الحرب في غزة: التوازُنات الإقليمية والدولية على مفترق الطُّرُق
2024-01-061438 مشاهدة
لقد امتدت تداعيات الحرب في غزة لتشمل مرتكزات النظام الدولي، حيث تعمق الاستقطاب السياسي وترسخت التحالفات الدولية والإقليمية على هامش هذا الصراع، كما يواجه الاقتصاد العالمي -بما في ذلك أسعار النفط والغذاء– اضطراباً كبيراً بسبب تداعيات هذه الحرب. ومن الناحية الجيوسياسية، قد يبدو أن الصين هي واحدة من المستفيدين القلائل من الصراع، وكلما طال أمد الحرب، كلما أصبحت المخاطر أكبر وتضاعفت المخاوف بشأن مستقبل المنطقة ومخاطر تدويل النزاع خاصة بعد مرحلة غير بعيدة من تطبيع بعض الدول العربية لعلاقاتها مع إسرائيل.
إن التداعيات المترتبة على الصراع بين إسرائيل وحماس قد يعقبها موجات من العنف والتطرف العنيف والتي بدأت تنتشر بالفعل في مختلف أنحاء العالم. وتتمثل المخاطر العالمية في الاضطراب الاقتصادي، وتزايُد نقاط الضعف العسكرية، والاستقطاب السياسي الأعمق، والتحديات الإستراتيجية الجديدة، والطبيعة المتغيرة للحرب بسبب الجهات الفاعلة المتحاربة من غير الدول.
الموقف الأمريكي المتخاذل
لقد أصبح الصراع في غزة أحدث مسرح لزعزعة الاستقرار وكابوساً حقيقياً في عالم متشرذم وفوضوي بشكل لا مثيل له. إنّ هجوم حماس على جنوب إسرائيل، وردّ الفعل العنيف لإسرائيل والذي يخلف الأعداد المتزايدة من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، أثار موجة من الاستياء والسخط في مختلف أنحاء المعمورة ووضع صُنّاع القرار السياسي حول العالم في موقف صعب أمام هذا الكمّ الهائل من الصواريخ التي تقصف المدنيين الفلسطينيين بدعوى القضاء على حركة حماس.
إنّ أعمال العنف لم تدفع الشرق الأوسط إلى المزيد من الاضطرابات فحَسْبُ، بل إنها تثير تساؤُلات جدية حول الهيمنة الأمريكية ومستقبل النظام الدولي. وفي أعقاب تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، أصبح الصراع في قطاع غزة، نموذجاً مصغراً للفوضى العالمية. لقد سلط الضوء على انهيار المعايير الدولية، وانحياز الطرف الأمريكي لفائدة إسرائيل، والانقسام المتزايد بين الغرب ودول الجنوب. وقد كشفت الحرب في غزة عن محاولة إسرائيلية وأمريكية لتحييد القضية الفلسطينية وإنهائها بشكل كامل، من خلال التخلي، بحكم الأمر الواقع، عن أساس التسوية وهو حلّ الدولتين.
حسب اتفاقيات أبراهام المبرمة مع بعض الدول العربية في سبتمبر 2020، تتفق إسرائيل والدول العربية الموقِّعة على الاتفاقيات السالفة الذكر، على السُّبُل الضرورية التي من شأنها ترسيخ الاستقرار والأمن الشامل والفعّال في الشرق الأوسط، والعمل على احتواء الطموحات الإيرانية؛ وعلى مستوى أبعد، تمكين واشنطن من التركيز على انشغالها الإستراتيجي الأساسي المتمثل في مواجهة صعود الصين، واعتبار منطقة الشرق الأوسط أولوية من الدرجة الثانية بالنسبة لواشنطن.
