زيارة السوداني لواشنطن ومستقبل الوجود العسكري الأمريكي في العراق

زيارة السوداني لواشنطن ومستقبل الوجود العسكري الأمريكي في العراق

2024-04-29
1125 مشاهدة
Download PDF

 

تمهيد

جاءت زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى العاصمة الأمريكية واشنطن في  15 نيسان/ إبريل الجاري، في ضوء بيئة أمنية معقدة تشهدها منطقة الشرق الأوسط، فإلى جانب التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية المعقدة التي يعيشها العراق، وتحديداً في إطار العلاقة مع الولايات المتحدة، فرضت مسارات التصعيد الإيراني الإسرائيلي مؤخراً مزيداً من الضغوط على الأجندة التي بحثها السوداني مع الرئيس الأمريكي جو بايدن.

ورغم أهمية الملفات التي ناقشها السوداني مع بايدن، فقد حظي موضوع الوجود العسكري الأمريكي في العراق، بأهمية كبرى، وهذا ما كان واضحاً في لقاءات السوداني مع المسؤولين الأمريكيين، خصوصاً أن هذه الزيارة تأتي في سياق استكمال أعمال اللجنة العسكرية العليا المعقودة بين بغداد وواشنطن، لإعادة تشكيل وضع القوات الأمريكية في العراق، في ظل مطالبات مستمرة من قِبل قوى الإطار التنسيقي الحاكم، وتحديداً الفصائل المسلحة المقربة من إيران، بإنهاء وجود هذه القوات، عبر وضع جدول زمني يحدد المدة اللازمة لانسحاب كل القوات من العراق، بما فيها قوات التحالف الدولي ضد "داعش".

تناقش هذه الورقة طبيعة الوجود العسكري الأمريكي في العراق، والأولويات الأمريكية والتحديات الأمنية المتصاعدة، والأهم التفاهمات التي توصل إليها السوداني مع بايدن، في تقرير مستقبل هذا الوجود.

 الوجود العسكري الأمريكي وسياق المطالبة بخروجه

شكّل الوجود العسكري الأمريكي في العراق بعد عام 2003، أحد أبرز المتغيرات الإستراتيجية التي أثرت في معادلات التوازن العسكري في الشرق الأوسط، في ظل عمليات صعود وهبوط للأنساق الإستراتيجية والمعقِّدات الإقليمية، ولأن إستراتيجية الدول هي في جانب كبير منها انعكاس لتفاعل مصالحها وقدراتها؛ ونتيجة نهائية لرغباتها وأهدافها على المستويين الوطني والدولي، فإن الإستراتيجية الأمريكية تتضمن المصالح والأهداف التي تنبع من تأثير المصالح القومية الأمريكية، باعتبارها المحور الذي تدور حوله إستراتيجيتها القومية.

تنظر الولايات المتحدة إلى وجودها العسكري في العراق، على أنه غاية ينبغي الحفاظ عليها، ليس فقط لأهمية العراق السياسية والاقتصادية، بل لأهميته العسكرية أيضاً، وذلك نظراً لموقعه الجيوسياسي المؤثر في التوازنات الإقليمية والدولية، وتحديداً في الشرق الأوسط؛ الذي بدأت تتزاحم فيه هوامش التأثير مع قوى دولية أخرى كالصين وروسيا، فضلاً عن قوى إقليمية بدأت تنشأ مجالات جيوإستراتيجية خاصة بها، والحديث هنا عن إيران، بحيث أصبحنا اليوم أمام بيئة إقليمية معقدة بتفاعلاتها السياسية والأمنية، هذا بالإضافة إلى الأدوار الإستراتيجية المؤثرة للفواعل من غير الدول، والحديث هنا أيضاً عن الفصائل المسلحة الموالية لإيران في العراق.

هندست الولايات المتحدة وجودها العسكري في العراق وفق صياغات أمنية جديدة، فربطت العراق باتفاقيات أمنية وسياسية واقتصادية، الهدف الأساسي منها، تأمين المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية في العراق، والحديث هنا ذعن "الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق، واتفاقية الإطار الإستراتيجي لعمل القوات الأمريكية في العراق" المبرمة بين البلدين عام 2008.

