حرب غزة وسيناريوهات مستقبل حكومة نتنياهو
2024-05-161369 مشاهدة
Download PDF
ملخص
يقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام أعنف الأزمات التي ضربت حكومته منذ تشكُّلها قبل عام ونصف العام، بلغت مستويات قياسية في الشهور السبعة الأخيرة، متأثرة بعملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حماس، ومن ثَمّ الذهاب إلى حرب، حصدت أرواح آلاف المدنيين في غزة، ودمرت غالبية مناطق القطاع، لكنها في الوقت ذاته خلَّفت إشكاليات في غاية التعقيد في الداخل الإسرائيلي، وهدَّدت منظومة العلاقات الدولية والإقليمية الإسرائيلية، وتركت صورة إسرائيل أمام العالم في الحضيض.
ويمكن النظر إلى تطوُّر المشهد الإسرائيلي في الشهور القليلة الماضية من زاوية كون تل أبيب دخلت مساراً بلا رجعة، على الصعيد الداخلي والخارجي، وبات من الصعب ترميم الصورة التي خلَّفتها عمليات القتل الممنهج بحق المدنيين؛ لترويعهم ولدفعهم إلى الانتقال من موقع إلى آخر أو لحثّهم على التمرد على حماس، أو لإرضاء شركاء نتنياهو الائتلافيين من اليمين المتطرف، والذين وجدوا الحرب فرصة سانحة لن تتكرر، لإعادة احتلال غزة وتصحيح ما يرون أنه خطأ إستراتيجي فادح، ارتكبه رئيس الوزراء في حينه، أرييل شارون، حين قرَّر فكّ الارتباط عن القطاع عام 2005.
حقيقةً يقاتل نتنياهو في حرب أخرى هدفها حفظ إرثه السياسي، وبقاء حكومته المتطرفة؛ من منطلق أن سقوطه سيمهد الطريق لمحاكمات منهكة في قضايا فساد، ستمتد لسنوات، وقد تقوده للسجن. وفي سبيل ذلك، لا يتورع عن تمرير الأجندات المتطرفة للشركاء الائتلافيين، ليصطدم بالموقف الدولي والإقليمي الرافض لتلك السياسات، وبمواقف شعبية غير مسبوقة، عبَّرت عنها جامعات أمريكية وأوروبية، وبحَراك الداخل الذي لا يكفّ عن إماطة اللثام عن فشل حكومته، وأخيراً بأمر اعتقال غير مستبعَد من المحكمة الجنائية الدولية، قد يدون اسمه في سجلّ مجرمي الحرب على مرّ التاريخ.
كلمات مفتاحية
إسرائيل، بنيامين نتنياهو، قطاع غزة، أمريكا، جو بايدن، رفح، حماس، المحكمة الجنائية الدولية، لاهاي.
تمهيد
ينظر الكثير من المراقبين للشأن الإسرائيلي إلى موقف حكومة بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu الداخلي المُتأزّم، بعد عام ونصف العام على تشكُّل هذه الحكومة، على أنه الأسوأ على الإطلاق، ليس فقط بالنسبة لولايته الحالية، إنما لجميع سنوات حكمه التي امتدت لست ولايات متفرقة.
"سقوط حكومة نتنياهو الوشيك" يُعَدّ من بين العناوين التي طالما ظهرت في وسائل الإعلام العربية والعبرية والدولية، مستندة إلى تقديرات ومدخَلات واقعية، كان بمقدورها إسقاط أنظمة حاكمة في بلدان طبيعية، إلا أن الأسانيد التي ترجح السقوط، في حالة حكومة نتنياهو، تحتاج إلى إعادة تدقيق، وربما إلى أسباب أكثر قوة.
ويُنظَر إلى الحراك الداخلي ضد حكومة نتنياهو، منذ تشكلت في كانون الأول/ ديسمبر2022، بداية من الاحتجاجات ضد قانون الإصلاحات القضائية، مروراً بتحميله المسؤولية السياسية عن هجوم حماس المباغت في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وصولاً إلى التظاهرات التي لا تتوقف من جانب عائلات الأسرى وعشرات الآلاف من المتعاطفين معهم، ينظر إلى ذلك الحراك على أنه ورقة الضغط الأقوى والتي ستُسقط نتنياهو وحكومته.
