الاعتراف بدولة فلسطين: زخم عالمي يصطدم بواقع توازُن القُوى دولياً

الاعتراف بدولة فلسطين: زخم عالمي يصطدم بواقع توازُن القُوى دولياً

2024-06-25
774 مشاهدة
Download PDF


مقدمة:

صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كان مفاجئاً لغلاف غزة، وللعالم. بالحد الأدنى هو حدث غير مسبوق في الصراع "العربي – الإسرائيلي"، لما أحدثه في إسرائيل، وعليها. الردّ الإسرائيلي على هجوم حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، كان كذلك غير مسبوق. تمادت إسرائيل في القتل والتدمير بشكل تخطَّى أي ردّ فعل منطقي.

لكن على وَقْع القتل والتدمير اللذيْنِ تعرّض لهما الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية منذ اندلاع الحرب، كانت القضية الفلسطينية تكسب دينامية عالمية، في أروقة السياسة، وفي الميادين، وكأنها تحيا من جديد على الصعيدين الرسمي والشعبي، بعد أن كانت في السنوات الأخيرة، قد شهدت تراجُعاً كبيراً في المحافل الرسمية، وعلى الصعيد الشعبي، عربياً ودولياً.

ومع استمرار تلك الحرب الإسرائيلية، خرجت العديد من الحكومات لتعلن اعترافها بدولة فلسطين أو استعدادها للاعتراف بها، لتُحدث بالتالي زخماً سياسياً ومعنوياً في المحافل الدولية، وعلى المستوى الشعبي. وحتى الآن ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، اعترفت بدولة فلسطين كل من إسبانيا، والنرويج، وأيرلندا، وسلوفينيا. قبل ذلك كانت سبع دول فقط من أصل 27 دولة تشكل الاتحاد الأوروبي، تعترف بدولة فلسطين؛ خمس من هذه الدول كانت مما عُرف سابقاً بدول المعسكر الشرقي، واعترفت بفلسطين عام 1988، وهي بلغاريا وتشيكيا وهنغاريا وبولندا ورومانيا، كما اعترفت بها قبرص في العام نفسه. وكذلك فعلت السويد في عام 2014، لتكون أول دولة في أوروبا الغربية، تعترف بدولة فلسطين.

وباعتراف الدول الأوروبية الأربع الجدد، يرتفع عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين إلى 147 دولة من أصل 193 دولةً عضواً في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما في ذلك معظم دول جنوب العالم، وروسيا والصين والهند. ويُذكر أن فلسطين هي دولة بصفة مراقب في الأمم المتحدة لكن غير عضو، وَفْق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012[1].

فيما يلي سنتناول الدول الجديدة التي اعترفت بدولة فلسطين، مع تبيان خلفيات هذا الاعتراف وظروفه ومعطياته، فضلاً عن تأثيراته المحتملة على القضية الفلسطينية داخل أوروبا وعلى الصعيد الدولي.

المناخ الدولي

أربع دول جديدة، اعترفت بدولة فسطين، وهي إسبانيا، والنرويج، وأيرلندا وسلوفينيا. ولكلّ من هذه الدول دوافعها الخاصة، على الرغم من أنها قد تشترك في عدد من العوامل التي فرضتها الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة، ومن بينها دوافع ترتبط بشكل العلاقة الثنائية مع إسرائيل، أو بأوضاعها السياسية الداخلية، وفي طبيعة الحال بعلاقتها بالقضية الفلسطينية. لكن قبل البحث في دوافع تلك الدول ومعطياتها، وما يمكن أن تنتجه من تأثيرات وديناميات، من المفيد التطرُّق بإيجاز إلى ظروف القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي، وما آلت إليه.

في السنوات الأخيرة، بدا أن القضية الفلسطينية أخذت تفقد حضورها، إذ دخلت في حالة من الانحدار دولياً، وحتى عربياً، بشكل خاص فيما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني، وعلى الأقلّ ما تمّ إقراره في القرارات الدولية 194 و242 و338، وما جرى الاتفاق عليه في السياسة الدولية، وتحديداً مسألة حلّ الدولتين. هذا التراجُع في حضور القضية الفلسطينية بدا أكثر حِدّة مع دخول الرئيس الأمريكي السابق الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2016، حيث أصبح الموقف الأمريكي شديد التأييد لإسرائيل بشكل علني ومباشر، فتمّ التنازل عما كان قد اعتُبِر من الثوابت أو من الأمور المتروكة إلى الحلّ النهائي، ومن بينها القدس، التي اعترفت بها واشنطن في عام 2017 عاصمة لإسرائيل، فضلاً عن التساهل إزاء الاستيطان مع ما يعنيه ذلك من تقويض لأي دولة فلسطينية مستقبلية.

وجاءت مبادرات التطبيع "العربي – الإسرائيلي" بدعم من إدارة ترامب، لتزيد من تراجُع القضية الفلسطينية وثوابتها، إذ على الرغم من أن الدول المطبِّعة حديثاً أكدت تمسُّكها بالحقوق الفلسطينية وبإقامة دولة فلسطينية، فإن مبادرات التطبيع أنهت مرحلة كانت بدأت عام 2002 بإعلان مبادرة السلام العربية القائمة بشكل خاص على مبدأ الأرض مقابل السلام.

كل ذلك أدخل القضية الفلسطينية في مرحلة جديدة عربياً ودولياً، ليُحدث تراجعاً في محوريتها، وفي مضمونها، يشبه ما حدث في أوائل التسعينيات، مع توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، التي جاءت بعد تغييرات في الأجندة الفلسطينية والعربية، وهي تغييرات كانت في جزء منها نتيجة غير مباشِرة للغزو العراقي للكويت، وتزعزع النظام العربي في أعقاب هذا الغزو.