ثم تم بعد ذلك انسحاب الولايات المتحدة من العراق عام 2011، نتيجة للأعباء الإستراتيجية التي تحملتها، دون نجاحات تُذكر على صعيد البيئة الأمنية العراقية، بحيث أنتجت واقعاً سياسياً وأمنياً مأزوماً، ساهم بدوره في التأسيس لبيئة أمنية أنتجت صعود "داعش" في حزيران/ يونيو  2014، والذي سيطر على مساحات شاسعة من العراق، ورافق ذلك صعود كبير للفصائل المسلحة الموالية لإيران، والتي ربطت فعلها العسكري والأمني بالإستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط، والحديث هنا عن الدور العسكري الإيراني في سورية واليمن، وعلى هذا الأساس عادت الولايات المتحدة للعراق مرةً أخرى، ولكن هذه المرة تحت مظلة التحالف الدولي ضد "داعش" في عام 2016، وكانت المهمة الأساسية لهذا التحالف هو دحر التنظيم في العراق وسورية.

بعد إعلان العراق هزيمة "داعش" في كانون الأول/ ديسمبر 2017، أصبح وجود القوات الأمريكية والدولية، التي جاءت تحت مظلة التحالف الدولي، موضوع نقاش حاد داخل العراق، وخصوصاً من قبل الأطراف السياسية المرتبطة بإيران، وتحديداً بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، برفقة عدد من القيادات في الحرس الثوري والحشد الشعبي، لتكتب بداية فصل جديد من فصول المواجهة "السياسية – الأمنية" بين إيران والولايات المتحدة في العراق.

ونتيجة لعملية الاستهداف الأمريكي هذه؛ ضغطت القوى السياسية المقربة من إيران، باتجاه دفع البرلمان العراقي للتصويت على قرار نيابي في كانون الثاني/ يناير 2020[1]، يُلزم الحكومة العراقية بوضع جدول زمني  لمغادرة القوات الأجنبية والأمريكية العراق، وجاء هذا القرار مترافقاً مع أزمة سياسية حادة نتيجة تصاعد التظاهرات الاحتجاجية في العراق، ومن ثم استقالة حكومة عادل عبدالمهدي، لتدخل البلاد بعد ذلك في دوامة مغلقة من تصاعد للأحداث الأمنية، بين القوات الأمريكية والفصائل المسلحة الموالية لإيران، في ظل غياب واضح لمؤسسات الدولة العراقية، وعلى هذا الأساس أخذت الولايات المتحدة تعيد انتشارها العسكري في العراق من جديد، ففي الوقت الذي قامت به بتسليم بعض القواعد العسكرية للجانب العراقي، نتيجة للتفاهمات التي تم التوصل إليها مع حكومة مصطفى الكاظمي، عبر جولات الحوار الإستراتيجي التي انطلقت بين الطرفين، كما قامت بالمقابل بالتمركز في قواعد رئيسية أخرى، وتعزيزها أمنياً واستخبارياً وصاروخياً[2].

وعلى الجانب الآخر؛ أخذت الفصائل المسلحة الموالية لإيران تعيد خارطة انتشارها العسكري هي الأخرى، بحيث أصبحت تتمركز على أغلب خطوط الإمداد العسكري واللوجستي الأمريكي، وتحديداً في مناطق شمال العراق وغربها، بالاتجاه نحو الحدود السورية، فضلاً عن إيصال العديد من الأسلحة والمعدات لحلفائهم في الساحة السورية،  وجاء العنوان الرئيسي لهذه الإستراتيجية: استنزاف القوات الأمريكية حتى الانسحاب، وذلك بتفعيل الهجمات المسلحة على المعسكرات التي تتواجد فيها القوات الأمريكية، سواءً في العراق أو سورية، والتعويل على ردود أفعال أمريكية تستثير السيادة العراقية، وهو ما تحقق بعد اندلاع الحرب في غزة، إذ أدى الرد الأمريكي على هجوم شنته كتائب حزب الله العراقي على قاعدة أمريكية في شرق الأردن في كانون الثاني/ يناير 2024، عبر استهداف بعض قيادات الحشد الشعبي داخل بغداد، إلى تصاعد الضغوط لإخراج القوات الأمريكية من العراق، وهو ما دفع حكومة السوداني لمطالبة الإدارة الأمريكية بجدولة انسحابها من العراق، عبر تشكيل لجنة عسكرية عليا بين البلدين[3].

