أزمة الملاحة في البحر الأحمر تزيد طين التجارة الدولية بِلّة
2024-01-111165 مشاهدة
تُعَدّ الملاحة في البحر الأحمر أحد أهم طرق الملاحة الدولية، حيث إن ما يزيد عن 10% من حصة الملاحة العالمية تمر عَبْر البحر الأحمر، وهو ما يعكس أهميته كطريق تجارة دولية يمتدّ عَبْر عدد من الدول التي تستفيد فعلياً من واردات التجارة الدولية، كما هو الحال في مصر، أو التصدير والاستيراد كما هو الحال في الأردن وإسرائيل.
ليست جديدة بل متجدِّدة
لا تُعَدّ هجمات الحوثيين على سفن تجارية في كانون الأول/ ديسمبر الماضي هي الأولى من نوعها، في 2022 كان هناك تقارير تقول إن أكثر من مئة سفينة تعرضت للهجوم من قِبل جماعة الحوثي، وعقب الحرب التي بدأت بين حماس وإسرائيل أعادت جماعة الحوثي تصعيد هجماتها ضدّ سفن تجارية تابعة لشركات متعددة؛ مما دفع بعض شركات الشحن الكبرى لتغيير طريقها.
الولايات المتحدة وحلفاؤها قرروا أن يتدخَّلوا في المنطقة لضمان استقرار حركة التجارة عَبْر عملية عسكرية تضمن وقف هجمات الحوثي، لكنَّ هذا -إنْ حصل- فسيعني أن مزيداً من التوتر سيحصل على المدى المنظور، واحتمال الحرب سيظل قائماً حيث ستحتاج السفن لفترة غير قصيرة لتقييم الموقف المتأزّم في البحر الأحمر.
عرقلة حركة التجارة في البحر الأحمر تنعكس بشكل مباشر على مسألتين أساسيتين؛ الأولى هي أن على السفن أن تسلك طريقاً أطول، وهو ما يعني أيام تشغيل أكثر وتكلفة أكبر، والثاني هو أن كلفة تأمين السفن والشحنات التي تنقلها ستكون أعلى من أي وقت نتيجة لاحتمال استهدافها سواء في البحر الأحمر أو في مناطق أخرى. هذه التكاليف الإضافية لن يتم تحملها من قِبل التجار بكل تأكيد، بل ستنعكس على سعر السلع المستورَدة، هذا يعني أننا أمام احتمال ارتفاع أسعار السلع بسبب تكاليف الشحن المتزايدة.
مزيد من التكاليف على شحن البضائع
لا شيء جديد في هذه النتيجة، فتكاليف الشحن آخِذة بالارتفاع منذ مطلع 2020، لقد رأينا أن أزمة فيروس كوفيد-19 أدت لإغلاق الحدود وحركة الإنتاج، وعطلت انتقال العمالة، كل شيء ارتفع لأضعاف في أيام كوفيد-19، حتى أن بعض الشحنات أصبحت تُراقَب بالأقمار الصناعية خوفاً عليها من عمليات السطو أو السرقة.
في الربع الثاني من عام 2021 كان العالم قد تنفس الصُّعَداء فقد بدأ فيروس كوفيد ينحسر، وأصبحت المشافي والكوادر الطبية أكثر قدرة على التعامل مع المرضى بالاعتماد على اللقاح الذي أثبت قدرته على التعامل مع الفيروس، حيث انحسرت الأزمة الصحية ولكن آثارها الاقتصادية فعلياً بدأت تظهر، فالجهاز الإنتاجي لم يَعُدْ قادراً على تلبية العجز في الطلب، وكلف الشحن ارتفعت عدة أضعاف، وبدأ سعر النفط يرتفع من جديد.
إن الحزم التحفيزية التي قامت بها الدول وإنْ ساعدت على تنشيط الاقتصاد من جهة وإنقاذ عدد واسع من الشركات من الإفلاس، إلا أنها من جهة أخرى خلفت وراءها كتلة نقدية ضخمة تحتاج إلى جمع عَبْر معدلات فائدة مرتفعة، أي تكاليف أعلى مرة أخرى على الشركات والدول الراغبة بالاقتراض لتمويل برامجها.