في الواقع إن عهد الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن -وإن سجّل اختلافات مع عهد سلفه ترامب إزاء القضية الفلسطينية، إلا أنه- ظهر أن أي تغيير سيكون في التكتيك فقط، بينما تستمرّ إسرائيل في الاستيطان، ثم تأتي حكومتها اليمينية لترفض حلّ الدولتين، وتمعن في ضمّ الأراضي وتقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة.

في خضمّ هذه الظروف والمستجدّات، أتى هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ليخلط الكثير من الملفات، ويُحدث دينامية مليئة بالتناقضات على الصعيد الدولي، وهي دينامية أنتجها العامل الزمني، أي استمرار الحرب التي أعقبت الهجوم. فبداية ظهر دعم عالمي مهول إلى جانب إسرائيل، والقائم أولاً على السردية الإسرائيلية التاريخية، وثانياً على البروباغاندا التي ملأت الإعلام الغربي منذ عقود، وثالثاً على الأخبار التي ظهرت في هذا الإعلام يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. لكن استمرار الحرب، والقتل والتدمير غير المسبوقيْنِ اللذيْنِ مارستهما إسرائيل في حق غزة وسكانها، استدعى موجة تعاطُف عالمية غير مسبوقة مع الفلسطينيين، أولا ًعلى الصعيد الشعبي، وثانياً على صعيد العديد من الحكومات، وأدت بالتالي إلى لجوء عدد من الدول إلى الاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما سنتناوله فيما يلي، مع الحديث عن كل دولة على حِدَةٍ.

إسبانيا

يُعَدّ اعتراف إسبانيا بالدولة الفلسطينية، الأكثر أهمية حالياً، إذ إنها تشكّل ثقلاً معنوياً وثقافياً في الاتحاد الأوروبي، كما أنها القوة الاقتصادية الرابعة في الاتحاد الذي يتكوّن من 27 دولة (بعد ألمانيا وفرنسا وإيطاليا).

ولإسبانيا مواقف تميل تاريخياً إلى العرب أكثر من إسرائيل، وطالما عُرفت بمساندة جزء كبير من شعبها للقضية الفلسطينية، وبالتالي فإن الاعتراف بدولة فلسطين، وإن جاء متأخراً، لم يكن مفاجئاً. ولتوضيح دوافع موقف مدريد، لا بد من استعراض نبذة تاريخية سريعة للعلاقة بين إسبانيا وإسرائيل.

أقامت إسبانيا علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في 17 كانون الثاني/ يناير 1986، أي بعد نحو 38 عاماً من إعلان دولة إسرائيل في 14 أيار/ مايو 1948، وبعد نحو 37 عاماً من قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة في 11 أيار/ مايو 1949.

وبالتالي، كانت إسبانيا آخِر دولة أوروبية غربية تعترف بإسرائيل، علماً أن إقامة العلاقات الدبلوماسية سبقها الكثير من الإجراءات، والعديد من الزيارات السياسية. هذا التأخر في إقامة العلاقات الدبلوماسية يعود إلى عقود من التباعُد، سيطرت عليها العداوة في أحيان كثيرة. ففي عام 1949، عارضت مدريد انضمام إسرائيل إلى الأمم المتحدة[2]، مع العلم أن إسبانيا، التي كان يحكمها الجنرال فرانثيسكو فرانكو (1892 - 1975)، كانت تعاني آنذاك من عزلة دولية، ولم تكن عضواً في المنظمة الأممية. من جهتها، عارضت إسرائيل انضمام إسبانيا إلى الأمم المتحدة، حيث كانت تربط بين فرانكو والزعيم النازي أدولف هتلر، وذلك على الرغم من طلب عدد من اليهود السفرديم من إسرائيل التصويت لصالح انضمام إسبانيا[3].

وفي دلالة على ثقل الدور الذي لعبته إسرائيل لمنع انضمام إسبانيا إلى الأمم المتحدة، فإن وزارة الخارجية الإسبانية أصدرت في عام 1949 كتيباً من حوالَيْ 50 صفحة، بالإسبانية والإنكليزية والفرنسية، يقول إن مدريد قامت بدور كبير لإنقاذ اليهود الأوروبيين خلال الحرب العالمية الثانية أكثر مما قامت به الديمقراطيات الغربية[4].

ويُذكر أن إسبانيا فشلت بكسر الحصار المفروض عليها حتى عام 1955، حين نجحت في الانضمام إلى الأمم المتحدة، بعد دعم أمريكي كان ثمنه تعاوُناً عسكرياً برياً وبحرياً بدأ في عام 1953، أخضع فرانكو للأولويات العسكرية والسياسية الأمريكية، فيما ضَمن المعسكر الرأسمالي بقيادة واشنطن السيطرة الكاملة على المدخل الغربي للبحر المتوسط في ظل الحرب الباردة[5]. لكن على الرغم من التقارب "الأمريكي – الإسباني"، ظلت العلاقات "الإسرائيلية – الإسبانية" بشكل عامّ متوترة، وقد عملت الصحافة الإسبانية الموالية لفرانكو، على مهاجمة اليهود واتهامهم بالسعي لتدمير البلاد.