في المقابل، لا تتوقف المشكلات السياسية داخل الائتلاف اليميني الحاكم بمكوناته الراديكالية واليمينية المتطرفة والمتشددة دينياً، وسط تهديدات لا يتورع شركاء نتنياهو عن إطلاقها عَبْر وسائل الإعلام ومنصات التواصل، ولا سيما مع كل حديث عن إمكانية وقف الحرب في قطاع غزة، بناءً على صفقة أسرى محتملة، وعلى رأسها تهديدات تيار "الصهيونية الدينية"، أو في حالات أخرى، ومنها قانون التجنيد المستحدَث، والذي سيُلزم المنتمين للقطاعات المتشددة دينياً (الحريديم) بالالتحاق بالجيش.
نتنياهو على المستوى الشخصي ربما لم يتنبأ يوماً بأن العصف بحصاد تاريخه المهني قد يأتي من اتجاه آخر تماماً، من مدينة لاهاي الهولندية، ومن ثَمّ فعَّل جميع أدواته، من علاقات عامة وسياسية ودبلوماسية؛ لمنع صدور أمر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، سيضعه في سجلات التاريخ كأحد مجرمي الحرب في العصر الحديث.
أوراق الضغط على نتنياهو، والتي تبدو فعَّالة في كل مرة تبلغ ذروة جديدة، تصطدم بتناقضات سياسية، حيَّرت حتى المحللين الإسرائيليين، منها على سبيل المثال بقاء زعيم كتلة "المعسكر الرسمي" الوسطية بيني غانتس Benny Gantz بالائتلاف، حتى مع انسحاب شريكه اليميني جدعون ساعر Gideon Sa'ar، مانحاً تلك الحكومة الفرصة لإظهار نفسها كحكومة وحدة وطنية مزعومة، بعدما رأى العالم مدى التطرف الذي اتسمت به تصريحات وزراء اليمين المتطرف ونوابه.
وفي الصورة العامة، يلفّ الغموض الموقف الأمريكي المعارض، والداعم في الوقت ذاته لسياسات نتنياهو وحكومته في حربها على غزة، وهو الموقف الذي أسهم كثيراً لصالح الجهود الحربية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، من تسليح وجولات مكوكية ومشاورات وتنسيق. وعلى النقيض، لا تتوقف واشنطن عن التصريحات ذات الطابع الإنساني، والتحذيرات من كوارث ستحل بالمدنيين، وتمارس ضغوطاً من أجل زيادة إدخال المساعدات، وتُبدي تحفُّظاً على عمليات عسكرية بعينها، قبل أن تجدد تعهُّدها التقليدي في كل مناسبة، بحفظ أمن إسرائيل ودعمها منقطع النظير.
أولاً: نتنياهو ومستجدّات الأزمة الداخلية
يدقق هذا المحور في ديناميكيات الأزمة الداخلية التي تتحكم وتؤثر في إدارة حكومة نتنياهو للمشهد الحالي، وعلى منظومة صناعة القرار، وتدفع في كثير من الأحيان باتجاه صدام بين المؤسستين السياسية والعسكرية، وهي الديناميكيات المستجدة، التي طفت على السطح في الشهور الأخيرة من الحملة العسكرية على قطاع غزة.
1- باكورة ثمار الشقاق داخل الائتلاف
خلال الحملة العسكرية على قطاع غزة، لم تتوقف التهديدات من جانب شركاء بنيامين نتنياهو الائتلافيين بالاستقالة، لأسباب ذات صلة بالأجندات السياسية والأيديولوجيات التي ينتهجها. ولم تترجم تلك التهديدات إلى واقع عملي سوى في حالة الوزير بلا حقيبة جدعون ساعر، زعيم حزب "اليمين الجديد" وأحد مكونات كتلة "معسكر الدولة"، بقيادة عضو مجلس الحرب، بيني غانتس. استقالة ساعر في 25 آذار/ مارس 2024 جاءت لرفض نتنياهو منحه عضوية مجلس الحرب، ومن ثَمّ كان قد وضع إنذاراً أمام رئيس الوزراء قبل أن يصبح الوزير الأول الوحيد الذي ينفذ تهديده بالاستقالة[1].
2- مساومات اليمين المتطرف
وزيرا الأمن القومي، إيتمار بن غفير Itamar Ben-Gvir، والمالية بتسلئيل سموتريتش Bezalel Smotrich، هما الأكثر تأثيراً على صناعة القرار السياسي، كون انسحابهما من الائتلاف سيعني سقوطه الحتمي، ومن ثَمّ استغلا تلك الورقة لممارسة ضغوط على نتنياهو؛ لتمرير أجندتيهما اليمينية المتطرفة، والتي تدعو لإعادة احتلال قطاع غزة وإطلاق منظومة استيطان هناك، لتنعكس النتائج على الأرض؛ إذ كان على رئيس الوزراء مواصلة العمليات العسكرية إلى مدينة رفح، وتقويض فرص الوصول إلى صفقة حتى ولو كان على حساب أرواح الأسرى، وهو الأمر الذي لم يَعُدْ سراً[2].
