الحرب الإسرائيلية في لبنان.. أهدافها ومستقبلها
2024-10-02705 مشاهدة
Download PDF
تمهيد
تصاعدت الضربات الإسرائيلية التي تستهدف مقرات حزب الله في لبنان، وقياداته وبِنْيته العسكرية والأمنية، لتصل مساء الجمعة 27 أيلول/ سبتمبر 2024 إلى عملية قصف مقر القيادة المركزية للحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث تم تدمير 6 أبراج سُوِّيت بالأرض، ونتج عن العملية اغتيال الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله، إلى جانب مسؤولين آخرين على رأسهم القائد العسكري علي كركي، ومسؤول فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني في لبنان العميد عباس نيلفروشان.
استخدمت إسرائيل في هجومها على مقر قيادة الحزب أكثر من 80 قنبلة خارقة للتحصينات، للتأكد من عدم نجاة أحد، واستغلت حالة الإرباك التي تسبب بها الهجوم في منظومة القيادة والسيطرة عند الحزب لشنّ سلسلة غارات عنيفة شملت أحياءً مختلفة من الضاحية الجنوبية ومناطق في جنوب لبنان والبقاع، ما أدى لحالة نزوح وصلت لأكثر من مليون نازح، وَفْق ما أعلنته لجنة الطوارئ الوطنية الحكومية [1] .
يُعَدّ استهداف مقرّ القيادة المركزية للحزب، واغتيال أمينه العامّ، أحد أبرز التطوُّرات في الحرب والتصعيد ضدّ لبنان، مع استمرار النشاط الإسرائيلي في عمليات القصف والاغتيالات، بينما بدأ الحديث عن بداية التدخُّل البري الإسرائيلي جنوب لبنان وانسحاب الجيش اللبناني من عدة نقاط، وعن استعداد إسرائيل لعملية برية محدودة والتخطيط للعملية الكبيرة، والتنسيق بين تل أبيب وواشنطن حول ذلك [2] ، ومع السكوت الأمريكي فإن الباب يبقى مفتوحاً أمام احتمالية انفجار الوضع في المنطقة.
مسارات متدرِّجة
ربما تعود بداية التوتُّر التي أدت للتطوُّرات الجارية لحادثة سقوط صاروخ على ملعب للأطفال في منطقة مجدل شمس في الجولان السوري المحتل نهاية تموز/ يوليو 2024، مما أدى لقتل أطفال عرب، وعلى الرغم من نفي حزب الله لمسؤوليته عن سقوط الصاروخ [3] ، إلا أن ما جرى أدى لتغيُّر في طبيعة المعارك بين الجانبين، ما يكرس سَرْدِيّة تشير إلى أن قرار التصعيد كان متخَذاً وينتظر حدثاً محدَّداً للبَدْء بالعدوان، حيث استهدفت إسرائيل أواخر الشهر نفسه القائد العسكري للحزب فؤاد شكر، في الضاحية الجنوبية، لتبدأ بعدها سلسلة اغتيالات شملت كبار قادة الحزب وأكثر أعضاء المجلس العسكري.
يبدو أن إسرائيل وبالتزامن مع انخراطها في حرب غزة، ووسط الظرف الإقليمي المعقَّد على أبواب الانتخابات الأمريكية المقبلة، ذهبت لتنفيذ الخطة المُعَدّة للبنان، وباتت تسعى إلى حسم المعركة مع الحزب وإجباره على قبول فصل الساحات ووقف معركة الإسناد مع غزة، لتغيير قواعد الاشتباك معه بما يمنعه وبشكل نهائي وحاسم عن قصف مستوطنات الشمال، وتحقيق هدف إعادة النازحين الإسرائيليين.
