كونفدرالية الساحل الإفريقي.. السياق والتحديات والآفاق
2024-08-07879 مشاهدة
على الجغرافيا التي كانت قبل قرون موحَّدة تحت إمبراطوريات عِدّة (إمبراطورية غانا، مملكة مالي، دولة السونغاي ( أعلن رؤساء المجالس العسكرية الحاكمة في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو تأسيس اتحاد كونفدرالي تتويجاً لمسار "تمرد" على الأُطُر الإقليمية والعلاقات التقليدية للبلدان التي قادتها تحديات مشتركة لمصير مشترك.
سياق الإعلان
الإعلان الذي تمّ في السابع من تموز/ يوليو 2023 في العاصمة المالية باماكو بحضور قادة مالي عاصيمي أگويتا، وبوركينا فاسو إبراهيما توري، والنيجر عبد الرحمن أتياني جاء تتويجاً لمسار تطوُّرات وديناميكيات مستمرة منذ سنوات، وقد عرفت تسارُعاً في الأشهر الأخيرة.
فالدول الثلاث تحكمها مجالس عسكرية وصلت السلطة انقلاباً، وتستمر فيها غِلاباً، رافضة تحديد مواعيد نهائية لإعادتها للمدنيين رغم الضغوط والحصار المفروض من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والاتحاد الإفريقي[1].
والدول الثلاث تواجه منذ سنوات صراعات مسلحة عنيفة بين الدول المركزية وجماعات مسلحة تمثل مزيجاً من مجموعات محلية تشكو الحرمان من حقوق المواطنة، وجماعات ترفع شعارات دينية تنتمي للقاعدة وداعش وأخواتها وتفريعاتها وامتداداتها والتعبيرات عنها المنطبعة بالطابع الساحلي الإفريقي[2].
والدول الثلاث خاضعة لعقوبات من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) أو (السي دي أو)، كما تُعرَف في منطقة الغرب الإفريقي، وذلك قبل أن تعلن الدول الثلاث مغادرة المجموعة في وقت واحد.
والدول الثلاث كانت تشكل مع موريتانيا وتشاد مجموعة الخمس في الساحل، التي ظلت على مدى عشر سنوات الإطار الإقليمي الأكثر حضوراً في مقاربات السعي لتحقيق الأمن في الساحل، وقد انسحبت تِباعاً من المجموعة التي بقيت خاوية على عروشها بعد محاولات إنقاذ عديدة خاضتها نواكشوط دولة المقر، وإحدى دول الإقليم التي ما زالت تحتفظ بعلاقات ودّ مع المحور الغربي.
أبعاد الإعلان
ظهرت الإرهاصات الأولى للاتحاد الكونفدرالي في بيان صدر في السادس عشر من أيلول/ سبتمبر 2024 من العاصمة المالية باماكو معلناً عن تحالف عسكري بين الدول الساحلية، اختار المجتمعون أن يعطوه اسم مدينة "ليبتاگو گورما" الحدودية بين البلدان الثلاث، ومع أن تحالُف دول الساحل المعلَن حينها نُظر إليه كمجرد بديل عن مجموعة الخمس، لكن فقرات البيان جاءت ناطقة بحقيقة كونه نواة صلبة لاستجابة البلدان الثلاث لهمومها المشتركة؛ فقد أُسس في ديباجته على "السيادة ورفض الهيمنة، وأكد على وحدة المصير وعلى الدفاع المشترك، ووعد بقيام قادة البلدان بما يضمن تحقيق مصالح الشعوب ومواجهة الأخطار المشتركة[3]، وهكذا يمكن أن نرى في الاتحاد الكونفدرالي أبعاداً عِدّة.
فهو يسعى لفرض مُعطًى إستراتيجي على كل مَن يفكر في حضور من أي نوع في المنطقة، فوجود ما يزيد على السبعين مليون ساحلي ضِمنه يجعله في مصافّ الدول الإفريقية الكبرى، ويجعله ثاني أكبر تجمُّع في الغرب الإفريقي بعد نيجيريا.
وهو في البُعد الاقتصادي إلى جانب ما يُمثِّل من سوق كبيرة يمتلك مخزوناً كبيراً من الثروات، وخصوصاً من الذهب؛ إذ سيحلّ ثانياً بعد جنوب إفريقيا، وهو ما سيفرض له وزناً خاصاً، ليس بمؤشر الاحتياطات والتوقعات، وإنما بمؤشر الإنتاج الفعلي والإنتاج الممكن في المدى المنظور.