3- انسحاب ممثِّل الوسط مسألة وقت
يهدد بيني غانتس، ممثل التيار الوسطي بالائتلاف، وعضو مجلس الحرب بالاستقالة، حال واصل نتنياهو الإذعان لليمين المتطرف، ولم يكفَّ عن تلك التهديدات، على أساس رؤيته بأن إنقاذ حياة الأسرى أولى من استكمال أهداف الحرب في المرحلة الراهنة، ويرى أن تحقيق الأهداف، ومنها إسقاط حكم حماس وقدراتها العسكرية وسلطتها المدنية يمكن تحقيقه لاحقاً. ويَعُدّ المراقبون استقالته مسألة وقت، ولا سيما أن انضمامه للائتلاف بعد الحرب، جاء شريطة خروجه مع نهايتها[3].
4- الصدام مع الأحزاب الحريدية
يُعَدّ تجنيد الشباب الحريدي إشكالية ممتدة الجذور منذ تأسست إسرائيل في عام 1948، ووقتها اتفق ممثلو هذا التيار مع الحكومة التي شكلها دافيد بن غوريون David Ben-Gurion على مسألة الإعفاء مقابل التفرغ للدراسة الدينية، وقت أن كان الشباب المعفى يزيد قليلاً عن أصابع اليدين، ليبلغ الأمر ذروته في إعفاء 12 ألف دارس للتوراة سنوياً بحلول عام 2023، بواقع 16% من إجمالي عدد الإسرائيليين الذين بلغوا سن الخدمة الإلزامية في ذلك العام.
وأشعل قانون التجنيد الجديد أزمة كبرى داخل الائتلاف؛ إذ يحتم إلحاق دارسي التوراة من طلاب المدارس الدينية بالخدمة الإلزامية، أسوة بباقي القطاعات، وكأحد دروس حرب غزة، على عكس الوضع القائم الذي يتيح إعفاءات واسعة النطاق لتلك الطائفة المتشددة دينياً، الأمر الذي بدأ إثارة حفيظة المجتمع الحريدي، الذي يضم قرابة 1.3 مليون نسمة، فيما هدَّد ممثلو هذا التيار في الحكومة والكنيست بالاستقالة وإسقاط الحكومة لو مُرِّر القانون الجديد[4].
5- حَراك الشارع الإسرائيلي– زخم متزايد
تواجه الحكومة الإسرائيلية في المجمل اتهامات داخلية لا تتوقف بفشلها في تحقيق أهداف الحرب على غزة، وعجزها عن إعادة الأسرى، وحرصها على إطالة أَمَد الحرب لإنقاذ مستقبل نتنياهو. تلك الحكومة تصطدم بموجة احتجاجات لا تتوقف من قِبل عائلات الأسرى ومتضامنين، وتعجز عن حل أزمة عشرات الآلاف من النازحين من المستوطنات الشمالية والجنوبية، ولا يكف المراقبون عن اتهامها بالفشل والعجز أو جلب الخراب على إسرائيل وتدمير اقتصادها وصورتها أمام المجتمع الدولي وعلاقاتها مع واشنطن[5].
وعكست العديد من استطلاعات الرأي التي أُجريت في إسرائيل في الشهور والأسابيع الأخيرة استمرار تدني شعبية نتنياهو وحزب "الليكود"، لصالح منافسه الأقرب بيني غانتس، بما في ذلك عقب بَدْء العمليات العسكرية في مدينة رفح، جنوبي غزة، واحتلال المعبر البري بين مصر والقطاع في 7 أيار/ مايو 2024، وحتى مع الحديث عن نجاح التصدي للهجوم الإيراني بالمسيرات وبالصواريخ الباليستية، ومن ذلك استطلاع شركة "لازار للبحوث والاستشـــارات" التي أجرته بطلب من صحيفة "معاريف" في 10 أيار/ مايو 2024، وجاءت نتائجه وَفْق الشكل (1)[6].
شكل رقم (1): استطلاع حول سؤال: مَن الأجدر برئاسة الحكومة؟
المصدر: صحيفة معاريف
ثانياً: حرب غزة وآثارها على وضع إسرائيل الإقليمي والدولي
يركز هذا المحور على الأزمات التي تسببت بها حرب غزة وسياسات الحكومة الإسرائيلية على العلاقات الإسرائيلية، الدولية والإقليمية، وعلى صورة إسرائيل أمام المجتمع الدولي.