خلال سنوات طويلة، جرت العديد من الأحداث التي زادت من التوتُّرات بين إسبانيا وإسرائيل، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، مؤتمر العفو الشامل الذي انعقد في باريس في 25 آذار/ مارس 1961، والذي طالب بالإفراج عن كل سجناء الرأي والسياسة في غرب أوروبا وخاصة إسبانيا. واتهمت الصحافة الإسبانية آنذاك قيادات المؤتمر بأنهم مدعومون من إسرائيل وأنهم مجرد «امتداد للحقد اليهودي» على إسبانيا. وفي حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، رفضت إسبانيا طلب واشنطن منحها الإذن بالتحليق والهبوط والتموين لطائرات الجسر الجوي الذي كان يدعم إسرائيل[6].

في المحصِّلة، مع كل هذه الأحداث، وفي ظل مواقف الصحافة الإسبانية، التي استمرّت حتى السبعينيات، شهدت إسبانيا مناخاً رسمياً وإعلامياً مناهضاً لإسرائيل، وهو ما انعكس في طبيعة الحال على المزاج الشعبي بشكل عامّ. وبعد وفاة فرانكو عام 1975، ودخول إسبانيا مرحلة التحوُّل الديمقراطي، أخذت العلاقات "الإسبانية – الإسرائيلية" تشهد مدّاً وجزراً، تارةً من خلال التقارب الذي كانت تعمل عليه إسرائيل، وتارة من خلال التباعُد، بشكل خاص بسبب دعم المجتمع الإسباني للقضية الفلسطينية، وللعرب بشكل عامّ، فيما كانت تخرج أحياناً تظاهُرات حاشدة ضد إسرائيل مثل ما حصل بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

وفي عام 1986، اتفقت إسبانيا وإسرائيل على الاعتراف المتبادَل وتبادُل السفراء، وذلك نتيجة جهود إسرائيلية، وضغوط السوق الأوروبية المشتركة، فضلاً عن أن الجوّ العامّ الرسمي في أوروبا كان أصبح مؤيداً لإسرائيل بشكل عامّ، وداعماً لها، وبالتالي وجدت إسبانيا نفسها من الصعب أن تكون خارج هذا الإطار.

وشهدت العلاقات مع إسرائيل تطوُّراً كبيراً بعد المؤتمر الدولي للسلام الذي استضافته مدريد عام 1991، والذي شكّل اختراقاً أساسياً في الصراع "العربي – الإسرائيلي". لكن إسبانيا بقيت على تعاطُفها مع القضية الفلسطينية، وقد اتخذت العديد من المواقف الرافضة للسياسات والممارسات الإسرائيلية.

مما تقدم، يظهر أن العلاقات بين إسبانيا وإسرئيل، هي علاقات معقَّدة تحكمها عوامل سياسية بدأت بشكل خاص في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، واستمرت تأثيراتها طوال العقود اللاحقة، حيث مرّت بفترات من المدّ والجزر، كانت خلالها إسرائيل تسعى إلى كسب مدريد، بينما كانت الأخيرة تميل إلى دعم القضية الفلسطينية، مع الحذر عند استهداف إسرائيل سياسياً أو انتقادها، خوفاً من اتهامها بــ «معاداة السامية».

ويُذكر أن مدريد اتخذت في أيلول/ سبتمبر 2010، قراراً برفع درجة التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني الى درجة سفارة كاملة[7]، وتغيير مسمى رئيس البعثة إلى سفير، في خُطوة اعتُبِرت أنها تمهّد للاعتراف بدولة فلسطين.

إلا أن الموقف الإسباني لم يكن حادّاً بدعم الفلسطينيين على حساب إسرائيل، أو بالتشديد على هذا الدعم، والعمل من أجله، خصوصاً في السنوات الأخيرة، حيث دخلت القضية الفلسطينية في مرحلة من التراجع، وبالتالي ربما لم تجد مدريد نفسها مضطرة إلى الخروج عن المناخ الأوروبي والدولي بهذا الشأن.

لكن بعد اندلاع الحرب الأخيرة، كان للحكومة الإسبانية الاشتراكية، وللسياسيين الإسبان بشكل عامّ، مواقف عدة داعمة للفلسطينيين. ففي 15 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، طالب رئيس الوزراء بيدرو سانشيز إسرائيل بوقف «القتل الأعمى للفلسطينيين في قطاع غزة»[8]، فيما بدا أن الموقف الإسباني يتصاعد مع تصاعُد الحرب والمجازر ضد القطاع، ويُحدث بالتالي غضباً إسرائيلياً.

وتجدر الإشارة إلى أن سانشيز عيّن في حكومته سياسية إسبانية من أصول فلسطينية، تُدعى سيرا عابد ريغو، وزيرة للشباب والطفولة، علماً أن والدها وإخوتها مقيمون في الضفة الغربية.

على الصعيد المالي، أعلنت الحكومة الإسبانية في 13 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، زيادة المساعدات التي تمنحها للشعب الفلسطيني 100 مليون يورو أخرى، علماً أنها منحت الفلسطينيين 900 مليون يورو خلال العقود الثلاثة الماضية من خلال برامج التعاون المختلفة[9]. ومع الاتهامات التي أطلقتها الحكومة الإسرائيلية ضد وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (أونروا) بشأن مشاركة عدد من موظفيها في هجمات حركة حماس، علّقت بعض الدول تقديم العون للوكالة، لكن إسبانيا واصلت دعمها، حيث منحتها 20 مليون يورو في 7 آذار/ مارس الماضي[10].

على الصعيد الإسباني الداخلي، أعلنت بلدية برشلونة في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قطع العلاقات مع إسرائيل بشكل كامل إلى حين وقف إطلاق النار وضمان حقوق الشعب الفلسطيني، فيما قالت نائبة رئيس الوزراء الإسباني يولاندا دياز 24 أيار/ مايو، إن «فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر»، متعهدة بمواصلة الضغط من موقعها في الحكومة للدفاع عن حقوق الإنسان، ووضع حدّ للإبادة الجماعية التي تُرتكب ضد الشعب الفلسطيني[11]، في تصريح أثار غضب الإسرائيليين.