استمرت حالة التصعيد في العمليات بعد اغتيال شكر وصولاً إلى عملية تفجير الأجهزة اللاسلكية وأجهزة "البيجر"، وتوسُّع اغتيالات قادة التنظيم العسكري والأمني للحزب، وتحديداً قائد فرقة الرضوان وقادة الفرق الأخرى، وصولاً للحظة اغتيال نصر الله، على الرغم من كل المحاولات الدولية والإقليمية لمنع تصاعُد الأحداث في لبنان، والتي كانت تُقابَل بموقف متصلّب من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ( Benjamin Netanyahu )
أهداف معلَنة
مع اغتيال نصر الله بدأت حكومة نتنياهو تكشف أهدافها في إعادة تشكيل المشهد وخاصة فيما يتعلق بالحزب في مرحلة ما بعد الحرب، وهذه الأهداف تُنبئ بتبدُّلات عميقة في التوازن القائم مع لبنان منذ عقود.
تستثمر إسرائيل جميع الفرص المتاحة لتغيير الوضع في لبنان، لذلك تبدو خُطواتها العسكرية مستعجلة جداً ومكثفة، بدليل استمرارها اليومي بعمليات الاستهداف، والتهجير واسع النطاق، وخاصة في مناطق الجنوب التي تريدها خالية من السكان.
هذا يفسر فشل مشروع التسوية الأمريكي الفرنسي الذي طُرح على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، ويوضح أسباب إعلان وزير الخارجية الإسرائيلي رفض حكومته أيّ وقف لإطلاق النار في لبنان حتى الوصول إلى إبعاد حزب الله إلى شمال نهر الليطاني ونزع سلاحه" [4] .
هذه ليست المرة الأولى التي تطرح فيها إسرائيل هذه المطالب، لكن الإصرار عليها الآن بات بالنسبة لتل أبيب جادّاً أكثر من أيّ وقت مضى، خاصة مع تشابُك الظروف لتحقيقها، في ضوء الضربات القاسية والمتلاحقة التي سددتها إلى الحزب وأدت لاغتيال قيادته بكاملها تقريباً، كما دمرت نسبة واسعة من مخزوناته وقدراته الصاروخية في الجنوب والبقاع وجبل لبنان.
مقترحات وتحدِّيَات
فيما تندفع الجهات الدولية والإقليمية لخلق مسار جديد لإعادة إطلاق المفاوضات، قدمت واشنطن وباريس ورقة عمل للإسرائيليين واللبنانيين، تضم في طيّاتها مشروع هدنة لمدة 3 أسابيع متتالية، وخلالها يقوم المبعوث الأمريكي لشؤون أمن الطاقة آموس هوكشتاين ( Amos Hochstein ) بمفاوضات وجولات بين لبنان وإسرائيل إلى حين الوصول إلى اتفاق وتفاهم شامل، كما حصل سابقاً في ملف ترسيم الحدود البحرية .
يكمن التحدي الأبرز ضِمن هذه الوساطة في إقناع الجانبين بوقف الأعمال العسكرية، والطلب من إسرائيل وقف الطلعات الجوية التي تستهدف الأراضي اللبنانية. يتم العمل على تخفيض العمليات العسكرية في البداية، يليها وقف إطلاق نار شامل، والأخذ بتعهدات إعادة الإعمار في لبنان وإعادة السكان في المستوطنات شمال إسرائيل، والقبول بالصيغ الأمريكية في ملف ترسيم الحدود البرية والنقاط المختلف عليها جغرافياً، والأهم تعزيز انتشار قوات الطوارئ الدولية وتعزيز قدرات الجيش وإنشاء أبراج مراقبة بريطانية، وعدم حصول أي تحرُّكات أو تعزيزات عسكرية لصالح الحزب .
أساس الورقة هو الوصول إلى صيغ تَقْبلها الأطراف المتنازعة لتطبيق القرار الأممي 1701 (2006)، على أن تتضمن بعض الصيغ التوضيحية حيال آليات تطبيق القرار، بحيث لا يكون هناك أيّ التباس بشأنه، وفي حال لم يتم الوصول إلى توافُق حول إصدار هذه التوصية بقرار عن مجلس الأمن، فلا بُدّ من اعتمادها بناء على اتفاق بين القوى الدولية الكبرى.