1- سوابق العلاقات الإسرائيلية الأمريكية
تتَّسم الأزمة بين واشنطن وتل أبيب في الشهور الأخيرة، على خلفية الحرب على غزة، بأنها أزمة علنية تتناقل وسائل الإعلام الدولية تفاصيلها وأبعادها، وسط ارتفاع سقف التصريحات والتسريبات التي تصدر عن مسؤولين رسميين في الجانبين بشأن تلك الأزمة، إضافة إلى تعبير زعماء البلدين عنها بشكل صريح، بما في ذلك القرار الأمريكي بشأن إرجاء تسليم الجيش الإسرائيلي أنواعاً محددة من القنابل، وهو القرار الناجم عن بَدْء عملية رفح من دون تنسيق[7].
الأزمات بين حكومة نتنياهو والبيت الأبيض لم تتوقف منذ تشكيل هذه الحكومة قبل عام ونصف العام، إلا أنها أخذت منحى آخر عقب عملية "طوفان الأقصى" والحرب التي تشنها إسرائيل على غزة تحت مسمى "السيوف الحديدية".
ذروة تلك الأزمة أعقبت بَدْء العمليات العسكرية في مدينة رفح وسيطرة الجيش الإسرائيلي على المعبر في 7 أيار/ مايو 2024، وهي العملية التي أعربت واشنطن عن معارضتها بشكل جذري؛ إذ لم تُبدِّد الخطط الإسرائيلية بشأن وضع المدنيين في رفح مخاوف البيت الأبيض بشأن كارثة إنسانية وشيكة يمكن أن تؤثر سلباً على شعبية الرئيس بايدن قُبيل الانتخابات الرئاسية[8].
وفي الأسابيع الماضية فرضت وزارة الخزانة الأمريكية سلسلة من العقوبات على مستوطنين أفراد، تورطوا في أعمال عنف ضد الفلسطينيين بالضفة الغربية، كما عادت وفرضت عقوبات ممثلة على تنظيمات متطرفة، قبل أن تلوح بعقوبات على كتيبة بالجيش الإسرائيلي، هي كتيبة "نيتساح يهودا" الحريدية، والتي اتسم سلوك أفرادها بالعنف المفرط، وبقيت مسألة العقوبات، خُطوة أمريكية لم يُعرَف لها مثيل في تاريخ العلاقات بين البلدين[9].
2-علاقات دولية متأزّمة
أدت السياسات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، والوضع الإنساني المتردي الذي يعاني منه مئات الآلاف من المدنيين بالقطاع، إلى تداعيات كبيرة على علاقات إسرائيل الخارجية، ومن بين الأمثلة على ذلك، إعلان الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو Gustavo Petro قطع علاقات بلاده مع تل أبيب، ما يعني خسارة الأخيرة سوقاً مهمة لصادرات السلاح الإسرائيلي، وبذلك أصبحت كولومبيا البلد الثاني في أمريكا الجنوبية الذي يقطع العلاقات عقب قرار مماثل اتخذته بوليفيا[10].
من جانب آخر ضربت أزمات عديدة علاقات تل أبيب بالاتحاد الأوروبي، على خلفية حرب غزة، وأطلق ممثلو الاتحاد تحذيرات واتهامات عديدة ضد إسرائيل، منها تعمُّد عرقلة وصول المساعدات الإنسانية إلى سكان القطاع، ومن ذلك تحذير الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل Josep Borrell بأن الآلاف من سكان غزة يعيشون في حالة مجاعة فعلية. كما بدأت دول مثل ألمانيا في بحث الانضمام لنظام العقوبات الأمريكية على المستوطنين العنيفين بالضفة الغربية[11].
وفي الوقت ذاته، أعلنت بلديات وهيئات تركية حملة شعبية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية على خلفية حرب غزة، وتضمنت حملات المقاطعة العديد من المنتجات والعلامات التجارية الإسرائيلية والداعمة لها. وقرر البرلمان التركي عدم بيع منتجات الشركات التي تدعم إسرائيل في حرم البرلمان، وأطلقت 24 بلدية في إسطنبول حملة مقاطعة ضد الشركات العالمية التي تدعم تل أبيب[12].