وعلى الرغم من أن الحكومة الإسبانية تؤكد صداقتها مع إسرائيل، لكن يبدو أنها تتفوق بخُطوات على دول أخرى في الشأن الفلسطيني، ليس بسبب الاعتراف بدولة فلسطين فحَسْبُ، بل كذلك لأنها أعلنت في السادس من حزيران/ يونيو الجاري، انضمامها إلى دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بشأن الإبادة الجماعية في غزة، وهو ما يعني ليس فقط تأييد فلسطين، بل أيضاً مخاصمة إسرائيل. ولم تنضمّ أو تعلن نيتها الانضمام إلى الدعوى، إلا دول قليلة، وهي نيكاراغوا وكولومبيا وليبيا وجزر المالديف ومصر وتركيا وأيرلندا، وبلجيكا، والمكسيك، وتشيلي.

النرويج

أتى اعتراف النرويج بدولة فلسطين بالتزامن مع إعلان إسبانيا وأيرلندا ذلك، في 28 أيار/ مايو الماضي[12]، ليشكّل دعماً إضافياً للقضية الفلسطينية. وأطلق وزير الخارجية النرويجي إسبن بارث إيدي، تعليقاً على قرار الاعتراف[13].

لكن بخلاف إسبانيا، لطالما كانت العلاقات بين إسرائيل والنرويج علاقات جيدة، إذ كانت هذه الأخيرة من بين أول الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل الوليدة، وتحديداً في 4 شباط/ فبراير 1949، أي حتى قبل انضمامها إلى الأمم المتحدة في 11 أيار/ مايو من العام نفسه.

ولدى النرويج وإسرائيل مشاريع مشتركة في الأبحاث والطاقة، كما أن أوسلو من بين أكبر المستثمرين في إسرائيل. فمع نهاية 2023، امتلك صندوق الثروة السيادي في النرويج، وهو أكبر صندوق سيادي في العالم (يبلغ حجمه 1.6 تريليون دولار)، استثمارات بقيمة 1.36 مليار دورلار، عبر 76 شركة في إسرائيل، من بينها استثمارات في العقارات والبنوك والطاقة والاتصالات[14].

في الوقت نفسه، لطالما دعمت النرويج عملية السلام في الشرق الأوسط. ولعلّ العامل المشترك مع إسبانيا يتمثل في أن البلدين استضافتا محادثات تاريخية للسلام، الأولى من خلال مؤتمر مدريد عام 1991، والذي شكَّل كما ذكرنا سابقاً اختراقاً أساسياً في الصراع "العربي – الإسرائيلي"، فيما استضافت الثانية محادثات أوسلو عام 1993.

وبعد اندلاع حرب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، سجّلت النرويج مواقف داعمة للفلسطينيين ومندِّدة بما يتعرضون له من قِبل إسرائيل. ومن بين هذه المواقف، على سبيل المثال لا الحصر، ما أعلنته وزارة الخارجية في آذار/ مارس الماضي، بأن «استخدام إسرائيل القوة العسكرية له تأثير شديد على المدنيين، ولا يتماشى مع القانون الإنساني الدولي»[15].

وكان وزير الخارجية النرويجي قال في 2 شباط/ فبراير الماضي، في تصريحات لقناة «الجزيرة»[16]، إن ما يحدث في غزة كارثة حقيقية، فيما أعلن أن بلاده ستواصل تمويل الأونروا، وقد أرسلت إليها 26 مليون يورو.

وعلى الرغم من أنها لم تنضمّ إلى دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، فقد دعت النرويج إسرائيل إلى الامتثال للتدابير الإضافية التي أمرت بها المحكمة. كما أكد ممثل النرويج في شهادة أمام هذه المحكمة أن إسرائيل تمارس عمليات ضمّ غير قانونية للأراضي الفلسطينية وتستخدم عدوانها العسكري لاحتلال الأراضي الفلسطينية، مشيراً إلى أن المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية هي من بين أكبر العقبات أمام السلام في المنطقة[17].

وفيما يؤكد أن أوسلو تخطو خُطوات تميل باتجاه دعم الفلسطينيين، فقد أعلن وزير خارجيتها في 21 أيار/ مايو الماضي، أنه في حال إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، فإن بلاده ملتزمة بتوقيفهما إذا زاراها، وذلك في تضارُب تامّ مع موقف الولايات المتحدة، التي أقرّ مجلس نوابها مشروع قانون يسمح بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية، إذا حققت أو حاكمت أشخاصاً محميين من واشنطن أو حلفائها، فيما تعثر إقرار هذا المشروع في مجلس الشيوخ[18].

أيرلندا

الدولة الثالثة التي اعترفت بدولة فلسطين، خلال الحرب الأخيرة، هي إيرلندا، وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وترتبط بعلاقات تاريخية مع الفلسطينيين، تعود إلى عقود خلت، حيث بدأت العلاقات بين الجانبين في آواخر السبعينيات من القرن الماضي، إذ كان يوجد في دبلن مكتب إعلام لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» فيما افتتحت الأخيرة تمثيلاً دبلوماسياً (مندوبية عامة) لها في أيرلندا عام 1993، بعد زيارة إلى البلاد قام بها رئيس المنظمة آنذاك الراحل ياسر عرفات[19].

