداف قُوًى إقليمية ودولية في المنطقة، مثل الاستهداف الذي قامت به حركة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن ضدّ السفن في البحر الأحمر وخليج عدن، الأمر الذي استدعى الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالُف دولي تحت اسم "تحالف حارس الازدهار" وقيادته [31] .
إن التطوُّر التكنولوجي الكبير والمتسارع ودخول تقنيات الذكاء الاصطناعي سيجعل المسيَّرات أكثر قدرة وتنوُّعاً وخطورةً في مجالات المراقبة والاستطلاع وتنفيذ الهمامّ القتالية، على جميع المستويات التكتيكية والتعبوية والإستراتيجية، ومن المتوقع تطوير استخدام المسيَّرات وتوظيفها في مجالات مختلفة لا تقتصر على الجانب العملياتي أو العسكري فقط، بل بالتركيز على الحرب السيبرانية.
يتوقع الجيش الأمريكي أنَّه بحلول عام 2035 ستقوم المسيَّرات بنحو 95% من مهامّ الاستطلاع، وعليه يُعتقد أن الدول ستذهب إلى زيادة إنفاقها المالي لامتلاك المسيَّرات وتطويرها وإنتاجها بشكل غير مسبوق، وكانت قيمة السوق العالمية للمسيَّرات قد بلغت نحو 25.3 مليار دولار خلال عام 2024، بينما من المتوقع أن تصل القيمة إلى 133.6 مليار دولار بحلول عام 2033، بمعدل نمو سنوي مركَّب قَدْره 13.4% خلال العقد القادم [32] .
يزداد الشعور بضرورة هذا السلاح وبخطره في آنٍ معاً لدى الدول الكبرى، حيث أحدثت المسيَّرات فجوة أمنية كبيرة في المجال الجوي، مما يستدعي مساعي دولية لضبط استخدامها وتقنين امتلاكها، ووضع آليات كفيلة بردّ مخاطرها بما في ذلك امتلاك وسائل اعتراضها وإسقاطها، مع التوجُّه لتطوير هذه الآليات بحيث تكون بتكلفة بسيطة من خلال ابتكار الوسائل التكنولوجية.
سيشكل مواجهة المسيَّرات وتهديداتها أولوية مستقبلية في خطط الجيوش النظامية والدول الكبرى، مما يعني أن التنافُس سيكون شديداً بين الشركات المصنِّعة للأسلحة والشركات التكنولوجية للتوصل إلى أساليب عسكرية وتقنية متطورة، بحيث يوازي التنافُس على تصنيع المسيَّرات التنافُس على تطوير آليات مكافحتها وإسقاطها وتصنيع منظومات مضادّة لها.
يُتوقع في المستقبل القريب تطوير المسيَّرات الهجومية المسلَّحة غير المكلِّفة، والتي تُستخدم لمرة واحدة (المسيَّرات الانتحارية)، بما أثبتته من تفوُّق ميداني على الدعم الجوي التقليدي الذي يُلاحَظ بقلق تطوُّر الدفاعات الجوية المتعلقة به.
ستحتفظ الحرب الروسية الأوكرانية بمدى طويل من تأثيرها في نقاش قانونية تسليح المسيَّرات، حيث قررت ألمانيا تسليح مسيَّراتها بعد نقاش داخلي طويل كانت تخوضه لأولوية الأمر وضرورته، لتأتي الحرب في كييف وتحسم الجدل وتُنهي النقاش.
يزداد التطوُّر السريع للمسيَّرات على أنه أولوية ضِمن سباق التسلح بين الدول، وسيكون التنافس بين الخصوم لتطوير أنظمة أكثر تقدُّماً بفعالية عالية وحجم صغير نسبياً، إلى جانب تدابير مضادّة أكثر مهارة، الأمر الذي يرتبط بآفاق أكبر ستتجه لها الحكومات في توأمة عمل جيوشها وقُواها المسلحة المتنوعة مع الذكاء الاصطناعي وعالمه الواسع المتجدِّد.
سيبقى مكان للصواريخ البالستية وقدرات سلاح الجوّ التقليدي، لكن سوف تعتمد الدول طريقة حماية لهذه الأسلحة الفتّاكة عالية الكلفة بأن تستنزف الدفاعات الجوية التقليدية بأعداد ضخمة من المسيّرات، إلى جانب ما يتم تطويره من المسيَّرات البحرية والبرية التكتيكية والإستراتيجية إلى جانب الجوية.