ومن ضمن أهداف أخرى، جاءت الموافقة الأمريكية على زيارة السوداني لواشنطن، لبحث مستقبل الوجود الأمريكي في العراق، ليشكل مدخلاً جديداً من مداخل نقاش العلاقات المستقبلية التي ستربط العراق بالولايات المتحدة، في ظل إصرار "سياسي – فصائلي" مقرب من إيران، ومهيمن على المشهد السياسي في العراق، عبر الإطار التنسيقي، على إيقاف أية تعاملات سياسية وعسكرية مع الجانب الأمريكي، ليضيف بدوره الكثير من علامات الاستفهام على التداعيات السياسية والأمنية والاقتصادية التي يمكن أن يتحملها العراق جراء فشل هذه الزيارة، فالمؤكد أن الولايات المتحدة لن تبحث وجودها العسكري في العراق فقط، بل سوف تتفاوض حول مختلف الملفات السياسية والاقتصادية الأخرى، وهذا ما ألمح إليه بايدن خلال لقائه مع السوداني، وأشار إلى تصميم أمريكي واضح بحماية القوات الأمريكية العاملة في العراق، فضلاً عن تأكيده على حماية أمن إسرائيل، وهو ما يفرض بدوره المزيد من التحديات على السوداني في كيفية الموازنة بين ضغوط إيران وحلفائها وحاجات الولايات المتحدة، وتحديداً في المجال العسكري والأمني.

الأولويات الأمنية الأمريكية في العراق

منذ الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، وطبقاً لـ"الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق، واتفاقية الإطار الإستراتيجي لعمل القوات الأمريكية في العراق" المبرمة بين البلدين عام 2008، ركزت الإستراتيجية الأمريكية في العراق على التعاطي مع ثلاث قضايا ترتبط بالأمن العراقي والأمن الإقليمي الأوسع. 

أُولى هذه القضايا هي مواجهة "داعش"، فعلى الرغم من هزيمة "داعش" عسكرياً، واستعادة السيطرة على أغلب المناطق التي كان يسيطر عليها في مناطق شمال العراق وغربها بحلول كانون الأول/ ديسمبر 2017، وهو الجهد الذي أدت فيه الولايات المتحدة دوراً فاعلاً عبر التحالف الدولي، وبالتنسيق مع القوات الأمنية العراقية، إلاّ أن الهجمات المتكررة التي يقوم بها التنظيم بالوقت الحالي، تشير بأن هناك المزيد الذي ينبغي على الولايات المتحدة أن تفعله في العراق، وهذا الملف كان محور النقاش الذي دار بين السوداني ووزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن[4].

وتتمثل القضية الثانية بدور إيران في العراق؛ فقد بات العراق منذ عام 2003، حلبةً رئيسية للتنافس الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإيران، وبذلت الولايات المتحدة جهوداً كبيرة لاحتواء النفوذ الإيراني في العراق، واستشعرت خطورة التوسع الإيراني في العراق في مرحلة ما بعد "داعش"، وأدركت أهمية ألاّ يُسمح للفصائل المسلحة التي تديرها إيران، بالهيمنة على المنظومة الأمنية والبِنْية السياسية في العراق، وجعْل العراق جزءاً من إستراتيجية إيران للهيمنة الإقليمية، ومن ذلك أن يكون جسراً برياً واصلاً بين إيران وسورية فلبنان، إضافة إلى أن إيران تستغل العراق ليكون رئةً تتنفس منها اقتصادياً، وتخفيف أثر العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران. وإثر التصعيد الإيراني الأمريكي على أرض العراق منذ عام 2020، وضعت إيران هدفاً لسياستها في العراق يرتكز على إخراج القوات الأمريكية من العراق. وبالاعتماد على حلفائها من القوى الشيعية، السياسية والعسكرية، ودفعت قوات التحالف الدولي، وضمنها القوات الأمريكية، إلى تقليص وجودها وإعادة التموضع في العراق في أكثر من مرة.

