الاتحاد الأوروبي والحرب في غزة: تناقُص الأدوار الدبلوماسية وتعاظُم الهواجس الأمنية
2023-12-201656 مشاهدة
لقد أدى الصراع في غزة إلى تمزيق وحدة الصفّ الأوروبي إزاء القضية الفلسطينية في تطوُّراتها الأخيرة، مع تصاعُد المشاعر الناجمة عن الذنب التاريخي والشعور بالظلم إزاء إسرائيل، وخاصة لدى بعض الدول الأوروبية، وفي مقدِّمتها ألمانيا، والتي وصلت إلى الهُوِيّات المتعددة للأوروبيين أنفسهم، وساهمت في تشتيت واندحار التصوُّر الأوروبي بشأن القضية الفلسطينية.
لقد بات واضحاً أن موقف الاتحاد الأوروبي إزاء الحرب في غزة بصدد التغيير، وتزايد هذا الأمر خاصة مع صعود موجات جديدة من الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة التي تعمل بالأساس على تمجيد القوميات، وتتقاطع هذه التوجُّهات مع التصوُّرات المتطرفة للحكومة اليمينية المتطرفة الإسرائيلية، حيث لُوحظ في الفترة الأخيرة تقارُب كبير بين عدد من الحكومات الغربية الشعبوية وإسرائيل.
الاتحاد الأوروبي خارج اللعبة
لقد أظهر الردّ الأول لمؤسسات الاتحاد الأوروبي قيادة منقسمة، مع ردود فعل عنيفة ضد الزيارات التي قام بها رؤساء المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي إلى إسرائيل، والتي اعتُبرت من جانب واحد، وخروجاً عن الدبلوماسية التقليدية للاتحاد، والتي كانت تعتمد دائماً بيانات متوازنة بشأن القضايا الإسرائيلية الفلسطينية. كما شهدت عمليات التصويت على توصية الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الوقف الفوري لإطلاق النار في غزة، على انقسام الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وأظهرت نتيجة القرار انقساماً في صفوف الدول الغربية، خصوصاً الأوروبية، إذ أيدت فرنسا القرار في حين امتنعت ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا عن التصويت، وصوتت النمسا والولايات المتحدة ضدّ القرار.
وقد طالبت الأمم المتحدة مرة أخرى يوم 10 كانون الأول/ ديسمبر الجاري بوقف فوري للحرب بين إسرائيل وحركة (حماس) الفلسطينية لأسباب إنسانية بعد أن أيَّد أكثر من ثلاثة أرباع أعضاء الجمعية العامة المؤلفة من 193 عضواً، هذه الخُطوة التي استخدمت الولايات المتحدة حقّ النقض (الفيتو) ضدها في مجلس الأمن، ولا تملك واشنطن حق النقض في الجمعية العامة، حيث أيَّدت 153 دولة قرار وقف إطلاق النار، وعارضته عشر دول بينها إسرائيل والولايات المتحدة فيما امتنعت 23 دولة عن التصويت.
وامتنعت دول أوروبية مثل إيطاليا وبريطانيا والمجر وهولندا وليتوانيا وسلوفاكيا وأوكرانيا عن التصويت على مشروع القرار، مفضِّلةً تجنُّب اتخاذ موقف ضدّ جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل مراراً وتكراراً وأكدها مسؤولون في الأمم المتحدة. وفي حين امتنعت ألمانيا عن التصويت نظراً لرضوخها بسبب "ماضي الإبادة الجماعية بحق اليهود"، كما قررت أوكرانيا، ضحية الحرب والاحتلال أيضاً، الامتناع عن الانحياز إلى أي طرف.
ورغم أن القرار ليس ملزماً، إلا أنه مؤشر قوي على أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية، الذي جعل مجلس الأمن الدولي مختلاً وظيفياً من خلال رفض مشاريع قرارات تطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة عدة مرات، غير مقبول من قِبل المجتمع الدولي، وفي نفس الوقت يشير إلى الدعم العالمي لدعوات وقف إطلاق النار.
هذه المؤشرات الأخيرة، توضح بالملموس مدى تباعُد مواقف الدول الأوروبية عن موقف الاتحاد الأوروبي نفسه، مما يعني انتصار الخطاب القومي مقابل تدنِّي سَرْديّة الوحدة الأوروبية، خاصة بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
تغيُّر الموقف الأوروبي
منذ التسعينيات من القرن الماضي، حافظ الاتحاد الأوروبي على الوحدة الشكلية بشأن الاتفاق على حلّ الدولتين، والعودة إلى حدود 1967، وإدانة المستوطنات الإسرائيلية، كأرضية للتسوية السياسية. بَيْدَ أنه في السنوات الأخيرة، طورت بعض الدول الأوروبية علاقات وثيقة مع إسرائيل، بسبب دوافع تاريخية، والحاجة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية المتنامية، وفي بعض الحالات بسبب التقارب السياسي بين القادة السياسيين اليمينيين المتطرفين.
ويبدو أن الحرب الأخيرة كسرت قاعدة التوافُق الذي كان سائداً في السابق بين الحكومات الأوروبية، مما يجعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي اتخاذ موقف واضح بشأن الصراع في قطاع غزة.
كان حجم الردّ الإسرائيلي وعدد الضحايا من المدنيين نتيجة للتوغل الإسرائيلي في غزة، سبباً في احتجاجات ضخمة في مختلف أنحاء أوروبا، الأمر الذي كشف عن انقسام آخر بين الرأي العامّ والحكومات. وكان لزاماً على الدبلوماسية الفرنسية، ونظراً لوجود أكبر جاليتين يهودية ومسلمة في أوروبا بفرنسا، أن تعمل على إيجاد التوازُن بين الأصوات المختلفة.
