سياسة واشنطن الفاشلة في إفريقيا بحاجة إلى إعادة ضبط

سياسة واشنطن الفاشلة في إفريقيا بحاجة إلى إعادة ضبط

2024-04-23
1060 مشاهدة


مع تعاظم التحديات التي تواجه الولايات المتحدة في إفريقيا، يتبين أن استراتيجيتها الحالية لمكافحة التهديدات الأمنية قد تكون غير كافية، وتتطلب الظروف الجديدة تحوّلاً إلى تركيز أكبر على دعم الحوكمة وتعزيز الفرص الاقتصادية، وسيتعين على الولايات المتحدة إعادة النظر في أولوياتها في القارة السمراء لضمان استقرارها وازدهارها المستقبلي.

نص الترجمة:

تُجسّد دولة النيجر الواقعة غرب القارة الإفريقية آخر الدلائل التي تشير إلى أن واشنطن تحتاج لسياسة جديدة تجاه القارة السمراء، فبعد أشهر طويلة من المناورات السياسية المُكثفة، يبدو من المرجح أن الشراكة الأمنية القائمة بين واشنطن ونيامي Niamey على وشك الانتهاء. وفي أعقاب الزيارة الأخيرة التي قامت بها مولي فيMolly Phee، مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية، والجنرال مايكل لانغلي Michael Langley، رئيس القيادة الأمريكية في إفريقيا، أعلنت الحكومة العسكرية النيجرية بشكل مفاجئ عن نهاية أكثر من عقد من الشراكة التدريبية والعملياتية مع الولايات المتحدة.

وبعد أن أجبرت الأنظمة الجديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر الجيش الفرنسي على الخروج من المنطقة، يتعرّض الجيش الأمريكي الآن لخطر أن يكون الضحية التالية في موجة الانقلابات وحركات التمرّد العنيفة التي تعصف ببلدان كثيرة في القارة. إن انسحاب القوات الأمريكية من النيجر - وإغلاق القواعد الجوّية التي تموّلها الولايات المتحدة في مدينتي نيامي وأغاديز Agadez - من شأنه أن يعرّض جهود واشنطن لمواجهة التهديدات الإرهابية العابرة للحدود ومصادر الاضطراب في شمال وغرب إفريقيا للخطر، ولا يمكن تجاهل تأثير مثل هذا التحوّل الاستراتيجي.

ومع ذلك، وعلى الرغم من النكسات الخطيرة التي لحقت بالأمن والاستقرار السياسي، فقد أظهرت المنطقة أيضاً علامات تشير إلى قوّة ديمقراطية، يجب على واشنطن رعايتها كجزء من نهج سياسي جديد. ففي 25 آذار/ مارس، انتخبت السنغال رئيساً جديداً، باسيرو ديوماي فايBassirou Diomaye Faye، وهو زعيم للمعارضة يبلغ من العمر 44 عاماً، وهو شخصية غير معروفة على المستوى السياسي. والآن أصبح بوسع السنغال أن تخرج من الاضطرابات التي تسبّب بها الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال Macky Sall عندما حاول إلغاء الانتخابات قبل ثلاثة أسابيع من إجرائها، الأمر الذي أثار احتجاجات داخلية واسعة النطاق.

ولكن في 17 شباط/ فبراير، ألغت المحكمة العليا السنغالية أمر إلغاء الانتخابات وأمرت بإجراء التصويت "في أقرب وقت ممكن". وبعد أن كانت المنطقة تستعد لتشهد تحوّل واحدة من أهم الديمقراطيات في إفريقيا إلى الاستبداد، ظهر مفعول التأثير الكبير لسيادة القانون والتزام المواطنين بالمشاركة بالعملية الديمقراطية، مما أدى لحدوث نتيجة مُغايرة.

إن الضرورة الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة تتلخص في دعم البلدان التي تعمل على تعزيز الديمقراطية، مثل السنغال، ومنع تراجع الديمقراطية، على غرار ما حدث في النيجر، وتمتلك إفريقيا كموناً كبيراً، ففي غضون 15 عاماً، من المتوقع أن تحتوي إفريقيا أكبر عدد من السكان في العالم من البالغين ممن هم في سن العمل، متجاوزةً بذلك عدد سكان كل من الصين والهند. وبحلول عام 2050، سوف تحتوي إفريقيا 25% من سكان العالم، وسوف تتفوّق نيجيريا على الولايات المتحدة لتصبح ثالث أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وتعدّ إفريقيا بالفعل موطناً لستة من الاقتصادات العشرة الأسرع نمواً في العالم، فالموارد الطبيعية الوفيرة في القارة - بما في ذلك المعادن النادرة المستخرجة من باطن الأرض- ليست مصدراً لثروة هائلة محتملة فحسب، بل ستكون أيضاً بالغة الأهمية للثورة التكنولوجية الحالية.