وتتمثل القضية الثالثة بإصلاح قطاع الأمن في العراق، إذ بذلت الولايات المتحدة جهوداً كبيرة في إصلاح المنظومة الأمنية العراقية، سواءً على مستوى التدريب أو الاستشارة أو الدعم الفني واللوجستي، إذ تدرك الولايات المتحدة أن مغادرة العراق -وبالصورة التي تريدها قوى الإطار التنسيقي، وتحديداً الأجنحة المسلحة الموالية لإيران- سينعكس سلباً على جهودها الأمنية، خصوصاً في ظل قناعة راسخة لدى دوائر صنع القرار الأمني في الولايات المتحدة بأن حلفاء إيران سيفرضون سيطرتهم على مجمل المشهد الأمني في البلاد، وستكون التكنولوجيا العسكرية الأمريكية لدى الأجهزة الأمنية العراقية في متناول الفصائل المسلحة الموالية لإيران، وهو ما ترفضه الولايات المتحدة، وجعلت منه أحد الشروط التي تتطلب ضمانات حقيقية من قِبل حكومة السوداني بتأمين هذا الملف، قبل الحديث عن جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق.

تهديدات متصاعدة وقدرات محدودة

أظهرت الحرب على غزة طبيعة التعقيد الإستراتيجي الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط، كما أظهر ضعف قدرة حكومة السوداني على ضبط حركة الفصائل المسلحة الموالية لإيران، إذ انضوت أغلب هذه الفصائل ضمن هيكل عسكري جديد سُمي "المقاومة الإسلامية في العراق وسورية"، وشنت العديد من الهجمات على مواقع أمريكية، ما دفع إدارة بايدن في أكثر من مناسبة للضغط على حكومة السوداني للقيام بممارسة أدوار أكثر فاعلية في كبح جماح هذه الفصائل، وهي مخاوف أشار إليها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بليكن خلال لقائه مع السوداني أثناء افتتاح جلسات أعمال اللجنة العسكرية العليا بين بغداد وواشنطن[5].

بالتالي، يحتاج العراق إلى إستراتيجية جديدة لبناء قوات عسكرية كبيرة وقوية، بما يكفي لمواجهة التحديات الأمنية المتمثلة بـ "داعش"، وإشكاليات عدم حصر السلاح بيد الدولة، ولتأمين حدوده مع سورية وتركيا وإيران، ومن ثَم فإن زيارة السوداني للولايات المتحدة، يمكن أن تشكل مدخلاً لإعادة تقييم العلاقات الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، بحيث تؤدي الولايات المتحدة دوراً حاسماً في إعادة بناء قدراته العسكرية والأمنية التي استُنزفت خلال الحرب ضد "داعش". ووفق التقديرات الأمريكية تحتاج القوات العسكرية العراقية إلى عمليات إعادة تدريب وتأهيل لمدة تتراوح ما بين 3 إلى 5 سنوات على الأقل، لتكون قادرة على القيام بمهامها الأمنية، فضلاً عن أن العراق يحتاج إلى إعادة بناء منظومته التسليحية، وإعادة تشغيل العديد من القواعد العسكرية وصيانتها.

وإلى جانب ما تقدم أيضاً، فإن القوات الجوية العراقية لا تزال صغيرة ومحدودة جداً، وعلى الرغم من أنها تضم بعض الطائرات الأمريكية من طراز F-16، إلا أنها بدأت للتوّ في تطوير قدرات قتالية جوية حديثة، وما كان للعراق أن يهزم "داعش" دون دعم من الطائرات التابعة لقوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق، وبالإضافة إلى ذلك، لا يمتلك العراق أسلحة دفاع جوي أو منظومات صواريخ متطورة، أو نظام إنذار ومراقبة جوي، أو قدرات أرضية للدفاع الجوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع أي تهديدات عسكرية خارجية، وهو ما أكدته الردود الإيرانية والإسرائيلية مؤخراً، وسهَّل افتقار العراق للقدرات العسكرية والجوية استغلال إيران للأجواء العراقية في إرسال عشرات الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية تجاه إسرائيل عبر الأجواء العراقية، كما أن إسرائيل هي الأخرى استخدمت الأجواء العراقية في هجومها الأخير على قاعدة عسكرية في أصفهان وسط إيران[6].

