التنظيمات الجهادية في دول الساحل الإفريقي المخاطر وآفاق المستقبل

التنظيمات الجهادية في دول الساحل الإفريقي المخاطر وآفاق المستقبل

2023-12-08
1971 مشاهدة
Download PDF

 

 مقدمة

خلال القرن الحالي شهدت القارة الإفريقية تصاعُدًا مطَّرِدًا لنشاط الجماعات الجهادية في القارة، بدءاً من تمركز تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في الجزائر والمغرب، ثم في تونس، وظهور تنظيمات أخرى لاحقاً في سيناء ثم ليبيا، وما لحقه من تطوُّر بظهور تنظيم الدولة وتمدُّده إلى القارة الإفريقية بدءًا من عام 2014، حين بدأت بعض فروع تنظيم القاعدة بمبايعته بدءاً من كتيبة منشقة عن حركة الشباب في الصومال، مرورًا إلى بوكو حرام في شمال نيجيريا، وصولاً إلى كتيبة الملثمين التي تمركزت في عدة مناطق من مالي- جنوب الصحراء.

كان التمهيدُ الأبرز للواقع الجهادي الحالي -غرب القارة الإفريقية- سيطرةَ تنظيم القاعدة وعدة جماعات جهادية متحالفة معه في مالي على مدينة تمبكتو التاريخية في آذار/ مارس 2012، مما سمح بتصاعُد نشاط الجماعات الجهادية وتشكُّل فواعل متفرعة لها في مختلف دول المنطقة، إلا أن الانعكاس الأبرز آنذاك تمثّل بطلب الحكومة المالية من فرنسا التدخل لمواجهة التنظيمات الجهادية، الأمر الذي دفع فرنسا لإطلاق عملية "سيرفال" العسكرية في مالي في كانون الثاني/ يناير 2013 ثم توسّعت إلى بقية دول الساحل وجنوب الصحراء باسم عملية "برخان".

واجهت العملية تحدِّيات واسعة كان أبرزها هشاشة ضبط الأمن والحدود، وتوسُّع نشاط الجماعات الجهادية وتصاعُد نشاطها على نطاق جغرافي واسع امتدّ إلى النيجر وبوركينا فاسو، وظهور اضطرابات سياسية واسعة بدءاً من التمرُّد المسلح شمال تشاد بين عامَيْ (2016- 2021) وصولاً للانقلابين العسكرييْنِ في مالي في آب/ أغسطس 2020 وأيار/ مايو 2021، إلى جانب ظهور نشاط متصاعد لروسيا في المنطقة في مواجهة النفوذ الفرنسي، ووقوع انقلابات أخرى في بوركينا فاسو في كانون الثاني/ يناير 2022 والنيجر في أيار/ مايو 2023، مما أجبر فرنسا على الخروج من المنطقة إثر الضغوط الحكومية في هذه الدول الثلاث ضدها.

كان العقد الثالث من القرن الحالي نقطة تحوُّل جديدة في مسيرة الجماعات الجهادية في المنطقة في ظل تراجُع دور الدولة، والفشل السياسي والأمني الذي يعمّ المشهد، مما جعل من تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في منطقة الساحل -دول غرب إفريقيا- من أبرز الفواعل الأساسية في مشهد تصاعُد الأزمات وعدم الاستقرار والهشاشة الأمنية واستغلال الصراعات والنزاعات ذات الطابع القَبَلي والإثنيّ لمزيد من التمدُّد والتنافس، حيث تشهد منطقة الساحل الإفريقي منذ مطلع 2021 منافسات بين التنظيمين في معارك دموية أسفرت عن مقتل المئات من الطرفين خلال عامَيْ (2021- 2023)، وامتدت إلى إصدار خطابات إعلامية تحريضية بين الطرفين، ومساعٍ لاستقطاب القبائل في عدة مناطق من مالي، إلى جانب التوسع المتوازي نحو مناطق جديدة في الدول الثلاث، مما يؤكد وجود أهداف أبعد من إثارة القلاقل الأمنية والعسكرية في المنطقة، قد تترجم بإعلان إمارة جهادية فيها.

تسعى هذه الورقة إلى تقديم صورة تحليلية عن واقع الجماعات الجهادية في منطقة الساحل وتاريخ ظهورها وتطوُّرها، وتسليط الضوء على المخاطر الكامنة في استقرارها بالمنطقة وانعكاساتها المستقبلية.

أولاً: عملية "برخان" في دول الساحل.. السياق والأسباب

سياق العملية بين التطوُّر والتقهقر

مع سيطرة الجماعات الجهادية التابعة للقاعدة على أقاليم شمال مالي الثلاثة -تمبكتو، وغاو، وغيدال- تدخّلت فرنسا بطلب من الحكومة المالية مطلع كانون الثاني/ يناير 2013 عسكريّاً بهدف إخراج الجماعات الجهادية من هذه الأقاليم وتفكيكها، تحت مسمّى عملية "سيرفال" إلا أنها أعلنت في آب/ أغسطس عام 2014 عن توسيع نطاق العملية لتشمل دول الساحل الخمس (مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، ونيجيريا، وتشاد) تحت مسمى "برخان".