3- العلاقات الإسرائيلية الإقليمية وانسداد الأُفُق
عوَّلت إسرائيل كثيراً على الاتفاقيات الإبراهيمية من أجل بناء علاقات طبيعية مع السعودية ودول أخرى عربية وإسلامية، إلا أن الموقف الإقليمي الناجم عن حرب غزة في المجمل، وعن سقوط آلاف المدنيين الفلسطينيين وتقويض مفاوضات الأسرى أبعد فرص تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب في المرحلة الراهنة، وَفْق الكثير من المحللين الإسرائيليين، ومنهم إيهود يعاري Ehud Yaari، والذي رأى عقب اطلاعه على مواقف مسؤولين سعوديين وكُتّاب وصحافيين هناك، أن فرص التطبيع بين البلدين تبتعد، وأن الرياض لم تَعُدْ مهتمة ببناء علاقات طبيعية مع تل أبيب[13].
4- المحكمة الجنائية وهواجس أوامر الاعتقال
أدَّت التجاذُبات بشأن أمر الاعتقال المحتمَل الذي قد تُصدره المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ضد نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين، إلى حالة من القلق الشديد في تل أبيب. ولم يستبعد البروفيسور يوفال شاني Yuval Shani خبير القانون بكلية الحقوق بالجامعة العبرية وبمعهد إسرائيل للديمقراطية أن يُستدعَى نتنياهو وآخرون للمحكمة، مشيراً إلى أنه في اللحظة التي يصدر فيها أمر اعتقال، فإن كل دولة عضوة بالمحكمة ملزَمة بتوقيف المتهم فور وصوله إليها. ورأى أنه لو صدر قرار علني أو سري من المحكمة، فإن كل مسؤول إسرائيلي، سياسي أو عسكري، ضِمن منظومة صناعة القرار سيصبح داخل ما أسماها مجموعة الخطر[14].
5- حراك الجامعات الأمريكية والأوروبية
ساحة مهمة للغاية تعكس توجُّه الأجيال الأصغر سناً ونظرتها إزاء الصراع في الشرق الأوسط، هي ساحة الجامعات الأمريكية، والتي شهدت حَراكاً مكثفاً، احتجاجاً على الحرب على غزة، والإبادة الجماعية في القطاع، وبغرض حثّ الرئيس الأمريكي على قطع الاستثمارات من إسرائيل، ووقف تسليحها، في مقابل أعمال قمع مارستها الشرطة الأمريكية. ووصلت الاحتجاجات التي شهدتها الجامعات الأمريكية أيضاً إلى جامعات أوروبية في دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها[15].
وتجدر الإشارة إلى أن حَراك الجامعات بالولايات المتحدة يعكس توجُّه أبناء الجيل الأصغر سناً من الأمريكيين مقارنةً بالفئة العمرية الأكبر، والذي طفَا على السطح منذ بَدْء الحرب على غزة، وعكسته استطلاعات الرأي، ومن ذلك استطلاع مركز "بيو" للأبحاث، الذي أظهر تزايُد نسب رفض العمليات العسكرية الإسرائيلية، بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 29 عاماً، مقارنة بكبار السن، وجاءت النتائج وَفْق الشكل (2)[16].
شكل رقم (2): استطلاع حول موقف الأمريكيين الشباب مقارنة بكبار السن من الحرب الإسرائيلية على غزة
المصدر: سكاي نيوز عربية نقلاً عن استطلاع مركز بيو للأبحاث
الخاتمة
لا يوجد شك في أن تداعيات هجوم حماس على المستوطنات الإسرائيلية في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 شكَّل نقطة تحوُّل تاريخية لم تشهد إسرائيل لها مثيلاً، خلال العقود الخمسة الأخيرة؛ ومنذ حربها مع مصر وسورية عام 1973؛ إذ دفعت بغالبية قواتها العسكرية إلى حملة تحمل أهدافاً معلنة، مثل: إسقاط سلطة حماس وإعادة الأسرى الإسرائيليين وتوفير الأمن لسكان الجنوب ومنع تكرار مثل هذا الهجوم، وأهدافاً أخرى تنفيها رسمياً، فيبوح بها ممثلو اليمين المتطرف في مناسبات عديدة، منها: احتلال قطاع غزة وبَدْء منظومة استيطان فيه.
وبعد مرور 7 أشهر على تلك الحملة العسكرية، تبقى الأهداف التي سعت الحكومة الإسرائيلية إلى تحقيقها بعيدة المنال، وفي المقابل تشهد إسرائيل خسائر بشرية واقتصادية وسياسية ودبلوماسية، ربما يفوق حجمها ما تقول إنها حققته من إنجازات عسكرية، وباتت صورتها على الصعيد الدولي في أدنى مستوياتها، هذا بخلاف شبح الملاحَقات الدولية التي يمكن أن يحسمها قرار صادر من المحكمة الجنائية الدولية.