 كما تحتاج المؤسسة العسكرية العراقية إلى تحقيق المزيد من التكامل الوظيفي على مستوى العمل العسكري، فعلى الأرض توجد اليوم ثلاث قوات عسكرية رئيسية، هي الجيش العراقي والحشد الشعبي والبيشمركة الكردية، وحتى اللحظة لم تُظهر هذه القوات التكامل الوظيفي في العمل الأمني الرسمي.

ولا شك في أن عملية تطوير القدرات العسكرية العراقية سيصيبها الشلل فيما لو تم الإصرار على إنهاء مهمة القوات الأمريكية في العراق بأي صورة، دون أن يكون هناك التزام إستراتيجي يربط علاقاتها بالعراق؛ فعملية الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، أدت إلى تصدعات كبيرة عانى منها الجيش العراقي في مواجهة هجمات "داعش" عام 2014، وعندما قررت الولايات المتحدة العودة للعراق عام 2016 ساعدت في دحر التنظيم، وحققت إنجازات أخرى على الأرض.

استحقاقات أمنية متبادلة

تُدرك الولايات المتحدة أن الحصول على التزامات مهمة وواسعة من حكومة السوداني، قد يشكل مدخلاً لدور أمريكي أكثر فاعلية في الساحة العراقية، خصوصاً الالتزامات المتعلقة بسلامة قواتها العسكرية الموجودة في العراق، وتأمين المصالح الأمريكية من أي تهديدات مستقبلية قد تصدر عن إيران وحلفائها في العراق. وهو ما أكد عليه بايدن في كلمته أثناء استقبال السوداني في المكتب البيضاوي، والأكثر من ذلك كله تُدرك الولايات المتحدة أهميةَ الضغط على العراق في إيجاد بديل لموارد الطاقة التي تحتاج إليها بدلاً من إيران، إذ إن استمرار استيراد العراق للطاقة من إيران، حجّم فاعلية سياسة العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وهو ما استغلته إيران وتحاول الإبقاء عليه خلال الفترة المقبلة.

كما أن التهديدات الجديدة التي فرضتها الحرب على غزة، والتصعيد الإيراني الإسرائيلي الحالي، جعل الولايات المتحدة تفكر في التداعيات المستقبلية لهذه التهديدات، خصوصاً في ظل تحذيرات أمريكية صدرت مؤخراً عن ظروف مهيِّئة لعودة تهديدات "داعش" مجدداً؛ فالوضع السياسي والاقتصادي المعقد الذي يعيشه العراق، وانخراط العديد من الفصائل المسلحة الموالية لإيران في سياق حرب غزة، جعلت البيئة العراقية الراهنة هشة أمنياً، لذلك تتطلع الولايات المتحدة التوصل إلى شراكة جديدة مع العراق عبر مباحثات اللجنة العسكرية العليا، أو إيجاد ترتيبات أمنية جديدة، تؤمن الوجود الأمريكي في العراق، إذ أشارت تصريحات بايدن وبلينكن خلال اللقاء مع السوداني إلى تأكيد أمريكي على الربط بين الوجود العسكري الأمريكي في العراق وأمن إسرائيل.

والواقع أن العراق هو الآخر يتطلع إلى تحقيق العديد من الحاجات والمصالح الإستراتيجية في الفترة المقبلة؛ فحكومة السوداني بحاجة للحصول على التزامات إستراتيجية من الولايات المتحدة لمواجهة تحديات حقيقية في المرحلة المقبلة، أبرزها معالجة الوضع الاقتصادي بسبب العقوبات الأمريكية على بنوك ومصارف مالية عراقية، وإبعاد شبح عودة "داعش"، وتحييد العراق عن آثار الصراع الإيراني الإسرائيلي، فضلاً عن تمكين العراق سياسياً وعسكرياً لتحقيق المزيد من السيادة والاستقلالية في القرار السياسي.

