تعثُّر المسار السياسي في ليبيا
2022-06-231964 مشاهدة
يُشكِّل استمرار افتقار الليبيين إلى توافُق في الآراء بشأن الترتيبات الدستورية والقانونية، والهشاشة المحتملة لوقف إطلاق النار المدعوم من الأمم المتحدة، وظهور التنافُس المؤسسي الذي يهدد استقرار ليبيا، تحدِّياتٍ أمام السعي نحو الاستقرار السياسي في البلاد.
وبدأت الأزمة تتصاعد بعد تأجيل انتخابات 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021 إلى أَجَل غير مسمًّى، وما تَبِعَه من انقسام حكومي، ففي آذار/ مارس 2022 سحب البرلمان الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة واختار وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا رئيساً للحكومة.
وعليه أصبحت ليبيا حالياً تُدار من قِبل حكومتين تتنافسان على انتزاع الشرعية، وقد وصل الأمر إلى حدّ حصول اشتباكات مسلحة، حيث وقعت بتاريخ 10 حزيران/ يونيو اشتباكات بين كتيبة النواصي التابعة لفتحي باشاغا وجهاز دعم الاستقرار التابع لعبد الحميد دبيبة. وبالمثل سبقها حصول اشتباكات بين مؤيدي باشاغا والدبيبة في أواسط أيار/ مايو.
وعليه أصبحت هناك عدة محدّدات ومعالم رئيسية لمسار المشهد السياسي المُعقَّد في ليبيا وهي أصبحت أسباباً أيضاً تعيق جهود التوصل إلى حلّ، ومن أبرزها:
1. استمرار وجود حكومتين تمارسان مهامهما على الأرض بدون تنسيق بينهما؛ بل وبوجود حالة عداء وتصادُم بينهما، بما يساهم في تعميق أزمة المشهد السياسي في ليبيا.
والذي يعقد هذه المشهد بشكل أكبر هو مُضِيّ كل طرف قُدُماً لشَرْعَنة عمله على الأرض، وكان من آخِر هذه التحركات إقرار البرلمان الليبي في 15 حزيران/ يونيو لموازنة حكومة باشاغا، بنحو 89.6 مليار دينار ليبي (20 مليار دولار)، مع العلم أن البرلمان عارض مراراً مُقترَحات الموازنة التي قدمتها حكومة الدبيبة في السابق.
2. الاصطفافات السياسية الداخلية تُعيق تحقيق تقارُب في وجهات النظر بين الفرقاء، فحالياً تمرّ الكيانات والشخصيات السياسية بحالة استقطاب واسعة النطاق بين مؤيد لباشاغا وبين مناصر للدبيبة وبين أطراف محايدة وأخرى تحاول تحصيل مكاسبها الشخصية فقط.
3. غياب فاعلية مؤسسات سيادية في احتواء الأزمة، ومن أهم هذه المؤسسات المجلس الأعلى للدولة بقيادة خالد المشري، والمجلس الرئاسي الليبي بقيادة محمد المنفي، وهما الطرفان غير المَعنيّين (عملياً) بإعطاء الشرعية للحكومة، وإنما يكون ذلك من صلاحيات البرلمان بقيادة عقيلة صالح.
وتجري مؤخراً لقاءات متعددة بين الأطراف السابقة المعنيّة، فمن المُرتقَب أن يلتقي المشري قريباً عقيلة صالح في القاهرة، وبدوره الأخير التقى المنفي في 16 حزيران/ يونيو لبحث الأزمة السياسية، لكن هذه النقاشات نتائجها غير فعّالة إلى حدّ الآن.
4. غياب الأُفُق أمام تحديد موعد جديد للانتخابات من قِبل المفوضية العليا للانتخابات، وعلى الرغم من أن رئيس المفوضية عماد السايح أكد في 16 حزيران/ يونيو أن المفوضية ستكون قادرة على تحديد موعد يوم الاقتراع في كانون الأول/ ديسمبر المقبل في حال تسلُّمها التشريعات الانتخابية التي تقرها القاعدة الدستورية في تموز/ يوليو المقبل. إلا أن ذلك قد لا يكون واقعياً على اعتبار أن إقرار القاعدة الدستورية الذي يجري حالياً في مصر برعاية المبعوثة الأممية ستيفاني ويليامز قد لا يشهد توافُقات بين المشاركين فيه من الفرقاء الليبيين.
5. انفصال عمل لجنة 5+5 الأمنية عن مسار الأزمة السياسية في ليبيا، ولا تزال المهامّ الرئيسية المنوطة بعملها هي الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار والمضيّ قُدُماً بتطبيق آليات لإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا.
وتواصل اللجنة اجتماعاتها بشكل شِبه دوري، وكان آخِرها في 15 حزيران/ يونيو بالقاهرة، لكن ما يثير التساؤل هو مدى إمكانية تحقيق مهامها في ظل أزمة سياسية خانقة في البلاد، وقد يُفسر ذلك بأن هناك توافُقات (أمنية) هشّة أو ضِمن مبدأ الحدّ الأدنى بالحفاظ على مكتسبات اتفاق وقف إطلاق النار بين الفرقاء -ماعدا باشاغا والدبيبة- وهذا التوافُق الأمني الهشّ يتم الحفاظ عليه عَبْر ممارسة ضغوطات دولية كبيرة على اللجنة لا سيما من قِبل المبعوثة الأممية.
أي أن الأزمة السياسية في البلاد سيكون لها حدود معينة في التأثير على الحالة الأمنية، فمهما حدثت اشتباكات بين مؤيدي باشاغا ومؤيدي الدبيبة يجب ألَّا تتطور إلى انهيار كامل لوقف إطلاق النار وهو الخطّ الفاصل بين استمرار الأزمة السياسية والتحول إلى حرب أهلية.
وبناءً على ما سبق، فإن محدّدات الأزمة الليبية أصبحت متشابكة بشكل أكبر من ذي قبل، وفي ظل انعدام الاتفاق والثقة بين النخب السياسية في البلاد فإن السيناريوهات القاتمة لا تزال واردة الحدوث وعلى الأرجح إذا استمرت الأزمة السياسية بين الحكومتين إلى جانب عدم تحديد موعد للانتخابات حتى نهاية العام فإن التداعيات والنتائج ستكون ذات عواقب سلبية جداً.
من جهة ثانية، تمرّ مرحلة تنافُس المصالح الدولية في ليبيا بحالة (جمود) حالياً، حيث يوجد توافُق ضِمنيّ بين الفاعلين الرئيسيين في المشهد على ضرورة إرساء الاستقرار السياسي في ليبيا من أجل الحفاظ على المصالح والمكتسبات التي حققها كل طرف دولي، ومن المحتمل أن تستمر مصر والجزائر -أي دول الجوار- بقيادة جهود إرساء السلام في ليبيا دون تدخُّل مباشر للاعبين آخرين خلال المدى القصير.