هذا التوجه تغيرت مساراته في الوقت الحالي، ومهما كانت نتيجة الصراع في قطاع غزة، فقد بات من الواضح أنه لا يمكن تجاهُل القضية الفلسطينية كقضية مركزية في الشرق الأوسط. لقد كشفت الحرب عن حدود السلطة الأمريكية في الشرق الأوسط وخارجه بل وتورط واشنطن إلى جانب إسرائيل في قتل المدنيين، حيث تحول القطاع إلى ساحة حرب لا تحترم فيها الأخلاق ومعايير القانون الدولي.
تظل الولايات المتحدة القوة الأقوى في العالم إلى حدّ بعيد، لكن سمعة الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الدولي أصبحت موضع تساؤُل كبير بعد تورُّطها في حرب غزة، ولهذا السبب تحاول واشنطن الضغط على إسرائيل لإحداث بعض التغييرات في غاراتها وقصفها من بعيد، جوّاً وبحراً وبرّاً- والتي أدت إلى مقتل عدد كبير من المدنيين الفلسطينيين، ودمار جزئي أو شامل لغالبية المباني في قطاع غزة، حيث ترى واشنطن أن اغتيال قادة «حماس» لا يحتاج إلى تدمير بقية ما تبقى من أبنية في غزة. وتقدم واشنطن هذه النصائح لخدمة إسرائيل، إذ إنها لم تَعُدْ قادرة على تجنيد العالم إلى جانبها، بل إن الولايات المتحدة نفسها أصبحت «وحيدة ومعزولة» في دعم عمليات إسرائيل الحربية. وينطوي هذا الموقف الأمريكي على القناعة بأن الأهداف ذات السقف العالي جداً التي طرحتها القيادة الإسرائيلية للحرب لم تكن واقعية ولا قابلة للتحقيق، ولا بُدّ من مساعدتها على النزول عن هذا السقف بالتفتيش عن وسائل أخرى، والتفرغ للمفاوضات حول تبادُل الأسرى.
تكشف عودة واشنطن للتدخُّل في أزمات الشرق الأوسط وخصوصاً في الحرب على غزة، إلى استمرار النهج الواقعي للإدارة الأمريكية، والتمسك بأهم ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية، المتعلق بالدعم غير المشروط لإسرائيل، اعتباراً أن استمرار الهيمنة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط رهين بوجود وأمن الدولة العبرية.
هل تستفيد روسيا والصين من التدخُّل الأمريكي في غزة؟
عبَّرت الصين وروسيا عن مواقف أقل ما يقال عنها أنها مخالفة لواشنطن وانحيازها التامّ لإسرائيل في موقفهما من الحرب في غزة، مؤكدتين على معاداة واشنطن ومعارضة سياستها الخارجية، وبالتالي فمنظور الصين وروسيا للحرب في غزة يركز على تأمين مصالح البلدين واستغلال ظروف الحرب لتعميق الخلاف والعداء للولايات المتحدة الأمريكية، كما تنظر الصين وروسيا إلى المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية التي قد تجنيها من تدني شعبية واشنطن وتراجع دورها على الصعيد العالمي.
تعتقد بكين أن إدارة بايدن سوف تفشل حتماً في سياسة الاحتواء الإستراتيجي للصين، ويراهن الكرملين على أن التآكُل الواضح بالفعل للدعم الأمريكي والغربي لأوكرانيا سوف يتسارع، وهو ما من شأنه أن يزيد بشكل ملموس من فرص التوصل إلى تسوية سياسية للحرب في أوكرانيا لكن بشروط روسية.
من المرجَّح أن تستفيد الصين نسبياً من الصراع في الشرق الأوسط وفي أوكرانيا، مستغلة انشغال الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية الحرب "الروسية- الأوكرانية" في 24 شباط/ فبراير 2022 في مساعدة أوكرانيا ومدّها بالعتاد والأسلحة النوعية. وحالياً تواجه واشنطن التزامات مماثلة تجاه إسرائيل، وفي الوقت نفسه، تنفق روسيا مواردها العسكرية في حرب الاستنزاف في أوكرانيا، في حين لا تواجه الصين تحديات إستراتيجية وعسكرية مماثلة.