والتساؤُل الذي يطرح هنا هو: هل سيكون العراق بمنزلة شريك إستراتيجي أم مجرد طرف إقليمي تربطه علاقة مستقرة مع الولايات المتحدة؟

لا بد من القول مقدماً بأن هناك العديد من التحديات التي تفرض نفسها على أجندة زيارة السوداني لواشنطن، بعضها نابع من البيئتين الداخليتين العراقية والأمريكية، وبعضها الآخر إقليمي ودولي، إذ تناولت الحوارات التي أجراها بايدن مع السوداني في واشنطن، التحديات التي يمكن أن تفرضها إيران وحلفاؤها، إلى جانب قوى دولية أخرى كروسيا والصين، فلكلٍّ من هذه القوى الإقليمية والدولية الأسباب التي تدفعها إلى عرقلة أي جهود تهدف إلى تقويض مصالحها أو أهدافها، سواءً في العراق أو في دول الشرق الأوسط الأخرى؛ فأي اتفاق أو ترتيب أمني سيتمخض عن زيارة السوداني لن يقتصر على العراق فحسب، بل سيشمل أيضاً بنتائجه البيئتين الإقليمية والدولية، وهو ما يفرض مزيداً من الأعباء على العراق والولايات المتحدة. 

وحتى لو تمخضت زيارة السوداني عن وضع أُسس حقيقية لعلاقات إستراتيجية متوازنة بين العراق والولايات المتحدة، فإن العراق سيظل مطالَباً بتحمُّل المسؤولية الأساسية عن إصلاح عمليته السياسية، واقتصاده المرتبك، ووضعه الأمني الهش، ويتعين عليه أن يدرك أن الالتزامات التي تقدمها إدارة بايدن ستكون محدودة بحدود المصلحة الأمريكية، خصوصاً أن هناك التزامات أكثر أهمية بدأت تفرض نفسها على أجندة الإدارة الأمريكية، وتحديداً الحرب في أوكرانيا وغزة، وهو تحدٍّ ينبغي على العراق التعامل معه في المرحلة المقبلة.

سيناريوهات مستقبلية

بالنظر لطبيعة المحادثات الأمنية التي جرت بين السوداني والمسؤولين الأمريكيين، وتحديداً وزارة الدفاع والخارجية، فقد أشارت هذه المحادثات إلى مشهد تكتنفه درجة كبيرة من عدم اليقين، بخصوص مستقبل تواجُد القوات الأمريكية في العراق، ففي مقابل إعلان السوداني عن حاجة العراق إلى إنتاج وضع جديد للعلاقة مع الولايات المتحدة، وتحديداً في الجانب العسكري، إلاّ أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين خلال اللقاء مع السوداني أشارت بدورها إلى تصميم أمريكي على استمرار النهج الإستراتيجي ذاته في العراق، عبر التحول من الاتفاقات الأمنية إلى الشراكة الشاملة، ما يضع بدوره الوجود العسكري الأمريكي في العراق، أمام ثلاثة سيناريوهات مستقبلية هي:

السيناريو الأول: "المرجَّح": والذي يفترض بدوره استمرار تواجُد القوات  الأمريكية في العراق، إذ تنظر الولايات المتحدة إلى الوضع في العراق على أنه لا زال ضمن دائرة الخطر، بالنظر لطبيعة الصراعات الداخلية والخارجية المرتبطة به، وبالتالي فإن الانسحاب من العراق، يعني أن تكون الولايات المتحدة على استعداد للتعامل مع تداعيات هذا الانسحاب، كما أن إصرار إدارة بايدن على الربط بين قدرة العراق على تحمُّل مسؤوليته الداخلية والخارجية، وبين الانسحاب من العراق، يؤشر إلى طبيعة الاهتمام الأمريكي بالبقاء في العراق، نظراً لأهميته الجيوسياسية في المصالح الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط.

