
إسرائيل بين نيران غزّة وانقسامات الداخل
2025-03-24142 مشاهدة
نص الترجمة
استأنفت إسرائيل القتال في غزّة، ولكن دون دعم شعبي واضح، في ظلّ موجة من الاضطرابات السياسية التي أدت إلى تراجُع الثقة في الحكومة بشكل كبير. يختلف هذا الوضع تماماً عن البيئة التي رافقت بَدْء المعركة ضدّ حماس قبل 17 شهراً، عقب هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التي أسفرت، وفقاً للسلطات الإسرائيلية، عن مقتل نحو 1200 شخص وأَسْر أكثر من 250 آخرين. في ذلك الوقت، قام الإسرائيليون بتنحية خلافاتهم السياسية الداخلية الحادّة جانباً، والتي كانت قد دفعت الآلاف إلى الشوارع احتجاجاً، واصطفّوا خلف قيادة البلاد في عملياتها العسكرية.
في البداية، كان الجمهور الإسرائيلي موحَّداً في رغبته في معاقبة حماس وشلّ قدراتها. أما الآن، وبعد تعرُّض الحركة لضربات قاسية، بات العديد من الإسرائيليين، بمن فيهم بعض اليمينيين، أكثر اهتماماً بضمان الإفراج عن الرهائن الذين لا يزالون على قيد الحياة في غزّة، ويرون أن السبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو التوصل إلى تسوية تفاوضية لإنهاء الحرب.
جاء هذا التحوّل في الرأي العامّ نتيجة للصور الصادمة للرهائن الإسرائيليين الذين تم الإفراج عنهم خلال الشهرين الماضيين، حيث بدَوْا في حالة صحية سيئة، يعانون من إصابات أو سوء تغذية واضح. وأثارت هذه المشاهد قلقاً متزايداً بشأن مصير الرهائن الـ 59 المتبقين، الذين تعتقد إسرائيل أن 24 منهم قد يكونون أحياء.
يعمل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على إحياء خلافات قديمة من خلال إعادة طرح تشريعات تمنحه سيطرة أكبر على النظام القضائي في البلاد، وهو ما أثار موجة من الاحتجاجات الجماهيرية استمرت لمدة عام قبل اندلاع الحرب. كما يسعى إلى الحفاظ على إعفاء الفئة المتزايدة من السكان اليهود الحريديم من الخدمة العسكرية، وهو إجراء يثير انقسامات واسعة داخل المجتمع الإسرائيلي. بالإضافة إلى ذلك، قام بإقصاء عدد من الشخصيات في المؤسسة الأمنية الذين دعموا وقف إطلاق النار، ويسعى حالياً إلى إقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) رونين بار Ronen Bar، بحجة أنه فقدَ ثقته به.
ويرى يوسي كلاين هاليفي Yossi Klein Halevi، الباحث البارز في معهد شالوم هارتمان Shalom Hartman في القدس، أن قضية الرهائن تمثل الخط الفاصل في الأزمة الإسرائيلية الحالية، حيث تتداخل معها سلسلة من التوترات السياسية والمجتمعية، مما يجعلها أكثر القضايا تعقيداً وحساسية.
في ظلّ هذه التوتُّرات الداخلية، شنت إسرائيل موجة من الهجمات فجر الثلاثاء 18 آذار/ مارس استهدفت، بحسب الرواية الإسرائيلية، قادة سياسيين وعسكريين في حركة حماس، ما أسفر عن مقتل أكثر من 400 شخص وفقاً للسلطات الفلسطينية، التي لم تحدد عدد المقاتلين بينهم. واستمرت الضربات الجوية حتى ليل الأربعاء، مستهدِفة نحو 20 موقعاً، بحسب إذاعة الجيش الإسرائيلي.