وبينما يتردد صدى الصراع بشكل مختلف في كل بلد - من تضامُن ألمانيا التاريخي مع إسرائيل إلى تماهي وتأييد أيرلندا للفلسطينيين، فإن بعض الاتجاهات العامة أصبحت آخِذة في الظهور: بعض الحكومات أصبحت تناصر وجهة نظر إسرائيل، في حين أن الرأي العامّ، وخاصة الأجيال الشابة والتي تُشكّلها أقليات مسلمة كبيرة، أصبحت تدعم القضية الفلسطينية بشكل غير مسبوق ، حيث رأينا خروج العديد من الشباب للتظاهر ضد الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
العواقب الأمنية للانقسام الأوروبي
لا شَكّ أن لهذه الانقسامات الحادة بين الدول والشعوب الأوروبية، العديد من التداعيات والعواقب الأمنية على الاتحاد الأوروبي، حيث يرى بعض الباحثين الأوروبيين أنها تُشكِّل:
أولاً: تهديداً لأمن المجتمعات الأوروبية، حيث يبدو أن الصراع في غزة يشكل تهديداً مباشراً للسِّلْم الاجتماعي في أوروبا، ويخلق جدالاً وخلافاً حاداً بين القوميات المختلفة التي تعيش تحت سقف الديمقراطيات الغربية.
ثانياً: يسجل من جهة أخرى أيضاً، تزايُد منسوب الإسلاموفوبيا أو ما يُصطلَح عليه بالرُّهاب من الإسلام في الغرب، حيث يرتبط المتظاهرون المؤيدون للفلسطينيين بدعم حماس ومعاداة إسرائيل.
ثالثاً: احتمال وقوع هجمات إرهابية وارتفاع منسوب العنف والتطرف في أوروبا.
رابعاً: يتعلق الأمر بالكيفية التي يمكن لروسيا أن تستغلّ الانقسام في أوروبا وانشغالها بغزة لزيادة هجماتها على أوكرانيا. لأسباب أمنية وإستراتيجية، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى الحفاظ على وحدته بشأن أوكرانيا، التي تنتمي إلى نفس المحيط الجغرافي الأوروبي، وفي الوقت ذاته ألَّا يفسح المجال لروسيا لاسترجاع أنفاسها ومواصلة المجهود العسكري للوصول ربما إلى تسوية سياسية ترضيها في حربها مع أوكرانيا.
مع تزايد الانقسامات بين الدول الأوروبية حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يبدو من الصعب أن يلعب الاتحاد الأوروبي الدور الدبلوماسي الذي كان من المفروض أن يلعبه. ولكِنْ هناك مجال للمناورة قد يتم استغلاله، على سبيل المثال، يلزم على الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزيب بوريل، أولاً: تحمُّل مسؤولية تحديد موقف الاتحاد الأوروبي التقليدي بشكل واضح بشأن الصراع، ووضعه موضع التنفيذ.
ثانياً: محاولة لعب دور الوسيط من خلال اللقاء بمسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين بالإضافة إلى ممثلي الدول المجاورة المعنية مباشرة بالصراع في غزة وبالقضية الفلسطينية عموماً.
رغم أن الاتحاد الأوروبي في وضع غير مريح سياسياً وعسكرياً واقتصادياً بشكل يسمح له بالتأثير على مُخرَجات الحلّ السياسي للصراع بسبب إنهاكه نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، ولكنه على الأقل قادر على تيسير الحوار الدبلوماسي على المستوى الإقليمي، ويمكن أن يشمل ذلك دعم الجهود لمنع التصعيد الإقليمي للصراع.
خُلاصة
يبدو أن حجم الاتحاد الأوروبي كتكتُّل إقليمي يتضاءَل بشكل كبير في الآونة الأخيرة، خاصة بعد أزمة كورونا والتورُّط مباشرةً في الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعيات الأزمة الاقتصادية وصعود اليمين المتطرف في العديد من البلدان الأوروبية، مما ساهم بشكل مباشر في تواري الدور الأوروبي على الصعيد الدولي كوسيط لحلّ الأزمات كما كان في السابق، كما أن المنظورات الأمنية والاقتصادية المتغيرة للدول الأوروبية، أثرت بشكل كبير على وحدة قرارات السياسة الخارجية الأوروبية وتعطيل أجهزتها، حيث فضلت العديد من الدول الحفاظ على علاقات نفعية مع إسرائيل بدل الاصطفاف مع الفلسطينيين ودعم الحق الفلسطيني، مما يُشكِّل تغييراً منهجياً وخروجاً عن مواقف الاتحاد، وتبنِّي قرارات انفرادية بعيداً عن الاتحاد الأوروبي.
يبدو أن الاتحاد الأوروبي يجتاز مرحلة عسيرة ومعقدة من تاريخه، خاصة أن وصول الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا ربما يسهم في القضاء على الإرث المؤسساتي القوي في الاتحاد، وانعكاس هذا التراجع على قيمة الوحدة الأوروبية، والعملة الموحدة والتدابير الأمنية التي أصبحت أكثر تشدُّداً وانغلاقاً إزاء المحيط الخارجي وتداعيات الحرب في أوكرانيا على أمن دول الاتحاد الأوروبي، ونهج سياسات جديدة للهجرة تقوم على إغلاق الحدود في وجه المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، ناهيك عن خُفوت الدور الأوروبي على صعيد السياسة الخارجية للاتحاد في العديد من الملفات على غرار ملف الصراع "الفلسطيني- الإسرائيلي".