تعهدت الإمارات والصين وبريطانيا بأكبر قدر من الاستثمار الأجنبي المباشر في إفريقيا في عام 2023، ووعدت هذه الدول بتقديم ما يساوي من ثلاثة إلى خمسة أضعاف المبالغ القادمة للقارة من الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك يتوجب على الولايات المتحدة أن تبدأ بضخّ الاستثمارات على نطاق يتناسب مع الوعود الكبيرة المُقدّمة للقارة من حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حدّ سواء.

وبدلاً من السعي لتحقيق أهداف استراتيجية شاملة في إفريقيا، اتبعت واشنطن شراكات محدودة تركز في المقام الأول على التعاون الأمني، بينما لم تقم إلا بالقليل لتغيير العوامل التي تؤدي إلى عدم الاستقرار. ولم ينجح هذا النهج، فقد تصاعدت معدلات التطرّف والعنف، وفشل الدولة، والتأثير السلبي للتدخلات الأجنبية، والحكم العسكري، مما خلق تهديدات أمنية لمواطني الولايات المتحدة، وقلّل من حجم التجارة مع إفريقيا، وأدى إلى تأجيج تحديات الهجرة التي أثرت على شركاء الولايات المتحدة في أوروبا. وبدون سياسة أكثر شمولاً تعطي الأولوية للأمن، والحوكمة، وتحسين الفرص الاقتصادية لتعزيز الاستقرار، ستستمر الولايات المتحدة في التنازل عن نفوذها لجماعات - مثل تنظيم داعش – التي تبدو عازمة على استغلال عدم الاستقرار في إفريقيا لتحقيق أهدافها الخاصة.

أحد الأسباب المُلحّة التي تتطلب من الولايات المتحدة رسم استراتيجية جديدة، هو أن إفريقيا أصبحت المركز العالمي للإرهاب العابر لحدود الدول. ففي عام 2023، حازت القارة على ما يقرب من نصف الوفيات العالمية المرتبطة بالإرهاب، والتي كانت غالبيتها في دول الساحل، والتي تشمل نيجيريا. وربما لا يشعر أي بلد بخطر التطرف المؤدي إلى العنف بشكل أكثر حدّة من جارة النيجر، بوركينا فاسو، حيث أدى القتال بين القوات المتمردة والحكومة إلى مقتل ما يقرب من 8000 شخص في عام 2023 في الدولة التي كانت هادئة ذات يوم.

هذا الانهيار في الأمن هو نتيجة مباشرة لممارسات الحكم الإقصائية، حيث تشير العديد من الدراسات إلى أن التطرف المؤدي إلى العنف ينتشر عندما لا يشعر المواطنون برعاية الدولة لهم وتلبية احتياجاتهم الأساسية؛ وليس لهم رأي في تحديد مستقبلهم؛ ويعانون على أيدي حكومات فاسدة غير خاضعة للمساءلة. وفي الأماكن التي تفشل فيها الحكومة المركزية، كثيراً ما يتدخل الزعماء التقليديون لسدّ هذه الفجوة، ولكن في بلدان مثل مالي والنيجر، يقوم المتمردون باستمالة الزعماء التقليديين أو قتلهم من أجل السيطرة على المناطق الريفية. في بعض الحالات، قامت الجماعات المتمردة بتولّي مهمات الحوكمة، مثل التوسط في النزاعات، وهو مجال يمكن لهذه الجماعات أن تقدم فيه خدمة تحقيق عدالة حاسمة حتى وإن كانت بأسلوب وحشي، وهو ما تفشل الجهات الحكومية في توفيره.

وبينما تبحث دول مثل جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي عن حلفاء جدد، استغلت مجموعة مرتزقة فاغنر الروسية الفرصة لتجعل من نفسها شريكاً أمنياً بغيضاً، ولكنه مُرحبّ به محلياً على الرغم من تورطها في مزاعم الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.

وعلى الرغم من هذه التطورات السلبية، إلا أن هناك سبباً يدعو للأمل في أن تلقى إصلاحات الحوكمة اللازمة لتغيير الوضع ترحيباً من جانب المواطنين في إفريقيا. ووفقاً لشبكة الأبحاث المستقلة Afrobarometer، تظلّ الديمقراطية هي الشكل الأكثر شعبية للحكم في إفريقيا، حيث يدعمها 66% في 36 دولة شملها الاستطلاع.

وبالرغم من أنه قد يبدو مثيراً للقلق في البداية أن 53% من الأفارقة - ونسبة أعلى حتى بين الشباب - قد يؤيدون تدخلاً عسكرياً إذا أساءت الحكومة استخدام سلطتها، إلا أن هذه البيانات تشير إلى أن الأفارقة ليسوا مستعدين لتحمل الديمقراطية الشكلية، بل لابدّ أن تكون ديمقراطية فعلية مفيدة لهم.

