الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق: الدوافع والآثار المستقبلية المحتملة

الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق: الدوافع والآثار المستقبلية المحتملة

2025-09-25
163 مشاهدة
Download PDF

شكَّل إعلان الولايات المتحدة عن البَدْء بسحب قواتها العسكرية العاملة ضِمن مظلّة التحالف الدولي من العراق منذ بداية شهر سبتمبر/ أيلول 2025 والإعلان عن انتهاء سحب كامل القوات الأمريكية مع حلول نهاية العام أحد أبرز التحوُّلات الإستراتيجية في سياق العلاقات الأمنية بين بغداد وواشنطن. 

الانسحاب بهذه الكيفية مخالفة للتفاهمات الأمنية بين  الحكومة العراقية وإدارة ترامب الأمريكية، التي نصت على أن يكون الانسحاب خلال عام 2025 جزئياً، ويستكمل مع حلول سبتمبر/ أيلول 2026 ولذا فإن القرار الأمريكي المفاجئ فتح الباب أمام التساؤل حول دوافع الموقف الأمريكي، والتداعيات التي سيتركها على مستقبل الوضع الأمني العراقي. 

نسعى من خلال تقدير الموقف هذا لاستعراض التحوُّلات التي أصابت العلاقة الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، والسياقات الإستراتيجية التي أحاطت بالخُطوة الأمريكية الأخيرة، وتأثيرها على مستقبل موقع العراق في التصور العسكري الأمريكي. 

تحوُّل العلاقات الأمريكية العراقية بعد انتهاء حرب داعش 

إن العلاقات الأمنية بين بغداد وواشنطن مرت بتحوُّلات مهمة منذ نهاية الحرب على تنظيم داعش في ديسمبر/ كانون الأول 2017، فإثر انتهاء الحرب على التنظيم أطلقت العديد من الفصائل المسلحة الموالية لإيران -وبضغط واضح من الحرس الثوري الإيراني وقائد فيلق القدس قاسم سليماني- حملات إعلامية وسياسية موسَّعة للمطالبة برحيل القوات الأمريكية من العراق، وتعززت هذه الحملات بعد قيام الولايات المتحدة باغتيال سليماني، وقائد قوات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في يناير / كانون الثاني 2020، لتنجح هذه الفصائل -ومن خلفها إيران- بالضغط على مجلس النواب العراقي لإصدار قرار في العام ذاته يطالب الولايات المتحدة بإنهاء وجودها العسكري في العراق، ما أدخل العلاقات العراقية الأمريكية في توتُّر [1] . 

بعد اغتيال سليماني والمهندس دخلت القوات الأمريكية في مواجهة مفتوحة مع الفصائل المسلحة الموالية لإيران التي أطلقت هجمات على القواعد العسكرية الأمريكية في العراق، وعلى رأسها قاعدتَا عين الأسد في الأنبار، وحرير في أربيل، ورغم عدم وقوع إصابات مميتة في صفوف القوات الأمريكية جرّاء هذه الهجمات، إلاّ أنها نجحت بشكل أو آخر بإبقاء القوات الأمريكية تحت ضغط التهديد المستمر،  الأمر الذي أضعف قدرة الحكومات العراقية (حكومتَيْ مصطفى الكاظمي ومن ثَمّ حكومة محمد شياع السوداني) في الإبقاء على علاقة أمنية مستقرة مع واشنطن، خصوصاً مع قيام الأخيرة بتجميد أغلب عقود التسليح، وتحديد عمل قواتها في العراق. 

دوافع الانسحاب الأمريكي 

إن شروع إدارة ترامب بسحب القوات الأمريكية من العراق في سبتمبر/ أيلول 2025، والعزم على إنهاء هذا الانسحاب مع نهاية العام خلافاً للتفاهمات السابقة، جاء نتيجة تطوُّرات مستجدّة، في مقدمتها تحدِّيَات المشهد العسكري غير المكتمل بين إيران وإسرائيل، وعجز الحكومات العراقية المتعاقبة عن حصر السلاح بيد الدولة، وإنهاء تهديدات الفصائل المسلحة الموالية لإيران للمصالح والمواقع التي تنتشر فيها القوات الأمريكية ضِمن العراق. 