تمركزت قوات المشاة الفرنسية في مالي في حين أن مدينة نيامي (عاصمة النيجر) كانت مركزاً للعمليات الجوية، أما قيادة العمليات فكانت في العاصمة التشادية نجامينا، وقد تنوعت مهمات العملية، حيث ساندت الرئيس التشادي "إدريس ديبي" ضدّ هجمات قوات الأحزاب التشادية المسلحة بين عامَيْ (2016- 2021).

استطاعت عملية برخان السيطرة على شمال مالي، إلا أنها واجهت مخاطر أخرى تمثلت بتوزُّع الجماعات الجهادية في عدة دول وسط القارة الإفريقية، فتمددت هذه الجماعات إلى النيجر وبوركينا فاسو والكاميرون وصولاً إلى شرق الكونغو وغرب أوغندا وجنوباً في موزمبيق، مما يؤكد أن التنظيمات الجهادية باتت تتوزع في مناطق مختلفة على طول القارة الإفريقية من القرن الإفريقي إلى الساحل.

وقد وسعت الأمم المتحدة نطاق العملية العسكرية في الساحل وشكلت بعثة قوات عسكرية لحفظ السلام في المنطقة "مينوسيما" ، قوامها نحو 12 ألف عنصر من عدة دول غربية وإفريقية وآسيوية، ومع ظهور نشاط متصاعد لتنظيم الدولة في النيجر وشرق مالي وبعض مناطق شمال مالي، أطلقت فرنسا عملية "تاكوبا" في يوليو/ تموز 2020 بهدف تدريب القوات المالية بمشاركة من بعض الدول الأوروبية، كالتشيك والسويد وإيطاليا وبلجيكا.

مرت العملية في عموم منطقة الساحل بعدة أزمات -سيُشار إليها لاحقاً- مما دفع فرنسا لتغيير سياسة العملية في المنطقة خاصة في مالي، بدءاً من العمل على تخفيض عدد القوات في مالي وصولاً إلى إنهائها، ونقل القوات العسكرية الفرنسية من مالي إلى النيجر.

تجلى هذا الموقف إثر الانقلاب العسكري على رئيس مالي والحكومة المؤقتة في 24 أيار/ مايو 2021، إلى جانب سعي الحكومة العسكرية لاحقاً لتنفيذ حوار وطني مع الجماعات الجهادية المبايعة للقاعدة في مالي، وإطلاق بعض القيادات العسكرية الجهادية من تنظيمَي القاعدة والدولة، بهدف دفعها لخفض عملياتها العسكرية ضد الجيش المالي، إلى جانب التقارب المتصاعد مع روسيا ومشاركة بعض الوحدات العسكرية التابعة لفاغنر بتدريب وحدات من الجيش المالي في حزيران/ يونيو 2021.

وقد صرح الرئيس الفرنسي في 10 حزيران/ يونيو 2021 برؤية فرنسا الجديدة حول تقليص عدد الجنود الفرنسيين في مالي، وانضمام بعض وحداتهم إلى قوات عملية "تاكوبا" التي تهدف لتدريب قوات مالي والجيوش الأخرى في الساحل، وصولاً إلى إنهاء عملية "برخان" بعد ثماني سنوات من العمليات العسكرية في دول الساحل، حيث أعلن الرئيس الفرنسي عن إنهاء العملية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وقد سبق ذلك مغادرة الجنود الفرنسيين مالي في آب/ أغسطس 2022.

من الملاحَظ أن إجراءات تغيير سياسة العملية وإستراتيجيتها جاء بعد نجاح الجنرال آسيمي غويتا -الرافض للوجود الفرنسي في مالي- في انقلابه في أيار/ مايو 2021، وترافق ذلك مع تعاوُنه مع ميليشيا "فاغنر" لتحلّ محلّ القوات الفرنسية في تدريب القوات الماليّة[1].

عوامل تراجُع عملية برخان في الساحل

ركزت عملية برخان في الساحل على استهداف الجماعات الجهادية بدايةً، إلا أنها تطورت لاحقاً إلى دعم المجتمعات الحكومية المرفوضة من قِبل الحواضن الشعبية، كما هو الحال في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، إلى جانب إعلانها عن سعيها لتطوير قُدُرات جيوش المنطقة عسكريّاً ولوجستيّاً، وشهدت العملية تراجُعاً مهمّاً منذ عام 2014، وذلك لعدة أسباب، أهمها:

1. الفشل في تحقيق أهداف العملية، فبالرغم من أن الهدف المعلن للعملية هو تفكيك وإنهاء الجماعات الجهادية، إلا أن الواقع كان عكس ذلك، حيث تصاعد نشاط هذه الجماعات في جميع دول الساحل، وأضحت تهديداتها في عام 2022 -آخِر أعوام العملية- أكبر خطورة وأكثر انتشاراً مما كانت عليه في 2012 عندما سيطرت على تمبكتو وشمال مالي، حيث تضاعفت عمليات هذه الجماعات بين عامَيْ 2016- 2022 من 194 عملية إلى ما يزيد عن 800 عملية[2]، وهذا أسهم في زيادة مشاعر العداء والكراهية ضدّ فرنسا[3].