هذا المسار تشوبه العديد من التحدِّيات، في مقدِّمتها الموقف الإسرائيلي المتحمس لاستكمال الحرب وتوسيعها، وموقف الحزب المرتبط مع إيران، ومبدأ عدم فصل الجبهات القتالية، وبالتالي مؤازرة جبهة غزة وجعلها سقفاً يضعه الحزب في مواجهته المفتوحة مع إسرائيل، لذا فالمقترحات بقيت حبيسة النقاشات في ظلّ المواقف المتناقضة للأطراف.
أهداف نتنياهو
الأهداف الداخلية
منذ بداية الحرب سعى نتنياهو وفريقه لترويج سَرْدِيّة اختلافه مع أركان اليمين الإسرائيلي في حكومته، وإظهار الهُوَّة بينهما، وحجم الابتزاز الذي يتعرض له، لكن نتنياهو في العمق يُظهر أنه لا يعاكس تطلُّعات هذا الجناح المتطرف في حكومته، وخاصة أنه استطاع إقصاء كل التيار العلماني الإسرائيلي، ورفع مستوى اعتماده على المتطرفين وتبنى نهجهم، وهذا ما ظهر في العملية العسكرية الحالية في لبنان .
موقف الحكومة الإسرائيلية المعلَن الذي تُبلِّغه الأمريكيين وعمل المبعوث الأمريكي هوكشتاين على تسويقه، والمدعوم من دول أوروبية وعربية، يكتفي بطلب وقف إطلاق النار في لبنان وضمان أمن السكان على الحدود الشمالية، بابتعاد مقاتلي الحزب وصواريخه كيلومترات في اتجاه نهر الليطاني، والخروج إلى ما وراء النهر تنفيذاً للقرار 1701، لكن ما يفعله نتنياهو وأركان الجيش لا يوحي بأنه سيكتفي بالمعلَن، وإنما هو يرفع السقف لتشمل ضمانات تعطيل قدرة الحزب على تنفيذ أيّ ضربة ضدّ إسرائيل، لذلك اتسع نطاق الضربات الإسرائيلية ليشمل مخازن الحزب ومنصّاته في البقاع الغربي وبعلبك والهرمل وجبل لبنان.
إن مقاربة اليمين الإسرائيلي للحرب تقضي باستكمال المعركة لتجريد الحزب من كامل ترسانته الصاروخية، لا سيما الدقيقة والبالستية التي يمكن أن يستخدمها ضدّ إسرائيل، حتى ولو أقيمت المنطقة العازلة جنوب نهر الليطاني، ما يعني أن إسرائيل تريد تعطيل الصواريخ التي يصل مداها إلى إسرائيل حتى من شمال خط النهر، وهذا سيشكل تحديات عميقة للحزب، بمقدار ما هو هدف إستراتيجي لحكومة الحرب الإسرائيلية.
الأهداف الخارجية
على المستوى الخارجي يستفيد نتنياهو من الدعم غير المعلَن الذي حصل عليه من واشنطن، لتوجيه هجمات جوية واسعة ومركزة على الحزب، تساهم في تفكيك قدراته العسكرية، مع التأكيد الأمريكي على رفض حصول أي تدخُّل بري، بالتزامن مع قيام واشنطن بحشد أسطولها البحري لمنع نتنياهو من الذهاب بعيداً في مغامرة عسكرية، وبالتالي المخاطرة بتوسيع مساحة المواجهة الإقليمية، لذلك اكتفى البنتاغون بالإعلان عن نيته إرسال عدد قليل من القوات الإضافية [5] .