كشف استطلاع للرأي أجراه "معهد الديمقراطية الإسرائيلي" في 9 آذار/ مارس، وهو مركز أبحاث مقره القدس، أن 73% من الإسرائيليين يؤيدون التفاوض مع حركة حماس بشأن إنهاء القتال وانسحاب إسرائيل من غزّة مقابل إطلاق سراح الرهائن المتبقين. ومن اللافت أن 56% من الإسرائيليين ذوي التوجهات اليمينية الذين شملهم الاستطلاع دعموا اتفاق وقف إطلاق النار، وكذلك 62% من ناخبي حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
في ظلّ هذا التوجه الشعبي، خرج آلاف المتظاهرين إلى شوارع المدن الكبرى في إسرائيل يومَي الثلاثاء 18 والأربعاء 19 آذار/ مارس، مطالبين الحكومة بالتوصل إلى اتفاق جديد يضمن الإفراج عن الرهائن. وبينما يرغب العديد من الإسرائيليين في التوصل إلى صفقة للإفراج عن الرهائن، لا يزال كثيرون منهم يؤيدون القضاء التامّ على حركة حماس وطردها من غزّة، لكنهم مستعدون لتأجيل هذا الهدف في الوقت الحالي. ويُشكّل هذا الانقسام تحدياً للمجهود الحربي في بلد يعتمد بشكل كبير على المقاتلين المتطوعين.
في هذا السياق، قال عاموس يدلين Amos Yadlin، الجنرال الإسرائيلي السابق، إن الإسرائيليين "يريدون تدمير حماس، لكنهم يريدون إطلاق سراح الرهائن أولاً"، محذِّراً من أن ذلك قد يقلل من حافزية جنود الاحتياط لخوض جولة قتال جديدة. وعلى عكس الوضع في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يواجه نتنياهو اليوم معارضة سياسية مصمِّمة على الإطاحة به.
وفي هذا الصدد، صرّح زعيم المعارضة يائير لابيد بأن "مقاتلينا الأبطال بحاجة إلى رئيس وزراء يؤمنون بأنه مهتم فقط بأمن البلاد ومصير الرهائن"، مؤكِّداً أن "هذا ليس هو الحال اليوم". من جانبه، شدد نتنياهو مراراً على التزامه بإطلاق سراح الرهائن، معتبِراً أن الضغط العسكري ضروري لتحقيق ذلك. وقال في خطاب متلفَز مساء الثلاثاء: "التزامنا والتزام قوات الأمن هو العمل بلا كلل لتحرير أحبائكم، وهم أحباؤنا أيضاً، سواء كانوا أحياء أم أمواتاً"، متهماً حركة حماس برفض المقترحات الرامية إلى استئناف وقف إطلاق النار.
لقي أكثر من 40 رهينة مصرعهم خلال الحرب في غزّة، وأقرّت إسرائيل بأن ما لا يقل عن 14 منهم قُتلوا نتيجة عملياتها العسكرية، بما في ذلك الغارات الجوية. بالإضافة إلى ذلك، أعدمت حركة حماس ستة رهائن في أواخر آب/ أغسطس عندما كانت القوات الإسرائيلية تقترب من مواقعها.
في هذا السياق، أصدر "منتدى عائلات الرهائن" Hostages Families Forum، الذي يمثل معظم عائلات المحتجزين، بياناً يوم الثلاثاء جاء فيه: "لقد تحققت أكبر مخاوف العائلات والرهائن والشعب الإسرائيلي"، مطالباً الحكومة بالعودة إلى طاولة المفاوضات.
تتبنى إسرائيل إستراتيجية تصعيد الضغط على حركة حماس لإجبارها على القبول بشروطها للإفراج عن الرهائن. وفي إطار ذلك، أوقفت إمدادات المساعدات الإنسانية وفصلت آخر خطّ كهربائي يرتبط بغزّة في وقت سابق من الشهر الجاري. كما شنّت غارات جوية يوم الثلاثاء، محذِّرة من إمكانية توسيع العمليات إلى اقتحامات برية. ووفقاَ للسلطات الصحية الفلسطينية، أسفرت هذه الضربات عن مقتل أكثر من 400 شخص في غزّة، دون تحديد عدد المقاتلين بينهم.