وفي ظل الأزمات الداخلية العديدة التي تواجهها حكومة نتنياهو على الصعيدين الداخلي والخارجي، ما زالت تلك الحكومة، السادسة في مسيرة نتنياهو المهنية، تبدو مستقرة نسبياً من زاوية القوى التي تشكل الائتلاف، وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن سقوط وشيك، غير أن هذا السقوط يرتبط بالمكاسب والخسائر التي سيواجهها شركاءُ الائتلاف الأساسيون، حال قررت كتلة من الكتل الائتلافية الانسحاب، ومن ثَمّ يتعين النظر إلى النقاط التالية:
1- بدائل الليكود: لم يطرح حزب "الليكود" الحاكم منذ سنوات شخصية بديلة مؤكدة، يمكن أن يلتفّ حولها الحزب والمنتسبون إليه، وتُطرح كبديل لنتنياهو حتى الآن. ومن ثَمّ يلفّ الغموض مستقبل رئاسة الحزب حال أُجريت انتخابات تمهيدية، في ظلّ المخاوف من إمكانية الذهاب إلى انتخابات عامة مبكرة هذا العام. وعلى الرغم من طرح بعض الأسماء المحتملة، إلا أن نتنياهو ما زال يحظى بشعبية داخل الحزب، ومن غير المتوقع حدوث مفاجآت أو تحوُّلات جذرية تدفع "الليكود" إلى الإطاحة بنتنياهو في الوقت الراهن، إلا حال حدوث مفاجآت.
2- تقارُب الرُّؤى والمصالح: إضافة إلى "الليكود"، يتشكل الائتلاف الحالي من الحزبين الحريديين "شاس" و"يهدوت هاتوراه"، بالإضافة إلى حزب "عوتسما يهوديت" الراديكالي المتطرف، وكتلة "الصهيونية الدينية" اليمينية المتطرفة، وحزب "نوعام" الأصولي، وانضم إليهم حزب "معسكر الدولة" بزعامة غانتس عقب الحرب الدائرة حالياً.
وعلى الرغم من اختلاف الأجندات السياسية والرؤى الأيديولوجية بين بعض مكوِّنات هذا الائتلاف، إلا أن لكل من الكتل التي تشكله مصلحة أساسية في البقاء؛ إذ حصلت هذه الأحزاب على مناصب وصلاحيات واسعة تمكنها من تمرير أجنداتها بشكل ربما لن يحدث مستقبلاً.
3- تأثير هامشي: على غرار استقالة ساعر، سيبقى انسحاب غانتس من الائتلاف -وهو أمر وارد- خُطوة هامشية، ولن يؤدي انسحابه المحتمل إلى تفكيك هذا الائتلاف، وسيبقى ضامناً لعدد نواب يبلغ 64 نائباً بالكنيست من أصل 120 نائباً، تمكنه من البقاء، والتصدي لمقترحات سحب الثقة التي ستطرحها المعارضة على غرار ما حدث حتى الآن.
4- تفوُّق نظري: تُظهر استطلاعات الرأي تقدُّم غانتس على نتنياهو فيما يتعلق بسؤال "مَن الأجدر بتشكيل الحكومة؟"، إلا أن الأمر يبقى نظرياً حتى الآن، وسيكون على غانتس قطع مسيرة سياسية طويلة قبل تمكُّنه من تشكيل حكومة وبناء تحالُفات سياسية، وعلاقات دولية، فيما سيواجه أزمة تتعلق باحتمالات النظر إليه كشريك في قرارات مجلس الحرب، أو شريك في فشل الحكومة في حلّ القضايا العالقة أو حسم الحرب وإعادة الأسرى.
5- قوة الشارع: ينظر الشارع الإسرائيلي إلى نتنياهو وحكومته باعتبارها تسببت في أزمات عميقة لم تعرفها البلاد من قبل، ولا سيما مع عجزها عن حلّ القضايا العالقة، وعلى رأسها ملفّ الأسرى، وسط اتهامات لا تتوقف بتعمُّد نتنياهو إطالة أَمَد الحرب لإنقاذ مستقبله السياسي على حساب أرواح هؤلاء الأسرى.