أيضاً، تخوض إسرائيل تصعيداً في أكثر من جبهة إقليمية، ومن المحتمل أن يمتدّ هذا التصعيد إلى الساحة العراقية، مما يجعل إدارة ترامب تتجه لاتخاذ إجراءات تحول دون إبقاء القوات الأمريكية تحت رحمة هجمات انتقامية من إيران أو حلفائها العراقيين؛ لأن الأطراف العراقية تنظر للدور الأمريكي على أنه داعم لإسرائيل، خاصة أن واشنطن هي الأخرى أصدرت منتصف سبتمبر/ أيلول 2025 قراراً بوضع أبرز الفصائل العراقية المسلحة (حزب الله العراقي – حركة النجباء – سيد الشهداء – أنصار الله الأوفياء) ضِمن لائحة الإرهاب [2] . 

محدِّدات مؤثِّرة في مستقبل العلاقات الأمريكية مع العراق 

يمكن القول بأن هناك العديد من المسارات الإستراتيجية التي ستساهم في رسم ملامح العلاقة الأمنية بين بغداد وواشنطن في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق، والتي يمكن إيجازها على النحو الآتي: 

1. تهديدات داعش: تُمثّل قضية تهديدات تنظيم داعش واحدة من أبرز القضايا الأمنية المهمة في سياق العلاقة بين بغداد وواشنطن، ورغم التحفظ الأمريكي على سلوكيات الحكومة العراقية في ملف حصر السلاح بيد الدولة، وضعفها أمام نفوذ الفصائل المسلحة، إلاّ أن قضية داعش ستبقى مركزية في سياق المنظور العسكري الأمريكي حيال العراق، نظراً لأن واشنطن تدرك جيداً بأن التعاطي مع تهديدات داعش ينبغي التعامل معها ضِمن سياق إقليمي ودولي يتعلق بأمنها القومي وأمن حلفائها، أكثر مما هي قضية أمنية حاكمة للعلاقة مع بغداد. 

2. وضع الحشد الشعبي: يمكن اعتبار الحشد الشعبي حالة مؤثرة في سياق العلاقات الأمنية المعقدة بين بغداد وواشنطن، وهذا يظهر من خلال القرارات التي اتخذتها إدارة ترامب عقب بَدْء عملية الانسحاب من العراق، والتي تمثلت بنجاحها بمنع تشريع قانون جديد للحشد الشعبي، وفرض عقوبات مؤثرة على الأصول المالية والنفطية والاقتصادية التابعة للحشد، ثم إدراج فصائل مسلحة مؤثِّرة في الحشد ضِمن لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، وهذا كله يعكس نوايا أمريكية متصاعدة لتوسيع دائرة استهداف الحشد والفصائل المنضوية فيه في المرحلة المقبلة، ما قد يؤثر على أيّ شراكة مستقبلية بين العراق والولايات المتحدة مستقبلاً. 

3. النفوذ الإيراني: إن إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة أحد أهم محدِّدات سياسة إدارة ترامب تجاه العراق، وهذا كان واضحاً من الضغوطات التي مارستها الإدارة منذ تَولِّيها قيادة الولايات المتحدة من أجل تفكيك العلاقات بين بغداد وطهران، ففرضت عقوبات واسعة على الأصول المالية العراقية، ولوَّحت بفرض المزيد من العقوبات في حال تم استيراد الطاقة الإيرانية، كما أجبرت حكومة السوداني على اتخاذ إجراءات أمنية وسياسية تهدف للحدّ من نفوذ الفصائل المسلحة لتقليص دور إيران التي تدعمها [3] . 

على الرغم من أن الانسحاب الأمريكي من العراق قد يوفر فرصة لإيران لإعادة التموضع في العراق، والاستفادة من الفراغ الأمريكي، إلاّ أنه حتى اللحظة يبدو أن واشنطن حريصة على عدم تكرار سيناريو الانسحاب الكامل من العراق في ديسمبر / كانون الأول 2011، عندما ملأت إيران الفراغ الأمريكي، وذلك من خلال إفهام إيران بأن الانسحاب الأمريكي قد يُمثّل تهديداً لإيران في العراق، أكثر من كونه فرصة للهيمنة على الداخل العراقي، وهي رسائل يبدو أن إيران تتعامل معها حتى الآن بحذر كبير، وهذا يظهر من خلال عدم تبنيها أيّ مواقف متشددة ضدّ منع إقرار قانون الحشد الشعبي في مجلس النواب العراقي، أو محاولات حكومة السوداني إيجاد بدائل للطاقة بعد وقف استيراد الغاز من إيران. 