السيناريو الثاني: "المحتمل": والذي يفترض توصُّل الجانبين العراقي والأمريكي وفق سياق أعمال اللجنة العسكرية العليا، إلى دور جديد للقوات الأمريكية في العراق، سواءً عَبْر إمكانية دمجها ضِمن قوات التحالف الدولي، أو الإبقاء على عدد محدود جداً من المستشارين العسكريين والفنيين، إذ اتفق السوداني مع المسؤولين في الإدارة الأمريكية على استئناف جلسات اللجنة العسكرية العليا في منتصف حزيران/ يونيو المقبل، ويؤشر القبول الأمريكي بالتفاوض مع العراق على وضع هذه القوات إلى وجود تفهُّم أمريكي لطبيعة المطالب العراقية بضرورة إنتاج شراكة جديدة مع العراق، خصوصاً في ضوء الضغوط التي تمارسها قوى الإطار التنسيقي القريبة من إيران، إذ تسيطر هذه القوى على البرلمان والحكومة، وبالتالي تتحكم بمسار الحوار مع الولايات المتحدة، كما أن إدارة بايدن هي الأخرى بدأت تنظر لأهمية إعادة تشكيل دور القوات الأمريكية في العراق، خصوصاً أن أي إخفاق في هذا الملف، يمثل فرصة انتخابية للجمهوريين في سباق الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.

السيناريو الثالث: "المستبعَد": يفترض هذا السيناريو انسحاب الولايات المتحدة من العراق، وإنهاء الوجود العسكري، إذ يشير الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أيلول/ سبتمبر 2021، إلى جانب انسحابها السابق من العراق في كانون الأول/ ديسمبر 2011، إلى إمكانية أن تتقبل فكرة الانسحاب من العراق مرة أخرى، خصوصاً أن الظروف المحيطة بتواجُد القوات الأمريكية في العراق، أصبحت عدائية للغاية، في ظل عجز متواصل من قِبل الحكومات العراقية المتعاقبة -ومنها حكومة السوداني- عن كبح جماح الهجمات التي تشنها الفصائل المسلحة الموالية لإيران ضد المواقع والمقرات الأمريكية، ومن شأن استمرار هذه الهجمات أن تؤدي بالنهاية لخروج القوات الأمريكية من العراق، أو إعادة التمركز في قواعد عسكرية جديدة على الحدود مع العراق، وتحديداً في الأردن أو دول الخليج.

خاتمة

يمكن القول بأن المعيار الرئيسي لأي حوار إستراتيجي ناجح؛ سيكون عبر التزام الولايات المتحدة كدولة، وليس إدارة بايدن فقط، بالبقاء في مسار إستراتيجي واضح ومستقر في العراق، وفق جداول زمنية واضحة وصريحة، توضح التزامات الطرفين، وحقوق كل منهما وواجباته، إذ لا يمكن للولايات المتحدة أن تنجح بالانسحاب من العراق، بمجرد هزيمة "داعش"، أو احتواء إيران والفصائل الولائية المرتبطة بها، بل عبر وضع برامج واضحة وشاملة، تساعد العراق كدولة ومؤسسات على الحياة، وضبط مؤسساته الأمنية والمدنية وتطويرها وتفعيلها، وصولاً لتحقيق الغاية النهائية المتمثلة، بعراق قادر على أن يكون عضواً فاعلاً في المجتمع الدولي، وقادراً على التأثير في التوازنات الإقليمية، وعنصر أمن واستقرار في الشرق الأوسط.

 

يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)

الهوامش:

[1] البرلمان العراقي يُصدّق على قرار يُلزم بإخراج القوات الأجنبية، "الجزيرة نت"، 5 كانون الثاني/ يناير 2020، الرابط.

[2] بيان مشترك حول الحوار الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق، وزارة الخارجية الأمريكية، 7 نيسان/ إبريل 2021، الرابط.

[3] الحوار العراقي الأمريكي: تشكيل لجنة مشتركة لمراجعة مهام التحالف، المرصد، 24 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط.

[4] لقاء السوداني مع وزير الدفاع الأمريكي، الوكالة الوطنية العراقية للأنباء، 16 نيسان/ إبريل 2024، الرابط.

[5] السوداني وبلينكن يجتمعان في واشنطن ويبحثان تفعيل اتفاقية الإطار الإستراتيجي، موقع كردستان 24، 14 نيسان/ إبريل 2024، الرابط.

[6] مصادر: الهجوم الإسرائيلي على أصفهان لم يكن الأول، سكاي نيوز عربية، 19 نيسان/ إبريل 2024، الرابط.