وفيما يتعلق ببدايات العلاقات بين أيرلندا والقضية الفلسطينية، يقول الكاتب روري ميلر، وهو مؤلف كتاب «أيرلندا والقضية الفلسطينية بين عامَيْ 1948 و2004»، في مقال نشره في مجلة «فورين بوليسي»[20]: إنه في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، كان الأيرلنديون يتعاطفون بشكل مباشر مع الصهاينة، إذ كانوا يعتبرون أن هناك تشابُهاً بين معاناة الأيرلنديين ومعاناة اليهود، فضلاً عن أنهم يتشاركون تجربة الهجرة واسعة النطاق في القرن التاسع عشر.

لكن، بحسب الكاتب، فإن المفاهيم والمشاعر القومية الأيرلندية تجاه إسرائيل سرعان ما تغيرت، حيث أدى التمرد الأيرلندي ضد الحكم البريطاني إلى حرب أهلية مؤلمة تسبَّبت في ضمّ ستة من أقاليم شمال الجزيرة إلى التاج البريطاني. وبمجرد قبول الحركة الصهيونية لتقسيم فلسطين، بدأ الأيرلنديون في رسم تشابهات وتطابُقات صريحة بين السياسات الإسرائيلية ووضعهم المقسَّم. وبدت الدولة اليهودية في نظر العديد من الأيرلنديين أشبه بمستعمرة غير شرعية تأسّست بفعل القوة البريطانية، وتنوي فرض نفسها على السُّكّان الأصليين.

وبالتالي صار الأيرلنديون من أكثر الشعوب دعماً للقضية الفلسطينية، علماً أن الكثير منهم يقولون إنهم يلتحمون مع العالم الجنوبي في مواجهة الإمبريالية والاستعمار[21]. وفي الحرب الأخيرة على غزة، ظهرت المواقف الأيرلندية الداعمة لفسطين بشكل واضح، ومن بينها إعلان الحكومة في 28 أيار/ مايو الماضي، اعترافها رسمياً بدولة فلسطين، مشيرة إلى أنها «تعترف بفلسطين دولة ذات سيادة ومستقلة، وتوافق على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين دبلن ورام الله».

لكن دبلن اتخذت خُطوة إضافية لمواجهة إسرائيل، إذ أعلنت في آذار/ مارس الماضي، على غرار إسبانيا، أنها ستنضمّ إلى دعوى جنوب إفريقيا بشأن الإبادة الجماعية في غزة، فيما قال وزير الخارجية مايكل مارتن، عند إعلان الانضمام إلى الدعوى، إنه «طفح الكيل» من الممارسات الإسرائيلية. وفي 28 أيار/ مايو الماضي، أعلن مارتن أن الاتحاد الأوروبي بحث فرض عقوبات على إسرائيل إذا رفضت الامتثال لطلب محكمة العدل الدولية بوقف حملتها العسكرية في رفح فوراً، مؤكدًا أن بلاده «ستدعم مثل هذا التوجُّه (فرض عقوبات)»[22].

سلوفينيا

أعلنت سلوفينيا في الرابع من حزيران/ يونيو الجاري، الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين، لتصبح رابع دولة أوروبية، وثالث دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، تعلن هذا الأمر بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وعلى غرار الدول التي سبقتها، أكدت الحكومة السلوفينية أن قرارها «هو رسالة أمل وسلام»، مشيرة إلى أن «حلّ الدولتين فقط هو ما يمكن أن يؤدي إلى سلام دائم في الشرق الأوسط»[23].

ويُشار إلى أن 52 من أصل 90 عضواً في البرلمان صوتوا لصالح قرار الاعتراف بفلسطين، الذي عمل عليه الائتلاف الحاكم بزعامة «حركة الحرية» التي يرأسها رئيس الوزراء الحالي الليبرالي روبرت غولوب. وكان الحزب الديمقراطي السلوفيني اليميني المعارض بزعامة رئيس الوزراء السابق يانيز يانشا حاول إرجاء التصويت لمدة 30 يوماً لإجراء استفتاء استشاري حول المرسوم، وقدم مذكرة بذلك، لكن في جلسة صاخبة استمرت ست ساعات، وتوقفت مرات عدة لأسباب إجرائية، رفضت المذكرة بغالبية كبيرة وتم تمرير المرسوم.

ولا تمثل سلوفينيا ثقلاً كبيراً على الصعيد الأوروبي، وبالتالي فإن خُطوتها بالاعتراف بفلسطين لا تخرج عن إطار الدعم المعنوي، مع العلم أن لديها مناخاً شعبياً مؤيداً لفلسطين، حيث أكد استطلاع للرأي أُجري في نيسان/ إبريل الماضي ونشرته صحيفة «دنيفنيك»، أن نحو 60% من السلوفينيين أيدوا الاعتراف بدولة فلسطين، في حين عارضه 20% منهم.

التأثيرات المحتملة

بالتأكيد، فإن أي دولة إضافية تعترف بدولة فلسطين، من شأنها أن تُشكّل مكسباً، كونها تضيف صوتاً في الأمم المتحدة، وتزيد من دينامية القضية الفلسطينية وحضورها في العالم. لكن بطبيعة الحال، هناك دول تُشكّل ثقلاً أكبر، وبالتالي تأثيراً أكبر، أولاً للسببين المذكورين أعلاه، وثانياً لقدرتها على مساعدة القضية الفلسطينية معنوياً ومادياً، ولأنها تلفت الأنظار بشكل أكبر نحو القضية الفلسطينية وتدفع الدول المتردِّدة في الميل نحو اتخاذ مواقف مسانِدة لهذه القضية.