من المتوقَّع أن يكون التحدي الكبير أمام الدول هو فيما أحدثته المسيَّرات من تقليل الفوارق بين القوات الحكومية وجهات غير حكومية من تنظيمات ومجموعات مسلحة، الأمر الذي لا تكفي فيه الدفاعات التي يسابقها تطوير التغلب على أنظمتها، وإنما سيتجه الأمر إلى رقابة أمنية أعلى على الاتصالات والتمويل وتحرُّك الخبراء ومجالات عملهم.
الخاتمة
تسارَع تطوُّر المسيَّرات واستخدامها وتعدُّد أنواعها ومهامها خلال العقود القليلة الماضية، لتفرض نفسها مع بداية القرن الجديد (القرن الواحد والعشرين) بانتقالها من مهام المراقبة والرصد والتدخل المحدود إلى أن تقوم بالنيابة عن الطيران الحربي أو المروحي بمناورات وهجمات لا يستطيعها هذا الطيران التقليدي، مع فارق كبير جداً بالكلفة بينهما وبسهولة الحصول على التقنية ومستلزمات التصنيع لمختلف الدول حتى تلك التي لا تمتلك مقومات تصنيع الطيران الحربي وتكاد لا تحلم بذلك، بل ليصل الأمر إلى امتلاك منظومات ما دون الدولة قدرة التصنيع الفعّال للمسيرات.
يقترن تسارُع إنتاج المسيَّرات وتطوير مهاراتها وخصائصها واتساع استخدامها مع تحديات كبيرة تستشعرها الحكومات وخاصة في الدول الكبرى، ولعل السباق لتطوير منظومات الردع والدفاع تجاه المسيَّرات يسير بالسرعة ذاتها مع تطوير المسيَّرات إلا أنه غير كافٍ بالنسبة للدول التي تخشى على نفوذها ومجالاتها الحيوية ومصالحها واسعة الامتداد.
لقد غيَّرت المسيَّرات الجوية خصوصاً، والمسيرات البرية والبحرية وما أنتجته أدوات الذكاء الاصطناعي وتطوُّر التكنولوجيا من شكل الحروب الحديثة، تغييراً لا يقتصر على دخول سلاح جديد ضِمن مجموعة من الأسلحة التقليدية، وإنما تغيير في قيمة الأسلحة التقليدية ذات الكلفة العالية أمام هذا السلاح ذي الفعالية الكبيرة والكلفة المنخفضة نسبياً، وبالتالي لا يُتوقَّع أن تستغني الدول عن سباقها في حيازة الأسلحة التقليدية وتطويرها، إلا أن ميزانيات التسليح ستتغير من حيث الأولويات، كما أن الأسلحة التقليدية ستتغير طبيعة استخدامها وفقاً لما يفرضه السلاح الجديد من تكتيكات وإستراتيجيات عسكرية وأمنية.
الهوامش:
[1] علي الذهب، الطائرات المسيّرة.. ماذا تعرف عن سلاح الحرب المفضل لدى الجنرالات؟ الجزيرة نت - ميدان ، 16/06/2019. الرابط
[2] وليد بدران، كيف بدأت فكرة الطائرات العسكرية المُسيرة في عام 1849؟ BBC News عربي ، 07/06/2024. الرابط .
[3] الطائرات بدون طيار.. ركيزة حيوية في جيوش المستقبل، مجلة درع الوطن العسكرية، 01/05/2012. الرابط .
[4] الطائرات المسيرة.. سلاح الحروب في المستقبل، الجزيرة نت - الموسوعة ، 14/04/2024. الرابط .
[5] المرجع السابق.
[6] انظر: طه عبد الناصر رمضان، تعرف على أولى عمليات استخدام المسيرات بالتاريخ، العربية نت ، 26/04/2024. الرابط .
[7] وليد بدران، كيف بدأت فكرة الطائرات العسكرية المُسيرة في عام 1849؟ مرجع سابق.
[8] هيلين واريل، الطائرات المسيَّرة.. من عاصفة الصحراء إلى مقتل سليماني، منصة الاقتصادية، 15/01/2020. الرابط .