وصرّحت إسرائيل بأن الضربات المفاجئة استهدفت قادة عسكريين من الصفّ الأوسط في حماس، إلى جانب شخصيات سياسية وبِنْية تحتية عسكرية للحركة. وفي تحليل لهذا التصعيد، يرى خبراء أن هذه التحركات لا تمثل بعدُ عودةً إلى حرب برية واسعة، بل تأتي كجزء من إستراتيجية دبلوماسية إسرائيلية تهدف إلى تعزيز موقفها التفاوضي. وفي هذا السياق، قال يوهانان بلسنر Yohanan Plesner، رئيس معهد الديمقراطية الإسرائيلي: "طالما أن العمليات تقتصر على القصف الجوي، فإنها لا تزال جزءاً من تكتيك تفاوُضيّ".
يشير محللون أمنيون إسرائيليون، على اطلاع بخطط التصعيد الإسرائيلية، إلى أن هناك عملية برية واسعة يتم التحضير لها. ومن المتوقَّع أن تهاجم إسرائيل مناطق متعددة في غزّة بشكل متزامن، مستفيدةً من قدرتها على حشد قوات أكبر بعدما لم يَعُدْ من الضروري إبقاء معظم قواتها على الحدود الشمالية للدفاع ضد هجمات ميليشيا حزب الله اللبناني. كما يتوقع أن تسعى إسرائيل إلى فرض سيطرتها على الأرض وتحمُّل مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية، مما يحرم حماس من أحد مصادر نفوذها الأساسية.
وكانت إسرائيل قد وافقت في كانون الثاني/ يناير على وقف إطلاق نار متعدد المراحل، تضمنت مرحلته الأولى الإفراج عن 33 رهينة إسرائيلية، بينهم ثمانية قتلى، بالإضافة إلى خمسة رهائن تايلانديين، مقابل إطلاق سراح أكثر من 1,700 أسير فلسطيني وزيادة كبيرة في تدفُّق المساعدات إلى غزّة. غير أن المحادثات بشأن الانتقال إلى المرحلة التالية، والمتمثلة في إنهاء القتال بشكل دائم مقابل إطلاق سراح بقية الرهائن، وصلت إلى طريق مسدود، حيث رفضت إسرائيل التخلّي عن قدرتها على مواصلة استهداف حماس، بينما رفضت الحركة القبول بصيغ تتيح الإفراج عن مزيد من الرهائن مقابل تمديد الهدنة.
ورغم أن تجدُّد الحرب غير مدعوم شعبياً من معظم الإسرائيليين، فإن استمرار وقف إطلاق النار دون تحقيق تنازُلات إضافية من حماس لم يكن خياراً مُرحَّباً به أيضاً. وقد أتاح التصعيد لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تعزيز تحالُفه مع حلفائه من اليمين المتطرف، وذلك قبل تصويتات حاسمة تتعلق بإعفاء المتدينين اليهود من الخدمة العسكرية، وتمرير الميزانية الوطنية، وهو أمر قد يؤدي إلى انتخابات مبكرة في حال فشله.
وفي هذا السياق، أبرم نتنياهو، يوم الثلاثاء، اتفاقاً مع إيتمار بن غفير Itamar Ben-Gvir لإعادة زعيم حزب "القوة اليهودية" اليميني المتطرف إلى الائتلاف الحكومي، وهو ما تم إقراره سريعاً من قِبل حكومته. وكان بن غفير قد انسحب من الائتلاف الحكومي عندما دخل وقف إطلاق النار حيِّز التنفيذ في كانون الثاني/ يناير، وظلّ يشترط استئناف الحرب للعودة إلى الحكومة.
ويقول أبراهام ديسكين Abraham Diskin، عالم السياسة في منتدى "كوهيليت" للسياسات Kohelet Policy Forum، وهو مركز أبحاث محافظ مقرّه القدس: إن الحكومة قررت المخاطرة بقضية الرهائن لتحقيق ما تعتبره هدفاً إستراتيجياً يتمثل في إزاحة حماس عن السلطة، وذلك في وقت بلغ فيه الاستقطاب داخل إسرائيل مستويات غير مسبوقة. ويضيف: "ربما يكون هذا الانقسام الأسوأ والأخطر في تاريخ إسرائيل منذ تأسيسها، فهو يهدد وجودنا ذاته".
المصدر: وول ستريت جورنال
ترجمة: عبد الحميد فحام