مع ذلك، هناك تأثيرات عامة تنتج عن كل اعتراف جديد بدولة فلسطين. وبالتالي بعد أن عرضنا دوافع الدول التي اعترفت بدولة فلسطين في الفترة الأخيرة وظروفها ومعطياتها، لا بد من البحث في تأثيرات هذه الاعترافات على القضية الفلسطينية، بشكل عامّ. فلهذه الاعترافات تأثيرات كثيرة، مباشِرة وغير مباشِرة.

ومن بين التأثيرات المباشِرة:

أولاً إن ازدياد عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، من شأنه أن يزيد من زخم الدعوى المرفوعة من قِبل جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، خصوصاً أن إسبانيا وأيرلندا اللتين اعترفتَا بدولة فلسطين انضمتَا إلى الدعوى، ما سيعززها بطبيعة الحال.

ثانياً الاعترافات المتتالية بدولة فلسطين، والتي تترافق مع إعلان رفض ممارسات إسرائيل، تعطي زخماً معنوياً للمحكمة الجنائية الدولية في تحرُّكها ضد إسرائيل، خصوصاً في ظل الهجمة الأمريكية عليها.

ثالثاً إن ازدياد عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، يزيد من مؤيديها والمتعاطفين معها في الجمعية العامة للأمم المتحدة (إلى الآن 147 من أصل 193 دولة، تعترف بها)، وبين الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن، وفي الوكالات التابعة للمنظمة الدولية، وهو ما من شأنه أن ينعكس في دعم فلسطين في المحافل الدولية، وحتى في المنظمات غير الحكومية الدولية أو المحلية، والتي يتعامل الكثير منها مع الأمم المتحدة. وبطبيعة الحال، سيعزز هذا الأمر موقف الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش والمسؤولين الأمميين في انتقاد الممارسات الإسرائيلية، وهو ما دأبوا على فعله في الفترة الأخيرة.

رابعاً إن توالي الاعترافات بدولة فلسطين يشجّع دولاً أخرى مترددة، لاتخاذ خُطوات مماثلة، وهو أمر متوقَّع، خصوصاً إذا طال أَمَد الحرب، واستمرّ القتل والتدمير في غزة، علماً أن عدداً من الدول أعلنت أو لمّحت إلى إمكانية اتخاذ قرار بذلك، ومن بينها بريطانيا وأستراليا ومالطا.

خامساً إذا كانت الحرب الحالية في غزة حاضرة في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، فإن التغطية الإخبارية لإعلان اعترافات الدول العديدة بدولة فلسطين، من شأنها أن تتضمن مواقف هذه الدول، مع ما تحمله من تأكيد على الحق الفلسطيني ورفض للممارسات الإسرائيلية.

سادساً إن اعتراف الدول بدولة فلسطين سينتج عنه مشاريع مشتركة ودعم مالي، فضلاً عن دعم على الصُّعُد التربوية، والعلمية، والاقتصادية وغيرها.

أما التأثيرات غير المباشِرة، فتتلخص على سبيل المثال لا الحصر، في التالي:

أولاً إن ازدياد عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، يشكّل مكسباً معنوياً وسياسياً على الصعيد الدولي، كونه يرفع من مكانة فلسطين الدولية، ويضفي شرعية على مطالبات الانضمام إلى الأمم المتحدة بعضوية كاملة، كما يضيف إلى شرعية حقوق الشعب الفلسطيني، المنصوص عليها في القانون الدولي وفي القرارات الدولية الصادرة على مدى عقود.

ثانياً الاعترافات بدولة فلسطين من شأنها أن تُلقي الضوء على القضية الفلسطينية بشكل عامّ، وتُعيد إحياءها في المحافل والمجتمعات التي خَفَتَ فيها حضورُها، كما أنها ستلقي الضوء على معاناة الفلسطينيين على مدى عقود، وصولاً إلى ما يتعرضون له من مجازر في غزة حالياً.

ثالثاً إن لجوء دول ذات ثقل ثقافي مثل إسبانيا، وذات صيت ديمقراطي مثل النرويج، إلى الاعتراف بدولة فلسطين، ومهاجمة ممارسات إسرائيل، ستكون له تأثيرات في كثير من المجتمعات والقوى السياسية حول العالم.

رابعاً قد تنعكس الاعترافات بدولة فلسطين، والتي ترفدها موجة التعاطُف العالمية، لدى عدد من الأحزاب على الصعيد الدولي، وربما في صناديق الاقتراع، مع ما يعنيه ذلك من احتمالات تبدُّل الأحزاب الحاكمة في بعض الدول، وبالتالي تبدُّل السياسات.

خامساً إن افتتاح سفارات فلسطينية في دول جديدة من شأنه أن يعطي زخماً دبلوماسياً للسياسة الفلسطينية، في الدول ذات الصلة.

سادساً التعامُل مع فلسطين كدولة، من قِبل دول جديدة، سينعكس على اللاجئين والمهاجرين الفلسطينيين المقيمين في تلك الدول، أو الذين يخططون لزيارتها أو الإقامة والعمل فيها.