2. اضطراب الإستراتيجية الفرنسية إثر تعرُّض مالي -أهم بلدٍ في عملية برخان- إلى انقلابين متتالييْنِ، مما دفع فرنسا لتعليق عمليات مكافحة الإرهاب المشتركة مع مالي في 3 حزيران/ يونيو 2021 في احتجاج منها على السلطة الانتقالية الجديدة، وقد تلا ذلك إغلاق فرنسا لعدة قواعد عسكرية تابعة لها في مناطق كيدال وتيساليت وتمبكتو شمال مالي مطلع عام 2022، بهدف تركيز الجهود على المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو[4].

3. تصاعُد الخسائر في العملية: تجاوزت الكلفة السنوية لعملية برخان 700 مليون يورو، كما خسرت فرنسا قُرابة 100 جنديٍّ خلال سنوات تدخُّلها، مما أجبر فرنسا على مراجعة العملية وجدوى الاستمرار فيها في ظلّ تصاعُد خطاب الكراهية ضدها وحضور ميليشيات "فاغنر" لملء فراغ عدم التعاون معها.

4. تصاعُد النفوذ الروسي في مالي، فقد استطاعت روسيا التحرك في دول الساحل منذ مؤتمر القمة بين الدول الإفريقية وموسكو منذ القمة الروسية الإفريقية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حيث تلاها اتفاقات عسكرية لبيع السلاح إلى 17 دولة إفريقية بقيمة 1.7 مليار دولار في عام 2020، أي بارتفاع بنسبة 49% من حصة القارة من السلاح الروسي سنويًّا[5]، كما تمركزت وحدات من ميليشيا "فاغنر" الروسية الخاصة في العاصمة المالية باماكو لأهداف أمنية وعسكرية وإستراتيجية[6]، مما دفع ماكرون للتصريح باستنكار وجود قوى دولية مناهضة للوجود الفرنسي في الساحل[7].

ثانياً: التنظيمات النَّشِطة في دول الساحل:

طبيعة الواقع

يمكن تقسيم المناطق التي تشهد حضوراً واسعاً للجماعات الجهادية في الساحل بالآتي:

· منطقة وسط الساحل حيث تضم كلّاً من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، -ما يعرف بولاية غرب إفريقيا وولاية الساحل في أدبيات تنظيم الدولة- حيث تنتشر مجموعات كبيرة من تنظيم الدولة جنوب الصحراء الكبرى لتصبح مركز ثقل جديدٍ لداعش والقاعدة، حيث أدى تنامي انتشار التنظيمات الجهادية المسلحة في منطقة غرب إفريقيا بمعدل كبير إلى تعقيد المشهد السياسي في تلك البلدان (مالي، النيجر، وبوركينا فاسو)، فضلاً عن تصاعُد وتيرة العنف بشكل كبير من قِبل الفواعل المسلحة، كما تشير الأحداث لعدم تراجُع مؤشر العنف والتفجيرات في تلك المنطقة، إلى جانب التنافس على الموارد الاقتصادية المستخرجة من الأرض كالتنقيب عن الذهب والماس، بالإضافة إلى التجارة غير المشروعة والتهريب. كما يرتبط التنافُس بين القاعدة وداعش في هذه المناطق بديناميات التنافس القَبَليّ، في ظل اعتماد كل من التنظيمين على تحالُفات إثنية وقَبَليّة تتداخل فيها العوامل الاجتماعية مع العوامل التنظيمية، حيث تنتشر -بشكل أساسي- جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المنضوية تحت لواء تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، والتي تنفذ معظم هجماتها في مالي، وتعمل على التقارب مع المجتمعات المحلية بهدف كسب دعمها، مما جعلها هدفاً أساسيّاً للقوات الفرنسية في المنطقة إلى جانب حركة تحرير ماسينا.

· حوض بحيرة تشاد حيث تنتشر مجموعات كبيرة من تنظيم داعش -بشكل أساسي- وبوكو حرام في منطقة جنوب تشاد وشمال شرقي نيجيريا وشمال الكاميرون إلى جانب ولاية غرب إفريقيا التي ركزت عملياتها بشكل أساسي في النيجر خلال عامَيْ 2019- 2021 ثم توسعت إلى جنوب شرق مالي وشمال بوركينا فاسو خلال عامَيْ 2021- 2023.

بالرغم من أن العمليات المتتالية -برخان، وتاكوبا- استطاعت تحييد عدد من القيادات العسكرية في تنظيم الدولة -مثل عبد الكريم الصحراوي والطارقي المحمود الباي- قرب حدود النيجر، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لإيقاف التنظيمات الجهادية في المنطقة في ظلّ استمرار محفِّزات التنافُس والانتشار بين التنظيمات الجهادية.