4. التصعيد الإقليمي: يمكن اعتبار التصعيد الإقليمي الذي تمارسه إسرائيل بالوقت الحالي بمثابة تحدٍّ أمني قد يفرض نفسه في سياق  العلاقات الأمنية بين بغداد وواشنطن، إذ إن قيام إسرائيل بنقل الصراع للداخل العراقي عَبْر استهداف الفصائل المسلحة الموالية لإيران سيدفع باتجاه توتُّر جديد على غرار ما حصل إثر اغتيال سليماني والمهندس، وسيُضعف قدرة الحكومة العراقية على الحدّ من الدور الإيراني في الداخل العراقي، حيث ستتجه طهران غالباً لاستنفار كل نفوذها العسكري والاجتماعي والسياسي في الساحة العراقية، وهذا بطبيعة الحال سينعكس سلباً على علاقة بغداد مع طهران. 

سيناريوهات مستقبلية متوقَّعة 

يوجد عدة سيناريوهات مستقبلية محتملة لمسار العلاقة بين بغداد وواشنطن في مرحلة ما بعد الانسحاب من العراق، وهي على النحو الآتي: 

السيناريو الأول: التحوُّل لشراكة إستراتيجية موسَّعة بين بغداد وواشنطن، يفترض هذا السيناريو أن العلاقة الأمنية بين بغداد وواشنطن في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي ستتجه من العلاقة الأمنية إلى شراكة إستراتيجية موسَّعة، وذلك بناءً على المعطيات السياسية التي عبَّرت عنها إدارة ترامب والحكومة العراقية في أكثر من مناسبة، خصوصاً بعد التفاهم الأمني الذي توصلت إليه بغداد وواشنطن في سبتمبر / أيلول 2024، عندما تم التأكيد على أن الانسحاب الأمريكي من العراق سيكون مقدِّمة للتحوُّل نحو شراكة إستراتيجية أكثر اتساعاً في المستقبل. 

السيناريو الثاني: البحث عن بدائل أمنية جديدة عَبْر حلف الشمال الأطلسي، يفترض هذا السيناريو أن فشل الحكومة العراقية في منع الانسحاب الأمريكي الكامل والمفاجئ من العراق خلافاً للتفاهمات الأمنية السابقة، يعني أن الولايات المتحدة قد تتراجع عن مواقفها السابقة في التحول نحو شراكة إستراتيجية موسَّعة مع بغداد في المرحلة المقبلة، ولعل زيارة السوداني إلى بروكسل في مطلع شهر سبتمبر/ أيلول 2025، ولقاءه مع الأمين العام لحلف الشمال الأطلسي مارك روته، تشير لرغبة العراق في البحث عن بديل أمني جديد، وعدم الاقتصار على مراقبة متغيرات الموقف الأمريكي، خصوصاً مع المزاجية المتقلبة لإدارة ترامب في تعامُلها مع الملفّ العراقي. 

السيناريو الثالث: استمرار العلاقة المرتبكة للمزيد من السنوات، في ظلّ ارتباطها بالتطوُّرات المتسارعة في المنطقة، وبالتالي بقاء طبيعة العلاقة غير واضحة، وهذا قد يتضمن أيضاً إبطاء عملية الانسحاب وليس إلغاءها، وترحيل قرار تثبيت شكل العلاقة إلى بعد انتهاء التصعيد الإقليمي والاضطرابات الأمنية، مع إبقاء جزء من القوات الأمريكية تحت عناوين أخرى مثل حلف شمال الأطلسي مثلاً. 

الخُلاصة 

رغم تأكيد إدارة ترامب أن سحب القوات الأمريكية من العراق لا يعني تخلِّي الولايات المتحدة عن التزاماتها الأمنية حيال العراق، إلاّ أن ما حصل لا بد وأن يؤثر على العديد من النواحي، مثل إصلاح القطاع الأمني في العراق، أو عقود التسليح وتحديث المنظومة العسكرية، أو الحفاظ على الشراكة بين الطرفين. 

إجمالاً، سيُشكِّل التفاهم المستقبلي بين العراق والولايات المتحدة، وطبيعة تفاعُل الملفّات والقضايا الأمنية مع مسارات هذا التفاهم تحدياً لكِلا البلدين في اتجاه رسم معالم علاقة إستراتيجية مستدامة. 

 

 


 

[1] مجلس النواب العراقي يُصوّت على قرار إنهاء وجود القوات الأجنبية في العراق، موقع مجلس النواب العراقي، 5 يناير/ كانون الثاني 2020،   الرابط 

[2] واشنطن تصنّف فصائل عراقية جماعات إرهابية، الشرق الأوسط، 17 سبتمبر/ أيلول 2025،   الرابط 

[3] أمريكا تعرقل خُطَط العراق لاستيراد الغاز من تركمانستان عَبْر العراق، رويترز/ العربي الجديد، 19 سبتمبر/ أيلول 2025،   الرابط