وإلى جانب الذهب، هناك اليورانيوم والفوسفات ومعادن أخرى كثيرة هي جزء أساسي مما يسيل لعاب القوى المتصارعة في الإقليم عليه.
وهو في البُعد العسكري والأمني يريد تشكيل صورة عن قدرات عسكرية وأمنية يسند بعضها بعضاً في مواجهة التحديات القائمة؛ فتحت عنوان " تنويع الشراكات" الذي ترفعه المجالس العسكرية في البلدان المشكِّلة للاتحاد الكونفدرالي، تم اقتناء كميات كبيرة من الأسلحة من كل من روسيا وتركيا وإيران والصين.
تحديات وآفاق
برغم نبرة الطموح العالية التي يتحدث بها القادة العسكريون الحاكمون في مالي وبوركينا والنيجر المعلنون عن اتحاد كونفدرالي، ومع ملاحظة الاحتضان الشعبي الذي حظي به هذا الخطاب أول الأمر في منطقة بلغ فيها الإحباط من أنظمة ما بعد الاستقلال مداه، لكن الاتحاد يواجه تحديات جِديّة في صدارتها:
النفاذ إلى المحيط: فالدول الثلاث دول حبيسة، والبلدان المحيطة بها وإنْ كانت معنية برعاية مصالحها مع هذه البُلدان لكنها بين المشتبك مع الاتحاد (ساحل العاج) والمتحفِّظ عليه (موريتانيا)، والذي لم يحسم بعد طريقة التعاطي معه (السنغال)، وفي المحصلة فالاتحاد في وضع غير مريح من حيث ضمان نفاذه للمحيط، وهي الوضعية التي بلغ ببُلدانه الشعور بصعوبتها حدّ التفكير في القفز على الجغرافيا من خلال حوار مع المغرب الذي لا تربطه به أي حدود.
وثاني التحديات تنامي مطالب العودة للحياة الديمقراطية؛ فشعوب المنطقة برغم دعمها للمسارات التي قد تُحقِّق الأمن، لكن بها قوى سياسية ومجتمعاً مدنياً يُصِرّ على التمسُّك بالديمقراطية، وقد أعطت الانتخابات التي شهدتها السنغال مطلع العام وضمنت تحوُّلاً ضِمن السقف الديمقراطي دفعة لحراكات متصاعدة تطالب بإلحاح بتحديد مواعيد نهائية للعودة للحياة الديمقراطية.
وثالث التحديات؛ وهو أكثرها تعقيداً في الكلفة الإنسانية الباهظة للاعتماد على مقاربة الأرض المحروقة والقتل على الهُوِيّة التي تعتمدها ميليشيا "فاغنر" (أصبحت تُعرَف حديثاً بالفيلق الإفريقي)، وهو ما تسبَّب في تعقيد المشكلات العِرْقية والثقافية والحقوقية القائمة أصلاً، والتي شكَّلت منذ البداية ركناً من أركان فشل هذه البُلدان وغيرها من بُلدان الساحل الإفريقي.
ختاماً تُمثِّل كونفدرالية الساحل تجربة وُلِدت من رحم معاناة مشتركة لشعوب ذات تاريخ ممتدّ في الوحدة، وإحساس عميق بالرغبة في مستقبل مختلف عن عقود التِّيهِ والتَّبَعِيّة والتشرذُم، لكن حصولها في ظل أنظمة عسكرية ليس لها أُفُق سياسي، ومصدر قوتها الرئيسي الاعتماد على قُوى خارجية جديدة يجعل نجاحها محلّ تساؤُلات كبرى وجِدّية، يظهر أن الأجوبة الحاسمة عليها لن تخرج من ميدان التدافع بين عوامل الدفع، وكوابح المنع قبل أشهُر، بل ربما سنوات.
الهوامش:
[1] أحمد ولد الوديعة: النفاذ إلى المحيط: هل يشعل دول منطقة الساحل؟ 23 كانون الثاني/ يناير، مركز الجزيرة للدراسات، الرابط.
[2] تقرير الندوة السياسية حول “كونفدرالية دول الساحل: منظور جديد في التحولات الجيوسياسية وإعادة ترتيب الأولويات”، 17 تموز/ يوليو 2024، مركز أفرو بوليسي، الرابط.
[3] Abdelhak Bassou: From the Alliance of Sahel States to the Confederation of Sahel States: the road is passable, but strewn with pitfalls, 22 March 2024, Policy Center for the New south, link.