أبرز الجماعات الجهادية في الساحل

تعاني دول وسط إفريقيا عموماً ومنطقة الساحل خصوصاً من انتشار التنظيمات الجهادية، إلا أن أهمّ هذه المناطق هي المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وتعتبر مناطق شمال بوركينا فاسو (شرق وغرب ووسط) إلى جانب مالي من أهمّ المناطق التي تنتشر فيها هذه التنظيمات، حيث تنتشر كتيبة تحرير ماسينا وجبهة أنصار الدين اللتيْنِ اندمجتا عام 2017 لتشكّلا معًا جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، إلى جانب تنظيم الدولة في المنطقة الذي تشكّل من خلال مبايعة أبي الوليد الصحراوي قائد كتيبة الملثّمين عام 2016 لأبي بكر البغدادي -حيث لم يعلن عن هذه البيعة إلى عام 2019- حيث تصاعد انتشار عناصره في جنوب غرب النيجر بدءاً من تنفيذ داعش لهجوم عنيف على ثكنة للجيش النيجري قُتِل فيه 71 عنصراً في كانون الأول/ ديسمبر 2019،  وقد أتبع هذا الهجوم بعملية أخرى ضدّ ثكنة عسكرية للجيش قُتِل فيه 89 عنصراً مطلع كانون الثاني/ يناير 2020، ثم تصاعدت الاستهدافات المتفرقة للجيش النيجري والبوركينابي والماليّ.

تنظيم الدولة في الساحل

يتشكّل تنظيم الدولة في دول الساحل من قطاعين مختلفين، هما: ولاية غرب إفريقيا، وولاية الصحراء.

ولاية غرب إفريقيا

تأسست ولاية غرب إفريقيا بعد مبايعة قائد تنظيم جماعة "بوكو حرام" أبي بكر شيكاو لأبي بكر البغدادي في آذار/ مارس 2015، ضِمن شروط معقدة، أبرزها: عدم تنفيذ عمليات خطف للأطفال والمسلمين في المنطقة، ومنع شيكاو من الظهور الإعلامي، والالتزام بالنشر الإعلامي عَبْر ديوان الإعلام المركزي ومعرفاته الرسمية.

لم يدُم الحال أكثر من عام؛ حيث عزَل التنظيم شيكاو في آب/ أغسطس 2016، وعيَّن مكانه أبا مصعب البرناوي خلفاً له نظراً لكونه ابنَ مؤسس حركة بوكو حرام "محمد يوسف البرناوي"، ونتيجة لرفض شيكاو هذا القرار، وإعلانه تمسُّكَه بالحركة، انقسم الفرعُ إلى قسمين؛ الأول بقيادة البرناوي والثاني بقيادة شيكاو الذي استطاع الفرع الأول تصفيته في أيار/ مايو 2021 ومن ثَمّ تحجيم مجموعته في مناطق معزولة داخل غابة سامبيا.

الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى

ظهر التنظيم في مالي إثر مبايعة المتحدث الرسمي باسم حركة التوحيد والجهاد في غربيِّ إفريقيا وقائد كتيبة "الملثّمين" التابع للقاعدة أبي الوليد الصحراوي لقائد تنظيم الدولة أبي بكر البغدادي بتاريخ 15 أيار/ مايو 2015 إلا أن التنظيم لم يعلن عن تأسيس ولاية الصحراء إلا في عام 2019.

ينشط التنظيم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في المنطقة المعروفة بـالمثلّث الحدودي، وقد سيطر التنظيم على مدينة "تيديرميني" إحدى أبرز مدن ولاية ميناكا شرق مالي، ويحاصر مدينة ميناكا ذاتها -مركز الولاية-.

استطاعت القوات الفرنسية تنفيذ عملية عسكرية في أغسطس/ آب 2021 أدت لإصابة أبي الوليد الصحراوي بجروح خطرة، تُوفِّي على إثرها لاحقاً في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، فعُيِّن أبو البراء الصحراوي أميراً جديداً لتنظيم ولاية الصحراء و"الساحل".

يُلاحَظ أن التنظيم خلال فترة ولاية أبي البراء الصحراوي استطاع توسيع مناطق سيطرة التنظيم في مالي وإحراز تقدُّم غير مسبوق في الساحل الإفريقي، فبات مُسيطراً على معظم الطرق والمساحات المفتوحة في مثلث النيجر، مالي، بوركينا فاسو، وأصبح تنظيم الدولة المسيطر الفعلي على جنوبي مالي (ولاية ميناكا) وشمالي بوركينا فاسو حتى إنه اقترب من مشارف العاصمة "واغادوغو" وأضحى تهديداً حقيقيّاً لها.

جماعة نصرة الإسلام والمسلمين

ظهر عام 2017 تحالُف جهادي باسم "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" يَدين بالولاء لتنظيم "القاعدة"، برئاسة قائد تمرُّد الطوارق في مالي عام 1991 "إياد آغ غالي"، ويضم عدة مجموعات هي: جماعة أنصار الدين، وحركة تحرير ماسينا التي يتزعمها أمادو كوفا، وجماعة المرابطين المبايعة لحركة التوحيد والجهاد التي انشقّ عنها أبو الوليد الصحراوي مع كتيبة الملثّمين لصالح تنظيم الدولة.

كان إياد آغ غالي قائد إحدى الحركات الأزوادية شمال مالي، إلا أنه أعلن بيعته للقاعدة عام 2011 بتشكيله جماعة أنصار الدين، وفي 2012 استطاع السيطرة على شمال مالي، بالتحالف مع حركة التوحيد والجهاد، ثم التمدد إلى وسط مالي وجنوبها، إلا أن التدخل العسكري الفرنسي في كانون الثاني/ يناير 2013 أوقف هذا التمدد، مما فرض عليه تغيير تكتيك العمل إلى حرب العصابات والتحالف مع القبائل وبعض الجماعات السياسية الأزوادية وصولاً للاندماج مع عدة جهات جهادية، وبذلك استطاع توسيع نفوذ القاعدة في المنطقة واستقطاب مئات الشباب من شمال ووسط مالي إلى صفوفها، وركز خلال الفترة بين 2013- 2022 على عمليات خطف الرهائن الأجانب والسيطرة على شبكة واسعة من طرق التهريب في إقليم وسط الساحل.