وأصبح نتنياهو في نظر الشارع الإسرائيلي المسؤول عن تدهور العلاقات الدولية لإسرائيل، ولا سيما مع الولايات المتحدة، والمسؤول عن تدنِّي صورة إسرائيل في الخارج، وقيادة البلاد نحو المجهول، ومن دون خطط إستراتيجية للخروج من الحرب.
ورغم موجة الاحتجاجات، غير أن تجارب الشهور الأخيرة أثبتت أن الشرطة الإسرائيلية، تحت قيادة وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، يمكنها تفعيل الحد الأقصى من عمليات القمع بحق المتظاهرين، كما أن تسبُّبَ الاحتجاجاتِ ذاتِها أو قمعِها من قِبل الأمن في سقوط حكومة نتنياهو هي مسألة نظرية، من الصعب تطبيقها عملياً، حيث لا يُنتظر أن تنسحب إحدى الكتل الائتلافية احتجاجاً على قمع المتظاهرين.
6- ورقة الأمن: يبقى موقف الشارع الإسرائيلي ورقة ضغط مهمة على الحكومة الإسرائيلية، إلا أنه لا يتعين القياس على الشارع، الموجَّه من قِبل وسائل الإعلام المحلية، للظن بأنه سيسير باتجاه إسقاط نتنياهو بالقوة، خاصة أن رئيس الوزراء لديه من الخبرات الكافية لتوظيف ورقة الأمن ومخاوف الشارع الإسرائيلي من التهديدات الخارجية؛ لوَأْد موجة الاحتجاجات، وهو ما تجلَّى بشكل واضح عقب الهجوم الإيراني الأخير بالمُسيَّرات والصواريخ الباليستية.
7- عامل الانتخابات الأمريكية: للانتخابات الأمريكية التي تنطلق هذا العام تأثير مهم على مسار سياسات الرئيس جو بايدن والحزب الديمقراطي تجاه إسرائيل، ومن خلال قراءة المشهد منذ اندلاع الحرب، سيتضح أن الرئيس الأمريكي يحاول انتهاج سياسات متوازنة تجمع بين امتصاص غضب الشارع الأمريكي والناخبين، وبين استمرار دعم إسرائيل سياسياً وعسكرياً وفي المحافل الدولية.
وشكلت النقاط الخلافية بين الجانبين الأمريكي والإسرائيلي ملفاً هامشياً؛ إذ لم يُثبَت أن الخلافات تركت أثراً كبيراً على سير الحرب أو إبرام صفقة أسرى أو وقف التصعيد على الجبهة الشمالية بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله. في المقابل جاء التلويح الأمريكي بعصا المساعدات العسكرية والتسليح متناقضاً مع خُطوات تقطعها واشنطن على الأرض في هذا الصدد، وهو ما جعلها أقرب إلى الخُطوات الدعائية والرمزية.
وعلى الرغم من ذلك، واحدة من أكبر الأزمات التي تعرضت لها إسرائيل وارتبطت بنتنياهو وحكومته هي صورتها على الصعيد الشعبي في الغرب، والتي عكستها تظاهرات الجامعات الأمريكية والأوروبية، لتعكس توجُّهات جيل الشباب، والتعاطُف الذي أظهرته منصات التواصل الاجتماعي مع معاناة سكان غزة. أضف إلى ذلك هواجس أمر الاعتقال المحتمل من المحكمة الجنائية الدولية، والذي يفترض أن يضع اسم نتنياهو في سجلّ مجرمي الحرب، ومن ثَمّ سيُنهي إرثه السياسي، كأحد زعماء إسرائيل الأكثر بقاءً في الحكم.
8- عودة الجمهوريين المحتملة: لا تحمل الأزمة بين تل أبيب وواشنطن تأثيراً مباشراً على مستقبل حكومة نتنياهو، والأخير يُعوِّل على الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي قد تطيح بالرئيس الديمقراطي، وتعيد المرشح دونالد ترامب والجمهوريين، ووقتها سيشكل الأمر قوة دافعة لائتلاف نتنياهو. ويمكن افتراض أن نتنياهو وائتلافه يعدون الساعات لمرور الشهور القليلة المقبلة، ولديهم مصلحة في عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض.
9- فقدان زخم التطبيع: خلقت السياسات الإسرائيلية الحالية أزمة لدى دول عربية كانت بصدد توقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وهو توجُّه طالما سعت إسرائيل لتحقيقه لبناء شرق أوسط مختلف، إلا أن الحرب والوضع الجديد يمكنه إلى حدّ كبير تقويض تلك الجهود، كما أنه قد يعني مرحلة من فتور العلاقات بين تل أبيب وبين الدول التي وقعت معها على اتفاقيات سلام.