في المقابل، هناك سؤال لا بد من طرحه: إضافة إلى كل تلك التأثيرات المباشرة وغير المباشرة، المفيدة بطبيعة الحال، هل من تأثيرات جوهرية على القضية الفلسطينية وعلى مستقبل فلسطين؟

إن الإجابة على هذا السؤال لا بد أن ترتبط بفهم موازين القُوى على الساحة الدولية، ولخريطة التدخُّلات، خصوصاً خلال الحرب الأخيرة على غزة، وهو ما يطرح مجموعة من العوامل والوقائع، التي تقوّض مكاسب الاعتراف بدولة فلسطين. ومن بين هذه العوامل والوقائع، ما يلي:

أولاً إن ارتفاع عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين إلى 147 من أصل 193 دولةً عضواً في الأمم المتحدة، على أهميته المعنوية، قد لا تنتج عنه مكاسب سياسية كبيرة، إن كان بخصوص الاعتراف بفلسطين بعضوية كاملة في المنظمة الدولية أو فيما يتعلق بوضع حدّ لإسرائيل ومحاسبتها في موضوع الحرب على غزة أو في قضية الاستيطان أو الاعتقالات أو غيرها.

ولعلّ أوضح دليل على ذلك، الفشل الذي واجهته الجمعية العامة في الفترة الأخيرة، فيما يتعلق بوقف الحرب على غزة، وهو أشبه بمحاكاة للتأثير المحتمل لازدياد الاعترافات بدولة فلسطين. ففي 13 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، صوّت أكثر من ثلاثة أرباع الدول أعضاء الجمعية العامة، لصالح قرار وقف إطلاق نار فوري إنساني في غزة، حيث حظي القرار بتأييد 153 من أصل 193 عضواً[24]. لكن القرار، على الرغم من أنه يعكس وجهة النظر العالمية، هو غير ملزِم.

في السياق ذاته، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من أيار/ مايو قراراً بغالبية 143 صوتاً، يدعم طلب فلسطين للحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، ويُوصي مجلس الأمن بإعادة النظر في الطلب بشكل إيجابي. لكن في مجلس الأمن، كأن شيئاً لم يكن[25].

ثانياً إن اعتراف الدول الأوروبية الأربع بدولة فلسطين، لا يعني الخروج التامّ عن سياسات الاتحاد الأوروبي، حتى من قِبل الدول غير المنضوية في الاتحاد، إذ إن هناك سياسات ومصالح مشتركة بين دول القارة بشكل عامّ. وبالتالي تواجه تلك الدول المؤيدة لدولة فلسطين، قيوداً ذاتية وأوروبية، تمنعها من التمادي في مواجهة إسرائيل من خلال قطع العلاقات الاقتصادية والعلمية وغيرها. وما يدلّ على ذلك، أن إسبانيا والنرويج وأيرلندا أقرّت بأن حدود الدولة الفلسطينية قد تتغير في محادثات التسوية النهائية.

ثالثاً إن الاعترافات بدولة فلسطين لا تشمل التطبيع مع الفصائل الفلسطينية، التي تصنّفها العديد من الدول «إرهابية»، على الرغم مما تملكه هذه الفصائل من تمثيل على الصعيد الشعبي، ومن كونها ممراً ضرورياً لأي مفاوضات مستقبلية وشريكاً أسياسياً في أي حلول أو ترتيبات.

رابعاً إن الدول الكبرى المعارِضة لسياسات الولايات المتحدة، نأت بنفسها عن الحرب على غزة وما يجري خلالها، فيما عدا الإدلاء ببعض التصريحات بين الحين والآخر، والتي يمكن وصفها بالخجولة مقارنةً بتصريحات واشنطن، القائمة على فكرة الدعم المطلق لإسرائيل وسردياتها اليومية. ولعلّ ذلك يشكّل محاكاة لمدى إمكانية كسب القضية الفلسطينية من زخم الاعترافات الدولية بدولة فلسطين.

خامساً إن تحقيق التيار اليميني المتطرف في أوروبا مكاسب في الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي (143 من أصل 720 مقعداً) يثير مخاوف من تمدُّد هذا التيار في القارة العجوز، وهو ما يمكن أن يقوّض أي دعم لدولة فلسطينية، والذي يقوم في جزء أساسي منه على الاشتراكيين واليساريين والتيارات الوسطية.

سادساً إن الأحداث والمجريات أثبتت أنه لا فَرْق بين الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة في جوهر التعامل مع القضية الفلسطينية، إذ يبدو بايدن حالياً مسلِّماً لإسرائيل، ويكرّر ما تقوله، على طريقة «إسرائيل أكدت لنا أنها لا تستهدف المدنيين، وإسرائيل أبلغتنا أنها حريصة على المدنيين»، وينتهي الموضوع عند هذا الحدّ. لكن على الرغم من ذلك، فإن عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض -وبشكل خاص ترامب- من شأنه أن يقوّض القضية الفلسطينية بشكل أكبر، وبشكل علني ومباشر وأسرع، على غرار ما جرى في ولايته الأولى.

خاتمة

لا شك أن إعلان عدد من الدول الاعتراف بدولة فلسطين، يشكّل مكسباً للقضية الفلسطينية، ويزيد من زخم ودينامية حضور هذه القضية على الصعيد الدولي، رسمياً وشعبياً، الأمر الذي من شأنه أن يرفد حقوق الشعب الفلسطيني، التي أقرّتها القرارات الدولية، بقوة دفع معنوية وسياسية.

وتختلف تأثيرات الدول التي تعترف بفلسطين، بحسب ثقل الدولة على الصعيد العالمي. على سبيل المثال، إذا كانت أهمية إسبانيا تكمن في ثقلها الأوروبي، الاقتصادي والثقافي، فإن أهمية النرويج، على الرغم من أنها ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، تكمن أولاً باعتبارها دولة رائدة ومثالاً عالمياً في كثير من مظاهر الديمقراطية والتنمية، وثانياً باعتبارها دولة صديقة لإسرائيل تعلن الاعتراف بدولة فلسطين.