امتدت أنشطة الجبهة إلى شمال بوركينا فاسو من خلال تشكيل شخص يُدعَى إبراهيم ديكوا -أحد تلاميذ أمادو كوفا- جماعة جهادية تدعى "أنصار الإسلام" ومبايعته لإياد آغ غالي، وفي أعقاب مقتل ديكوا على يد الجيش البوركينابي في عام 2017، انضمت كتيبته إلى حركة تحرير ماسينا مما أسهم في إيصال عمليات جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى طول الحدود بين بوركينا فاسو والنيجر ومالي.

حركة تحرير ماسينا

أُعلِنَ عن حركة تحرير ماسينا في كانون الثاني/ يناير 2015، بهدف "إعادة تثبيت جمهورية ماسينا الإسلامية" -في إشارة مباشرة إلى إمبراطورية ماسينا الإسلامية سابقاً[8]- وقد انضم إليها مئات الشباب من قومية الفولاني، وكانت على علاقة وثيقة بجماعة أنصار الدين التي تزعمها إياد آغ غالي، وكان قائدها -أمادو كوفا- من المقاتلين مع آغ غالي في السيطرة على شمال مالي 2012.

تأسست كتيبة تحرير ماسينا على يد أمادو كوفا الذي كان تلميذاً لإياد آغ غالي، وسافر مع جماعة الدعوة والتبليغ إلى باكستان والهند، وانضمَّ عام 2012 إلى جبهة أنصار الدين في تمبكتو، وعُيِّن أميراً على مدينة كونا وسط مالي.

أعلن أمادو في فيديو له في 18 أيار/ مايو 2016 أنه تابع لجماعة أنصار الدين وقائدها إياد آغ غالي إلا أنه يستقطب قومية الفولاني ويقودهم داخلها.

في 2 آذار/ مارس 2017، ظهر أمادو كوفا بجانب آغ غالي عند تأسيس جماعة نصرة الإسلام والمسلمين.

أُعلِنَ عن مقتل كوفا في هجوم لقوات برخان في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 إلا أنه لا يوجد إثبات يؤكد ذلك، نظرًا لنفي جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم القاعدة في المغرب هذا الخبر مراراً.

ثالثاً: محفِّزات انتشار التنظيمات الجهادية في الساحل

من المهمّ الإشارة إلى جملة من الأسباب التي تسمح لانتشار الجماعات الجهادية في المنطقة، حيث إن انتشارها لم يكن وليد اللحظة، وإنما هو نتيجة لجملة من الأسباب التي أسهمت في تمركزه وانتشاره وتصاعُده.

يُلاحَظ على سبيل المثال وجود سِمات عامة في هذه المنطقة، مثل:

· ضعف الحكومات والجيوش، واختلال عملية إدارة الموارد وتوزيعها على السكان، فضلاً على تأثيرات المناخ على البيئة والعمليات الإنتاجية، مما يسهل على الجماعات الجهادية الاستثمار في هذه الحالة من السيولة الاقتصادية والأمنية وتجييرها كأدوات ضغط على الحكومات بإثارة استياء السكان المحليين وتحريضهم على التمرُّد عليها.

· استغلال التنظيمات الجهادية طرق التجارة غير المشروعة والتهريب، وديناميات التنافس القَبَليّ لصالحها، وذلك في ظل اعتماد القاعدة وداعش على تحالُفات إثنية وقَبَليّة تتداخل فيها العوامل الاجتماعية مع العوامل التنظيمية.

· التدهور المستمر للحالة الاقتصادية، مما يؤثر سلباً على الأحوال الاجتماعية والمعيشية، وبالتالي ارتفاع نسبة البطالة ومعدلات الفقر، وهذا بحد ذاته يشكّل محفزاً لكثير من الشباب للانضمام للحركات الجهادية التي تمتلك موارد ضخمة -تقدّر موارد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين من طرق التهريب فقط بنحو 40 مليون دولار سنويّاً- في ظل الحاجة الماسّة لعموم الشباب في المنطقة.

· الأزمات السياسية المتتالية، وهو ما تمثل في الانقلابات العسكرية في مالي (2020- 2021) وانقلاب بوركينا فاسو (2022) وانقلاب النيجر (2023) مما ينعكس سلباً على الواقع الأمني ويزيد من هشاشته، وبالتالي تعزيز انتشار الجماعات الجهادية في المنطقة.