10- سيناريو السقوط: يبقى سيناريو السقوط قائماً، ويعتمد على قاعدة أساسية هي انسحاب شركاء اليمين المتطرف من الحكومة، وهؤلاء حددوا بدورهم خطوطاً حمراء أمام نتنياهو، تشدد على عدم وَقْف الحرب على غزة، وحتى لو نجح الجيش الإسرائيلي في إسقاط سلطة حماس وقدراتها العسكرية.
ومن ثَمّ يعتقد المراقبون أن السبيل الوحيد أمام نتنياهو للبقاء هو استمرار الحرب على غزة، والوصول إلى قادة حماس الكبار وإعادة الأسرى؛ لرسم صورة تُوحي بالنصر، أو نقل تلك الحرب إلى جبهة أخرى، رغم الفاتورة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الباهظة، وإلا ستسقط حكومته بفعل انسحاب اليمين المتطرف.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)
الهوامش:
[1] "إسرائيل: الوزير ساعر يعلن استقالته من الحكومة في ظل الحرب"، موقع i24news (تل أبيب)، 25 آذار/ مارس 2024، الرابط.
[2] "بن غفير وسموتريتش يهددان نتنياهو بإسقاطه إذا توقفت الحرب"، سكاي نيوز (أبو ظبي)، 30 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط.
[3]"غانتس: إعادة المحتجزين أهم من رفح، وتهديد بإسقاط حكومة نتنياهو إذا تراجع عن غزو المدينة"، صحيفة الشرق الأوسط (لندن)، 28 نيسان/ إبريل 2024، الرابط.
[4] وحدة الدراسات السياسية، أزمة تجنيد الحريديم ومستقبل ائتلاف حكومة نتنياهو، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة: 21 نيسان/ إبريل 2024، الرابط.
[5] "بعد نصف عام على الحرب: الهزيمة الحقيقية هي حكومة نتنياهو السادسة"، موقع كالكاليست (بالعبرية)، 7 نسيان/ إبريل 2024، الرابط.
[6] موشي كوهين، "الليكود في تراجع، والمعارضة في ارتفاع، وهناك حزب مفاجئ تجاوز نسبة الحسم"، صحيفة معاريف (بالعبرية)، 10 أيار/ مايو 2024، الرابط.
[7] كيرن بتسلئيل، "رئيس الوزراء نتنياهو: سنحارب بأظافرنا لو تطلب الأمر"، قناة الأخبار 12 (بالعبرية)، 9 أيار/ مايو 2024، الرابط.
[8] جيمس لانديل، "لماذا لجأت الولايات المتحدة أخيراً إلى تعليق شحنات الأسلحة لإسرائيل؟"، بي بي سي (لندن)، 8 أيار/ مايو 2024، الرابط.
[9] حاني إدري، "الكشف عن أسباب فرض عقوبات أمريكية على نيتساح يهودا"، موقع سروغيم (بالعبرية)، 24 نيسان/ إبريل 2024، الرابط.
[10] يوفال أزولاي، "صواريخ ومدافع ومقاتلات كافير: هل هناك مخاطر بشأن الصادرات الإسرائيلية العسكرية إلى كولومبيا؟"، موقع كالكاليست (بالعبرية)، 2 أيار/ مايو 2024، الرابط.
[11] "أوروبا وإسرائيل.. علاقة تتجه نحو صدام محتمل" سكاي نيوز عربية (أبو ظبي)، 19 آذار/ مارس 2024، الرابط.
[12] "تركيا وإسرائيل.. حملة مقاطعة اقتصادية وتراجع التبادل التجاري"، سكاي نيوز (أبو ظبي)، 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط.
[13] إيهود يعاري، "التطبيع مع السعودية يبتعد"، قناة الأخبار 12 (بالعبرية)، 27 شباط/ فبراير 2024، الرابط.
[14] يوفال برومر، "المغزى الدراماتيكي لصدور أوامر اعتقال بحق المسؤولين الإسرائيليين في لاهاي، قناة الأخبار 12 (بالعبرية)، 24 نيسان/ إبريل 2024، الرابط.
[15] عبد الباري فياض، "طوفان الجامعات ضد إسرائيل"، صحيفة إيلاف (الرياض)، 2 أيار/ مايو 2024، الرابط.
[16] "استطلاع: الشباب الأمريكي أكثر انتقاداً لإسرائيل مقارنةً بغيرهم"، سكاي نيوز عربية (أبو ظبي)، 22 آذار/ مارس 2024، الرابط.