في مطلع عام 2022 اشتعلت أزمة جديدة بين روسيا وأوكرانيا، وهما من أكبر المصدِّرين للسلع الغذائية في العالم، كما تُعَدّ روسيا مصدراً أساسياً للطاقة في موقع مهم وإستراتيجي في الأسواق الأوروبية التي باتت تستورد من أماكن أبعد لتعوض النقص الحاصل في العرض الأوكراني والروسي، مع نجاح واضح في إدارة الأزمة على حساب كلف مرتفعة استغلت حاجة الأوروبيين وبقية دول العالم للغذاء والطاقة، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان يشكر الدول التي ساعدتهم على معالجة الأزمة، ولكنه يشتكي من الأسعار المضاعفة التي يتم عرضها.
أدت عملية "طوفان الأقصى" التي بدأتها حركة حماس ضدّ إسرائيل في أواخر 2023 إلى توتُّرات في المنطقة، سرعان ما انعكست على حركة السفن في البحر الأحمر عَبْر هجمات الحوثيين والإعلان عن تدخُّل عسكري من قِبل الدول الغربية هدفه حماية حركة التجارة الدولية؛ مما جعلنا في سياق متصل لحركة ارتفاع تكاليف الشحن الدولي.
الحمائية عِوَضاً عن الانفتاح
في 2020 أثبتت الحكومات أن المحلية والقومية -وليس التعاون الدولي- هي الأساس لحلّ أي أزمة حتى لو كانت أزمة عالمية كانتشار فيروس عابر للحدود، فقد أغلق الجميع حدوده أمام الآخرين واستأثر بموارده. كما عزز خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هذه النزعة، وبدأ الحديث عن مرحلة تجارية دولية جديدة عنوانها الحمائية بدلاً من الانفتاح وتبسيط الإجراءات الجمركية التي رسمتها برامج منظمة التجارة العالمية وجولات GATT.
لم تَعُد التكاليف المتعلقة بالنقل مسألة ثانوية، بل باتت كلفة الشحن تماثل سعر المنتج أو تزيد في بعض الأحيان، هذا رسم سِمَة عامة نستطيع أن نطلق عليها اسم: "عولمة التكلفة"، تشير عولمة التكلفة إلى أن جميع الدول تمتلك فرصة متساوية في تكاليف الإنتاج، والتنافسية لن تكون للأرخص بل للأكثر جودة، نلاحظ الأمر بشكل واضح في بعض الاقتصادات الكبرى كما هو الحال في الإنتاج في تركيا، حيث ارتفعت تكاليف معظم السلع ليس على خلفية انخفاض سعر العملة فقط، بل على خلفية ارتفاع التكلفة الحقيقية للسلعة.
إن هجمات الحوثيين التي عطلت حركة التجارة الدولية جزئياً في البحر الأحمر وما نجم عنها من ردّات فعل اللاعبين، تأتي في السياق نفسه الذي يقضي برفع تكاليف الشحن، والتأمين على البضائع، والحفاظ على سعر طاقة مرتفع، مما يجعل الهجمات تَتِمَّة لسلسلة من الأزمات السابقة التي أثّرت على سلاسل التوريد، فكانت "ضِغْثاً على إِبَّالة" للتجارة الدولية، وهو ما يمكن أن يعني أن الدول ذات الفائض في الإنتاج ستكون أقل تنافسية من أيّ وقت سابق في الفضاء التجاري الدولي، وهذا قد ينعكس على الصين بشكل أو بآخر، والتي ختمت 2023 بارتفاع طفيف في الصادرات، وبأقل مما يتوقعه الخبراء المحليون والمسؤولون عن التجارة الدولية في البلاد. فعلياً تراجعت التجارة على أساس سنوي مع بعض الدول على خلفية تكاليف الشحن، وإن استمرت الأمور بهذا الطريقة، فربما نبدأ مرحلة جديدة تكون الصين فيها أبرز المتأثرين.
تأثيرات سلبية واضحة على المدى القصير
على المدى القصير، نجد أن دولاً متعددة في المنطقة تعرضت لخسائر مباشرة، لعل أبرزها مصر التي تُدِرّ عليها قناة السويس ملايين الدولارات يومياً، كذلك فإن إسرائيل تُعَدّ متأثراً حقيقياً من هذه الأزمات، حيث تراجعت حركة السفن القادمة نحو موانئها سواء لأغراض العبور أو لإيصال بضائع من وإلى إسرائيل، لكن على المدى المتوسط والبعيد، فإن هجمات الحوثيين هي أزمة مكمّلة ومتَّسقة مع الأزمات المتلاحقة في السياق الدولي العامّ، الذي يرسم معالم فضاء دولي جديد أساسه التكلفة المرتفعة، وخسارة بعض الدول لمزاياها النسبية في انخفاض التكلفة.