· تطوُّر أنماط التحالُفات بين الجماعات الجهادية، حيث تعمد الجماعات الجهادية إلى التركيز على نوعين من المشكلات، أولها المشكلات المحلية، وهنا تتعامل معها على خلاف السياسات الحكومية، فتحاول توفير موارد إضافية للسكان، ومنع الصدامات العرقية، والنوع الثاني الاستفادة من المطالبة الأيديولوجية بالتحكيم الشرعي، وهنا تختلف القاعدة عن تنظيم الدولة، حيث يطالب التنظيم بإعادة حكم الخلافة، في حين تطالب الجماعات التابعة للقاعدة بتحكيم الشريعة ضِمن صيغة مُعتَرَف بها لدى المواطنين، في شكل أشبه لنموذج طالبان من نموذج نظرية الحكم لدى داعش.

· تواصُل النزاعات العِرْقية والدينية بين المواطنين في دول الساحل، حيث تُسهم هذه النزاعات في استغلال التنظيمات الجهادية لقوميات معينة بهدف تجنيدها في صفوفها، فعلى سبيل المثال ينحاز مقاتلو تنظيم الدولة في ولاية برنو شمال شرقي نيجيريا إلى الرُّعاة المسلمين خلال نزاعاتهم على أراضي الرعي مع الرعاة المسيحيين، أما في مالي فيسكن ولايات وسط مالي قبائل متعددة القوميات من أقلية الأزوادية المسلمة، وقومية الفولاني المسلمة، وقومية الدوغون المختلطة بين المسلمين والمسيحيين-، والبامبارا ذات الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية، حيث نجحت جماعة أنصار الإسلام والمسلمين في استقطاب الأقلية الأزوادية في الشمال والوسط، وتسعى لاستقطاب قبائل الدوغون مقابل سعي تنظيم الدولة لاستقطاب الفولانيين والبامبارا. 

رابعاً: التنافس بين التنظيمات الجهادية في الساحل: طبيعته وأسبابه

تُواجِه منطقة الساحل الإفريقي حضوراً متصاعدًا للتنظيمات الجهادية، حيث زادت هجمات هذه التنظيمات منذ عام 2019 عدة أضعاف، وتوسعت مساحة هذه الهجمات إلى معظم شمال بوركينا فاسو وغربي النيجر وشمال وشرقي مالي.

أظهرت الجماعات الجهادية التابعة للقاعدة حرصها على الاندماج في الخطاب الجهادي المحلي والابتعاد عن خطابات الجهاد العالمي -بالرغم من توصيف عملية برخان وغيرها من تحرُّكات القوى العالمية بالحملات الصليبية-، كما حرصت على التحالف فيما بينها لتشكيل واقع جديد والتوسع في وجه العمليات العسكرية الفرنسية ضدها.

فعلى سبيل المثال، نشأت جماعة أنصار الدين -النواة الأولى لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين- من "الحركة الشعبية لتحرير أزواد" وتحوّلت بقيادة إياد آغ غالي من حركة قومية ذات مطالب محلّية إلى حركة جهادية تبايع القاعدة، ثم تقود عملية توسيع نفوذ القاعدة تحت مظلّة جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" إلى وسط القارة وجنوبها، واستطاعت هذه الجماعة من خلال تشكيل "حركة تحرير ماسينا" إضفاء بُعْد قومي لبعض مكوِّناتها تحت زعامة القائد "أمادو كوفا" بهدف التغلغل في مختلف حركات التمرُّد ضدّ الحكومات وإعادة تشكيلها لصالح البُعْد الجهادي.

في حين أن تنظيم الدولة أعلن عن حضوره بداية تحت مظلّة الخلافة إثر انشقاق أبي الوليد الصحراوي عن "جماعة المرابطين"، ومبايعته تنظيم الدولة وتشكيله ولاية الصحراء الكبرى، ثم بعد مقتله في عام 2021 أضاف التنظيم ولاية الساحل إلى ولاية الصحراء الكبرى في تصريح لامتداد التنظيم إلى أماكن أبعد من مواضع التأسيس وشخصياتها، فكان المنشقون من "جماعة المرابطين" النّواة الأولى لتنظيم داعش، وبعد ذلك تتابعت الانشقاقات لمصلحة التنظيم الذي انتشر في منطقة الساحل على خطوط التماسّ مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين.

إن انتشار التنظيمين على أرض واحدة ومناطق تماسّ متداخلة، جعل المواجهة بين التنظيمين حتمية، خاصة في ظل اختلاف المشاريع بين الطرفين، والتنافس المحموم بينهما على الموارد المالية عَبْر خطف الرهائن والسيطرة على طرق تهريب البضائع والبشر إلى أوروبا، وفرض الضرائب على القبائل في المنطقة، واستقطاب المقاتلين، والسعي للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة.

بدأ التنافس بين التنظيمين خطابياً بدءاً من رفض جماعة نصرة الإسلام والمسلمين مبايعة أفراد منها في شباط/ فبراير 2020 لتنظيم الدولة وانتقالهم إلى معسكراتها شرقي مالي، مما دفع الجماعة لاحقًا لإصدار تنبيه يمنع أي مبايعات في صفوفها لصالح تنظيم الدولة، من خلال إصدار كتيبات تهدف للردّ على ادعاءات التنظيم الدينية ضدّها.