لكن ثَمّة مَن يعتقد أن الموقف الأمريكي يرتبط بسياقات أخرى، خاصة مع المواقف التي أطلقها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان لدى وصوله إلى نيويورك، والتي تُعتبر تحوُّلاً كبيراً في العناوين الكبرى للسياسة الخارجية الإيرانية [6] .
في ظلّ التطوُّرات الكبيرة على مستوى المنطقة بجدولة واشنطن انسحابها من العراق وتخفيض قواتها نهاية 2025، يتهيب نتنياهو من حصول أيّ تطوُّر إقليمي يُفضي لتوسع الحضور الإيراني، وخاصة بعد زيارة بزشكيان للعراق، وإطلاقه مواقف سياسية تتحدث عن أهمية احتضان جميع الأطراف العراقية واستيعابها [7] .
على ما يبدو فإن نتنياهو يسعى لإجهاض التفاهمات التي أنجزتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ( Joseph Biden ) مع إيران؛ لأن أي تورُّط أمريكي بالنزاع الجاري سيؤدي حتماً إلى إجهاض هذه التفاهُمات، وسحب واشنطن للمشاركة في حماية أمن إسرائيل.
الانطباع الأبرز أن نتنياهو يسعى لتعزيز حظوظ المرشح الجمهوري دونالد ترامب ( Donald Trump ) عَبْر توريط الإدارة الديمقراطية بحرب في المنطقة، فإذا ما حصل ذلك فسيخسر الديمقراطيون أصوات الجاليات الإسلامية والعربية والإيرانية، أما إذا تلكأت عن ذلك فهي ستخسر من أصوات اليهود، والذين تظهر أرقام الاستطلاعات تأييد أكثرهم للحزب الديمقراطي [8] .
خاتمة
شكَّل الهجوم الإسرائيلي على مقر القيادة المركزية لحزب الله واغتيال أمينه العامّ حسن نصر الله ضربةً كبيرةً للحزب، تسعى الحكومة الإسرائيلية بزعامة نتنياهو إلى الاستثمار فيها للتعويض عن نتيجة ربما غير مرضية أو يمكن وصفها بالفشل على مدى عام في قطاع غزة، حيث لم يحقق خرقاً واضحاً في أي من الأهداف التي وضعها للحرب هناك، بحيث يحولها إلى مكاسب سياسية في مواجهة خصومه على المستوى الداخلي والخارجي، عَبْر زيادة رصيده في الشارع الإسرائيلي.
سيحاول نتنياهو خلال المرحلة القادمة الاستمرار في الضغط على الحزب لدفعه إلى الاختيار بين وقف الحرب والاستسلام لفصل الجبهات، والانسحاب إلى شمال الليطاني، أو الاستمرار في قتال مرهق ومكلف بتوجيه المزيد من الضربات إليه لإضعافه، في ظل الحديث المستمر عن القيام بعملية برية، لتكريس وقائع ميدانية، لذا فالأمور بدأت بإعادة تشكيل المشهد الإقليمي، وسيترتب عليها نتائج مهمة في صناعة الفاعلين.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)
الهوامش:
[1] ميقاتي يكشف بعد اجتماع "لجنة الطوارئ الحكومية" وصول عدد النازحين إلى المليون: مهما طالت الحرب سنعود إلى القرار1701 والجيش حاضر لتطبيقه، موقع الوكالة الوطنية للإعلام، 29/09/2024. الرابط
[2] علي بردى، إسرائيل تعبر الحدود بعد انسحاب الجيش اللبناني، موقع صحيفة الشرق الأوسط، 30/09/2024. الرابط
[5] TARA COPP and LOLITA C. BALDOR, The US is sending a few thousand more troops to the Middle East to boost security , The Associated Press, 30/09/2024. link
[6] انظر: رسول آل حائي، أوساط إيرانية تدعو بزشكيان للتصالح مع واشنطن باعتباره "الوقت المناسب " ، موقع الجزيرة نت، 26/09/2024. الرابط