إلا أنه على الرغم من كثرة تلك التأثيرات، المباشِرة وغير المباشِرة، وتشعُّبها، فإنها تصطدم بموازين القُوى على الساحة الدولية، وبأولويات الدول الكبرى، إذ مهما زاد عدد الدول التي تعترف بفلسطين، فإن أي استجابة للحقوق المشروعة في القضية الفلسطينية وأي ضغط على إسرائيل للالتزام بالقوانين الدولية، لن يمرا إلا عَبْر مسارين: الولايات المتحدة، ومجلس الأمن الذي تملك واشنطن فيه حق النقض.

وبالتالي، في ظل هذا النظام العالمي وقواعد مجلس الأمن الحالية، كل المكاسب تبقى محدودة، في تأثيرها على مستقبل الدولة الفلسطينية، إذا لم توافق واشنطن عليها. وطالما أن واشنطن لا ترضى بما يزعج إسرائيل، لن يتغيّر الوضع في أروقة السياسة.



يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)
الهوامش: 

[1] قدّم الرئيس الفلسطيني محمود عباس في أيلول/ سبتمبر 2011، طلباً إلى الأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطين. لكن بعد إعلان واشنطن أنها ستستخدم حق النقض في مجلس الأمن، عدّل الجانب الفلسطيني الطلب إلى طلب العضوية بصفة مراقب.

[2] وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة، على انضمام إسرائيل إلى المنظمة الأممية، بموجب القرار 273 الصادر في 11 أيار/ مايو 1949، وذلك بعد موافقة مجلس الأمن على هذا الانضمام، بموجب القرار 69 الصادر في 4 آذار/ مارس من العام نفسه.

[3] Gena, Olan,Franco's Spain and the Jewish Rescue Effort During World War Two, Phd Thesis, Duke University, 2013, pp. 138-142.

[4] Raanan Rein, Diplomacy, Propaganda, and Humanitarian Gestures: Francoist Spain and Egyptian Jews, 1956-1968, IBEROAMERICANA, vol 6, no 23, 2006, p. 22.

[5] Amany Soliman and Gulcin Coskun (Ed.), Guardians or Oppressors: Civil-Military Relations and Democratisation in the Mediterranean, Cambridge Scholars Publishing, London, 2015, pp. 27-29.

[6] Jacob Abadi, The road to Israeli–Spanish rapprochement, Israel Affairs, Vol 10, 2004, pp. 177–202, 2004.

[7] كان التمثيل الفلسطيني في إسبانيا قد تحول إلى مسمى المفوضية العامة لفلسطين في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1998 بعد أن كان تحت اسم «مكتب منظمة التحرير الفلسطينية».

[8] رئيس الوزراء الإسباني يطالب إسرائيل بوقف «القتل الأعمى للفلسطينيين في غزة»، «روسيا اليوم»، 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط.

[9] 100 مليون يورو إضافية.. إسبانيا تزيد من مساعدتها للفلسطينيين، «صوت بيروت»، 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، الرابط.

[10] إسبانيا تعلن مساعدة بقيمة 20 مليون يورو لوكالة الأونروا، «الحرة»، 7 آذار/ مارس 2024، الرابط.

[11] نائبة رئيس وزراء إسبانيا: فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر، الجزيرة نت، 24 أيار/ مايو 2024، الرابط.

[12] كان إيدي سلّم قبل ذلك بيومين، في بروكسل، وثائق لرئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى، تُظهر اعتراف النرويج بدولة فلسطين.

[13] Spain, Norway and Ireland formally recognize a Palestinian state as EU rift with Israel widens, AP, 28 May 2024, Link.

[14] ضغوط متزايدة على صندوق الثروة النرويجي لسحب استثماراته من إسرائيل، الجزيرة نت، 1 أيار/مايو 2024، الرابط.

[15] Why Norway’s Recognition of a Palestinian State Carries Significance. The New York Times, 22 May 2024, Link.

[16] وزير خارجية النرويج للجزيرة: ما يحدث في غزة كارثة حقيقية وحلّ الدولتين في مصلحة إسرائيل، الجزيرة نت، 2 شباط/ فبراير 2024، الرابط.

[17] Why Norway’s Recognition of a Palestinian State Carries Significance. The New York Times, 22 May 2024, Link.

[18] أعلن المدعي العامّ للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، أنه يسعى للحصول على مذكرات توقيف ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم تشمل "التجويع" و"القتل العمد" و"الإبادة و/أو القتل"، إلى جانب ثلاثة من قادة حركة حماس هم يحيى السنوار ومحمد ضيف وإسماعيل هنية.

[19] بعثة دولة فلسطين – أيرلندا، سفارات دولة فلسطين بالخارج، الرابط.

[20] Rory Miller, Why the Irish Support Palestine, Foreign Policy, 23 June 2010, Link.

[21] Lauren Frayer, Fatima Al-Kassab, Why Ireland is one of the most pro-Palestinian nations in the world, National Public Radio (NPR), 14 March 2024, Link.

[22] أيرلندا: الاتحاد الأوروبي بحث فرض عقوبات على إسرائيل، وكالة الأناضول، 28 أيار/ مايو 2024، الرابط.

[23] سلوفينيا تعترف رسمياً بدولة فلسطين، روسيا اليوم، 4 حزيران/ يونيو 2024، الرابط.

[24] حرب غزة: ماذا حدث داخل جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة؟ بي بي سي، 13 كانون الأول/ ديسمبر 2023، الرابط.

[25] كل ما تحتاجون معرفته عن قرار الجمعية العامة بشأن عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، أخبار الأمم المتحدة، الأمم المتحدة، 12 أيار/ مايو 2024، الرابط.