[9] محمد عيسى، قلبت الموازين التقليدية للحرب واختصرت الزمان والمكان.. «الطائرات المسيرة» شبح الخطر القادم، صحيفة الأهرام، 02/05/2024. الرابط .
[10] علي الذهب، الطائرات المسيّرة.. ماذا تعرف عن سلاح الحرب المفضل لدى الجنرالات؟ مرجع سابق.
[11] B. Arneson, Drones in the Formation, Development, and Militarization of Israel, World Peace Foundation, 20/12/2022. Link
[12] Ibid.
[13] تاريخ صناعة الطائرات المسيرة الإسرائيلية، وهل هي الأقوى أم التركية والإيرانية؟ عربي بوست، 02/06/2024. الرابط .
[14] Clay Dillow , China : A rising drone weapons dealer to the world, CNBC, 05/03/2016. Link
[15] الصين تكشف النقاب عن مسيّرة جديدة.. تعرف على قدراتها، سكاي نيوز عربية، 18/09/2023. الرابط .
[16] Kyle Mizokami, For the First Time, Chinese UAVs Are Flying and Fighting in the Middle East, Popular Mechanics, 22/12/2015. Link
[17] بوتين: زيادة إمدادات الجيش الروسي من المُسيّرات بـ 10 أضعاف في 2024، صحيفة الشرق الأوسط ، 19/09/2024. الرابط .
[18] محمد حميدة، مَن اللاعبون الأساسيون في صناعة واستخدام المسيرات بالشرق الأوسط؟ BBC News عربي ، 19/09/2024. الرابط .
[19] James Marson and Brett Forrest, Armed Low-Cost Drones, Made by Turkey, Reshape Battlefields and Geopolitics, The Wall Street Journal, 03/06/2021. Link
[20] عهد الكلاس، ماذا نعرف عن المسيرات الإيرانية المستخدمة في الهجوم ضد إسرائيل؟ فرانس 24، 14/04/2024. الرابط .
[21] إبراهيم درويش، نيويورك تايمز: إيران وسّعت من قدراتها في صناعة الطائرات المسيّرة وصدّرتها للسودان وفنزويلا، صحيفة القدس العربي، 29/07/2024. الرابط .
[22] للتوسع أكثر في الاطلاع على دور المسيرات في حرب ناغورنو كاراباخ انظر: بافيل أكسينوف، أرمينيا وأذربيجان: كيف تغيّر طائرات درون وجه الحرب في ناغورنو كاراباخ؟ BBC News عربي، 10/10/2020. الرابط .
[23] أوكرانيا تخشى نقص إمداداتها من المسيرات بسبب القيود الصينية، صحيفة الشرق الأوسط، 22/10/2023. الرابط
[24] العميد صلاح الدين الزيداني، الذخائر المتسكعة الطائرة.. التحدي الجديد، مجلة المسلح، 31/07/2023. الرابط .
[25] Steve Rosenberg and Jaroslav Lukiv, Ukraine war : Drone attack on Russian bomber base leaves three dead, BBC, 26/12/2022. Link
[26] أوكرانيا تخطط لتوطين صناعة المسيرات.. هل ستنجح؟ سكاي نيوز عربية، 03/08/2023. الرابط .
[27] من هو محمد الزواري مهندس طائرات حماس المسيّرة؟ BBC News عربي، 09/10/2023. الرابط .
[28] سعد الوحيدي، من أبابيل إلى شهاب.. هكذا صنّعت القسام سلاحها الجوي، الجزيرة نت، 22/12/2023. الرابط .
[29] مُسيّرات حزب الله.. أنواعها ومداها وقدراتها، الجزيرة نت - الموسوعة، 23/10/2024. الرابط .
[30] تفاصيل جديدة عن التحقيق في استهداف مسيّرة "حزب الله" لقاعدة "جولاني" وقتلها 4 جنود وإصابتها العشرات، روسيا اليوم، 14/10/2024 . الرابط .
[31] Noam Raydan, Houthi Ship Attacks Pose a Longer-Term Challenge to Regional Security and Trade Plans, The Washington Institute for Near East Policy, 26/06/2024. Link
[32] Global Drone Market 2024 – 2033, Customer Market Insight, 2024. Link