وبالرغم من ذلك لا يتوقع في المستقبل القريب والمتوسط أن تزيد الصين من تنافسيتها للولايات المتحدة الأمريكية، حيث يشير الكثير من الدلائل إلى أن الصين لن تتمكن من جعل اقتصادها الأكبر عالمياً بعد أن تراجعت الثقة فيه بدرجة كبيرة، مما يؤجل تفوُّقها على واشنطن في الموعد المستهدَف، أي قبل نهاية هذا العقد. ووَفْق خبراء بلومبرغ إيكونوميكس فإن بكين لن تتمكن من تحقيق هدفها بالتربع على عرش اقتصاد العالم قبل منتصف أربعينيات هذا القرن على أقرب تقدير، وأشاروا إلى أنه إذا حدث ذلك فسيكون التفوق بهامش محدود، قبل أن يتراجع الاقتصاد الصيني إلى المركز الثاني مجدداً.
في سياق التدافع الأوسع على النفوذ العالمي بداية من القرن الحادي والعشرين، قامت الصين بتعميق علاقاتها مع دول الجنوب والدول النامية، حيث إن العديد من دول الجنوب متعاطفة مع القضية الفلسطينية، وبالتالي فإن هذه الحرب يمكن للصين استخدامها لحشد الدعم لقيادتها في البلدان النامية، وذلك بهدف "تقليل" مكانة واشنطن العالمية من خلال الاستفادة من التعاطف مع الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم. وهذا الأمر بدوره قد يساعد في كسب الدعم للمواقف الصينية بشأن القضايا الأساسية مثل شينجيانغ وتايوان - ولرؤية شي جين بينغ للحَوْكَمة العالمية.
انهيار نظام القواعد المعيارية
عانت الرؤية الليبرالية "للنظام الدولي القائم على القواعد" بقيادة الولايات المتحدة من انتكاسة مدمرة أخرى وعلى نطاق واسع. القليل مَن يعتقد -خارج دائرة حلفاء واشنطن- أن هذا النظام يمتلك شرعية أخلاقية أو مصداقية سياسية. ويُنظَر إلى "قواعدها" باعتبارها خدمة ذاتية، هي ببساطة قواعد مدوَّنة من قِبل الغرب، ومن أجل الغرب، نادراً ما بدت هذه القواعد المعيارية معبِّرة ومتوافِقة مع القواعد التي تؤمن بها بقية دول العالم.
منذ نهاية مرحلة الحرب الباردة، يبدو أنه من الراجح أن لا تكون هناك عودة إلى نظام دولي يتمحور حول توازُنات القوى العظمى، وذلك لأن سلطة وقدرة هذه القوى أصبحت أضعف من أي وقت مضى، ولهذا فإن الصراعات الحالية تشكل هزيمة ليس فقط لصانعي السياسات في الولايات المتحدة والرؤية الليبرالية للحَوْكَمة العالمية، لكنها تشير بشكل واضح إلى أزمة أكبر وأعمق يجتازها النظام الدولي والتوجُّهات النيوليبرالية العالمية.
وعلى الرغم من القيود الواضحة التي يفرضها النظام الليبرالي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فإنه لا يوجد بديل في المستقبل القريب يؤكد على انتصار التعدُّدية القطبية بشكل كامل. إنّ "النظام المتعدِّد الأقطاب" الذي يطمح إليه صُنّاع السياسات في روسيا، وبدرجة أقل، في الصين، وأيضاً ما يعرف بدول الجنوب العالمي، ما زالت ملامحه غير واضحة، ولا يوجد إلا القليل من المؤشرات غير القابلة للتطبيق لحدّ الساعة، وخاصة حول "إضفاء الطابع الديمقراطي" على العلاقات الدولية.