تلا ذلك إصدار تنظيم الدولة -عَبْر جريدة "النبأ" الأسبوعية- في شباط/ فبراير 2020 انتقاداً موسَّعاً لتنظيم نصرة الإسلام والمسلمين واتهمته بالردّة، وعدم قدرته على محاربة الفرنسيين، وتحالُفهم مع الحركات الأزوادية -المرتدّة- بوصف الجريدة، وطالبت عناصره بالتوجُّه إلى صفوف تنظيم الدولة أو مواجهة القتل.

إلا أن تنظيم القاعدة أصدر بياناً بعنوان "الخوارج: شرّ الخلق تحت أديم السماء" من قِبل الشرعيِّ "أبي ياسر الجزائري" البارز في تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فعدّد جرائم تنظيم الدولة، وأكد أن من واجب جماعة نصرة الإسلام والمسلمين محاربته.

اندلعت اشتباكات واسعة بين التنظيمين خلال آب/ أغسطس 2020 في محيط مدينة غاو وشرقي غيدال، مما أدى لمقتل حوالَيْ 200 عنصر من تنظيم نصرة الإسلام وحوالَيْ 150 من تنظيم الدولة، ونشر كِلا الجانبين إصدارات مرئية توثق المعارك، فوصفت إصدارات تنظيم الدولة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين بأنهما صَحَوات تسير على خُطى الصَّحَوات التي قاتلت التنظيم في العراق، والفصائل التي قاتلتهم في سورية.

استمرت حالة الاقتتال إلى مطلع 2021 حيث توصل الطرفان إلى حالة من التفاهم غير المُعلَن في الانتشار في مناطق مخصصة لكِلا الطرفين، بهدف عدم الاحتكاك، ومن ثَمَّ بدأت "ولاية الساحل" التابعة لداعش الانسحاب من شمال مالي والتوجُّه نحو غربي النيجر في إقليم تيلابيري وشمال بوركينا فاسو وشرقي مالي، والتوسُّع التدريجي في إقليم ميناكا.

خامساً: انعكاسات حضور التنظيمات الجهادية في الساحل

اندلعت اشتباكات بين الجيش المالي مدعوماً من قوات "فاغنر" من جهة، وتنسيقية الحركات الأزوادية المسلحة من جهة أخرى في 11 آب/ أغسطس إثر إخلاء بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام "مينوسما" لقاعدتها العسكرية في بلدة "بير" قرب مدينة تمبكتو شمالي مالي دون تنسيق بين الطرفين بحسب ما نصّ عليه اتفاق الجزائر المُوقَّع عام 2015.

تطور النزاع منذ ذلك الحين إلى حملة عسكرية موسَّعة حشد لها الجيش المالي قواته بمساندة من قوات فاغنر في مالي، بغية السيطرة على مواقع الحركات الأزوادية في ولاية تمبكتو شمال البلاد، حيث ارتكبت قوات فاغنر والجيش المالي عمليات تطهير عِرْقية ومجازر في حق المدنيين بهدف دفع سكان القرى للرحيل عنها والنزوح تجاه الشمال إلى الحدود مع الجزائر أو إلى الجنوب نحو ولايتَيْ موبتي أو غاو[9].

يُنذِر تصاعُد الأحداث الأخيرة بمزيد من التطوُّرات والانعكاسات، حيث يمنح الوضع الحالي تنظيم الدولة والقاعدة في المنطقة قدرة أكبر على التحرُّك العسكري والدعائي بهدف استقطاب عدد أكبر من المجندين، وبالتالي السيطرة على مزيد من المساحات في المنطقة التي تشهد نشاطاً متزايداً لكِلا التنظيمين وبالتالي ظهور آثار سلبية في المنطقة، مثل:

· تصاعُد الأزمة الإنسانية: حيث تعاني دول الساحل الإفريقي أزمة إنسانية حادّة في ظلّ الحصار المفروض على النيجر من قِبل مجموعة "إيكواس" إلى جانب تدهور الوضع الأمني ​​وأزمة تغيُّر المناخ، مما دفع 3 ملايين من السكان للنزوح الداخلي في مالي وبوركينا فاسو والنيجر من دول الساحل.

· تصاعُد التهديد الجهادي: إذ إنه من المؤكد أن هذه التنظيمات لن تقف عند حدودها الحالية، وإنما ستمتدّ لخارج منطقة الساحل، وبالتالي قد نرى فروعاً جديدة لها في شرق القارة الإفريقية ومنطقة خليج غانا، وبالتالي توسّع مساحات سيطرة هذه الجماعات وتصاعُد حركة النزوح الداخلي والخارجي، وقيام بؤرة دائمة التوتر في الساحل تُشكِّل خطراً متزايداً لأمن أوروبا.

خاتمة

استطاعت التنظيمات الجهادية في دول الساحل بناء حضور واضح لها منذ عام 2012، حيث سيطرت على مدينة تمبكتو وشمال مالي آنذاك، إلا أنها اضطرت للانسحاب بعد تدخُّل فرنسا في مالي، فلجأت إلى التكيُّف مع الواقع الجديد من خلال التمدُّد من مالي نحو بوركينا فاسو والنيجر ونيجيريا.

أدت عوامل عديدة إلى اضطراب الإستراتيجية الفرنسية في العملية، فاضطرت إلى توسيع ساحة العملية نحو دول الساحل الخمس، وتخطّت أهدافها بتفكيك الفصائل الجهادية إلى دعم الحكومات المحلية المرفوضة من الحاضنة الشعبية، مما أثَّر سلباً على شعبية فرنسا وقبولها لدى المجتمعات المحلية.

تعاني دول الساحل من نقص العناصر البشرية المدرَّبة لمواجهة التنظيمات الجهادية، إلى جانب العديد من المشكلات الاجتماعية كتفشِّي الفقر والصراعات الإثنية والعِرْقية، وقد استطاعت التنظيمات الجهادية -ممثَّلةً بتنظيم الدولة ونصرة الإسلام والمسلمين المبايِعة للقاعدة- بناء حضور قوي لها في المنطقة، بالتوازي مع ذلك، ساهمت الاضطرابات السياسية اللاحقة والانقلابات المتتالية منذ 2020 في تراجُع النفوذ الفرنسي من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، بالتوازي مع عودة تصاعُد الجماعات الجهادية التي اتَّسعت رقعة نشاطها في دول المثلّث المذكور.

يُوفِّر الغوص في الديناميات التي تُشكّل ركيزة أساسية لانعدام الأمن في مواضع انتشار هذه التنظيمات رُؤًى مهمّةً حول مسار تصاعُد حضورها في الساحل، وذلك بالتركيز على عوامل حضورها والتنافُس فيما بينها ومناطق انتشارها، حيث تُشكِّل العمليات المؤكَّدة لهذه التنظيمات في مناطق وسط مالي، والحدود الثلاثية، وشمال بوركينا فاسو، وغربي النيجر نحو 55% من العمليات الجهادية في القارة الإفريقية عموماً، مما يؤكد أهمية مالي قاعدةً لانطلاق هذه التنظيمات في توسُّعها وهجماتها على المناطق المحيطة بها، حيث لا تزال هشاشة الحدود والقدرة على العبور المكشوف فيها نقطة ضعف رئيسية لدول الساحل وعموم الدول الإفريقية.

رغم التنافُس والمواجهات التي تصاعدت في 2020 بين داعش والقاعدة، إلا أنه لم يتمكن أي من الطرفين من التغلُّب على الآخر، مع تزايُد توسُّع تنظيم داعش.

من المرجَّح أن يستمرّ تصاعُد حضور داعش في المنطقة إلى جانب إعلان إمارة خاصة به تابعة لـ “الخلافة المركزية" في المنطقة الثلاثية، وبالتالي العمل على الاستقرار فيها بهدف الانتقال إلى مرحلة تالية تتمثل في الوصول إلى شواطئ الأطلسي عَبْر دول خليج غانا.

تحتاج جهود مواجهة تنظيم الدولة والقاعدة في المنطقة إلى حلّ الأسباب الجذرية التي تدفع الشباب للانضمام إلى هذه التنظيمات، بدءاً من إنهاء مظاهر التمييز العِرْقي، والتفاوُت الطَبَقِيّ، مروراً بالإصلاح الاقتصادي الذي يُوفِّر للمواطنين عيشة كريمة، وتحقيق الاستقرار السياسي والعدالة الاجتماعية، وصولاً إلى الضبط الأمني الذي يعتمد على تفكيك شبكات الجماعات الجهادية ومواجهتها في ميادين انتشارها.

يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)

الهوامش:

[1] آسيمي غويتا.. ضابط مالي قلّص نفوذ فرنسا في دول الساحل، الجزيرة نت، 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، الرابط.

[2] بحَسَب جداول خاصة بالباحث.

[3] يُنظَر: الفرنسي ماكرون يتوسع في خطة الانسحاب من منطقة الساحل، جون كامبل، مجلس العلاقات الخارجية، 14 تموز/ يوليو 2021، الرابط

[4] يُنظَر: الوجود العسكري الفرنسي في الساحل، فرانس 24، 9 تموز/ يوليو 2021، الرابط.

[5] يُنظَر: مجلة "ديفانس بوست"، منشور بتاريخ: 8 تموز/ يوليو 2021، الرابط

[6] يُنظَر: ماكرون يُدين "القوى الأجنبية" التي تغذي الخطاب المناهض لفرنسا، موقع "عشرون دقيقة"، 14 كانون الثاني/ يناير 2020، الرابط

[7] يُنظَر: السابق ذاته.

[8] ظهرت في جنوب الصحراء الإفريقية بين  1818 إلى 1863 م، وضمت ولايات سيغو وموبتي وتمبكتو، وكانت خاضعة لمجموعة الفولاني العِرْقية، وطبقت الشريعة الإسلامية في أراضيها طوال سنوات حكمها.

[9] يمكن اختصار الوضع العسكري الآن بالآتي:

الحركات الأزوادية تسيطر على عدة قواعد عسكرية في الشمال وعلى مدينة غيدال عاصمة إقليم أزواد، في حين تسيطر جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة للقاعدة على معظم المساحة الممتدة بين مدينتَيْ تمبكتو وغاو، وتحاصر هاتين المدينتين الإستراتيجيتين، كما يسيطر تنظيم الدولة على معظم مساحة إقليم ميناكا ويحاصر مدينة ميناكا عاصمة الإقليم، إلى جانب ذلك هناك انتشار واسع للقاعدة وتنظيم الدولة شمال بوركينا فاسو وغربي النيجر.