دول الجنوب والسياسات المستقلة
لا يوجد رابحون من المأساة المروِّعة التي تتكشف في قطاع غزة، ومع ذلك، فقد عززت هذه الحرب الأهمية والتأثير المتزايديْنِ لدول الجنوب، ورغم أن الباحثين والمفكرين الغربيين يُشكِّكون في صحة هذا الطرح، فقد برزت دول الجنوب كدائرة سياسية قوية وفاعلة ومتناغمة، حيث لا تعمل هذه الكتلة على تشكيل وجهات النظر حول الصراع الحالي فحَسْبُ، بل إنها تحاول ترسيخ رؤية جديدة للنظام الدولي ورسم سياسات مستقلة تبتعد عن التقاطبات، فمقابل تأكيد الولايات المتحدة وحلفائها على "قواعد اللعب" التي لا تحظى إلا بقدر ضئيل من الشرعية خارج نطاق الغرب، أو ترتيبات على طراز "الوفاق" من شأنها تكريس صلاحيات القوى العظمى، تطمح معظم دول الجنوب إلى نظام أكثر تنوُّعاً وتمثيلاً، وأقل تحكُّماً و توجيهاً من القوى الكبرى.
خاتمة
في غياب أيّ أُفُق للحلّ في غزة ومستقبل الصراع في فلسطين، يبدو من الواضح أن تفاعُلات الصراع وتعاطي الدول الغربية بشكل سطحي وفجّ وغير أخلاقي مع المجازر الإسرائيلية في حقّ الفلسطينيين، أظهرت أن الوصفات المعتادة لحلّ المشاكل الدولية لم تَعُدْ صالحة ولن تَفِ بالغرض المقصود منها في ظل التهميش الواضح للقانون الدولي وتنفيذ إرادة التوحُّش والفوضى دون كوابح أو رغبة جماعية في وقف نزيف الحروب الدموية.
وبالنظر إلى الرهانات التي يطرحها المستقبل، فإن تشبُّث القوى العالمية بشعارات ومَقُولات متهالكة من قَبيل "النظام القائم على القواعد الغربية"، ووَهْم القِيَم "العالمية"، وأسطورة حكم القوى العظمى "متعدِّدة الأقطاب"، والانشغال المَهوُوس بالمنافسة الجيوسياسية، سوف يُدخِل العالم إلى دائرة الفوضى وعدم الاستقرار، خاصة أن العنف المتصاعد في الشرق الأوسط، سيُسهم حتماً في توليد العنف المضادّ والقوى الثورية الرافضة للتعامل مع شكل النظام الدولي الحالي، بالمقابل يمكن للدول الكبرى أن تتعامل بشكل واقعي مع التهديدات والتحدِّيات التي يواجهها العالم؛ فالصراع في الشرق الأوسط وقضايا تغيُّر المناخ وقضايا الأمن الغذائي والصحي وغيرها، تتطلب أساليب مختلفة جوهرياً وأكثر شمولاً وتعاوناً، ولهذا فالاستمرار في تبني سياسات خاطئة سوف يزجّ بالعالم في حالة فوضى دائمة وغير منتهية.
في عالم يشهد استقطاباً حادّاً، حيث امتدت الحرب إلى قارات بعيدة وعواصم قَصِيّة، وعرف سجالات علمية متناقضة ومختلفة، أثارت الحرب على غزة انقسامات واضحة لا تُوصَف ببساطة بأنها مؤيدة لإسرائيل أو مؤيِّدة للفلسطينيين، بل تتجاوز ذلك إلى التهديد بإبادة العرب والمسلمين ومعاداة السامية، حيث خرج مئات الآلاف من المحتجين في مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين من لندن إلى كوالالمبور. كما أسهمت الحرب في تعزيز الانقسام داخل حلف الناتو، على سبيل المثال، أدانت الولايات المتحدة الفظائع الوحشية التي ترتكبها حماس، في حين وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إسرائيل بأنها قوة محتلة، ونفى أن تكون حماس جماعة إرهابية.