لقد فشل نهج واشنطن تجاه المنطقة في تحقيق أهدافها المتمثلة في دعم الاستقرار وخلق الظروف المواتية لمصالح الأفارقة والولايات المتحدة. وينبغي لأي استراتيجية يتم تفعيلها أن تجمع بين دعم الأمن والبرامج الرامية إلى مساعدة الزعماء الأفارقة الطموحين على صقل المهارات اللازمة للقيادة والحكم، وخاصة بين السكان المهمشين. ويشمل ذلك، على سبيل المثال، تنظيم الفولاني Fulani، وهو تنظيم قائم على العرق الذي يشكل أكبر نسبة من الجماعات المتمردة في منطقة الساحل. وقد تكون تجربة النيجر الإيجابية في دمج الطوارق في الحكومة في أعقاب التمرد المدمر مفيدة.

كما تشكل الفرص الاقتصادية أهمية بالغة لاستقرار المنطقة على المدى الطويل، فغالباً ما تكون الحاجة إلى كسب لقمة العيش هي الدافع الذي يدفع الشباب إلى الانضمام إلى الجماعات المسلحة؛ ومن الممكن أن يؤدي توفر فرص أكثر وأفضل في أماكن أخرى إلى خلق حوافز قوية لترك مثل هذه الجماعات والتنظيمات. وتلعب واشنطن دوراً مهماً في تشجيع مشاركة القطاع الخاص مع الدول الأكثر استقراراً في غرب إفريقيا، حيث تواجه تهديدات بعدم الاستقرار الإقليمي على نطاق أوسع. على سبيل المثال، اجتذب قطاع تكنولوجيا المعلومات المزدهر في غانا بالفعل استثمارات من شركات IBM، Microsoft، Cisco، وتعد البلاد حالياً ثالث أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا. ومثل هذه الاستثمارات الاقتصادية طويلة الأجل هي الميزة النسبية للولايات المتحدة لتعزيز الشراكات مع البلدان الأفريقية.

وينتهي قانون النمو والفرص في إفريقيا African Growth and Opportunities Act، والذي يسمح للدول الإفريقية المؤهلة بتصدير سلع معفاة من الرسوم الجمركية إلى الولايات المتحدة، ينتهي في عام 2025. ومن الممكن القيام بتجديده ــ أو إنشاء اتفاقية تجارية لاحقة ــ لتحفيز الحكومات في المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لمؤسسة Millennium Challenge Corporation، وهي وكالة مساعدات خارجية أمريكية، أن تقوم باستثمارات كبيرة في البنية التحتية الحيوية - مثل المياه والنقل - وتحسين المشاريع الزراعية، الأمر الذي من شأنه أن يساعد السياسيين الأفارقة على تحقيق أهداف شعوبهم.

على الرغم من كل عيوبها، فإن الهيئات المتعددة الأطراف في إفريقيا ــ مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) ــ ستكون شريكة بالغة الأهمية في تعزيز الأمن والاستقرار. ويرى منتقدو مجموعة ECOWAS أنها لم تكن فعّالة: على سبيل المثال، لم يكن التهديد بفرض عقوبات على المجموعة ولا الدعوات العامة للكتلة لنشر قوتها العسكرية الاحتياطية للإطاحة بالمجلس العسكري في النيجر سبباً في تراجع المجلس العسكري. ومع ذلك، كانت مجموعة ECOWAS تاريخياً واحدة من أقوى التجمعات الإقليمية في إفريقيا، وكانت تدعم الديمقراطية باستمرار عندما تتعرض الحكومات المدنية للتهديد. ومع تقليص عدد بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مختلف أنحاء إفريقيا وخسارة القوى التقليدية مثل فرنسا لنفوذها، فإن الولايات المتحدة لديها مصلحة واضحة في مساعدة مجموعة ECOWAS على بناء قدرتها على إدارة الأزمات الإقليمية والتخفيف من حدّتها.

إن استراتيجية التركيز فقط على البلدان الأكثر إشكالية لم تخدم الولايات المتحدة ولا إفريقيا جيداً. وبالإضافة إلى تحسين القدرة على الاستجابة السريعة لأزمات مثل الحرب الأهلية السودانية، يجب على واشنطن التركيز على الأقل على الاستثمار في البلدان التي تحقق تقدماً ديمقراطياً لمساعدتها على تحقيق إمكاناتها والعمل كمناطق تستقطب عمليات التنمية الإقليمية. تعد الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى ساحل العاج، والإعلان عن تمويل أمريكي إضافي مثالاً جيداً على نوع التعزيز الإيجابي الذي يجب على واشنطن أن تدعمه.

أخيراً، يجب على واشنطن تحفيز الحكومات الانتقالية في مرحلة ما بعد الانقلاب على اتباع طريق العودة إلى الديمقراطية. إن مجرد إجراء الانتخابات الموعودة لا يعني أن المرحلة الانتقالية قد اكتملت، فإعادة بناء المعايير والمؤسسات الديمقراطية في أعقاب هذه التصدعات تتطلب إحراز تقدم مستدام.

ومن الناحية العملية، يمكن أن يشمل ذلك مساعدة الحكومة الجديدة على تلبية احتياجات شعبها من خلال الاستثمار في خدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم. ويجب أن يستمر دعم المجتمع المدني والأحزاب السياسية والحكم الوطني والمحلي على المدى الطويل لتعزيز المكاسب. وسوف توفر الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في تشاد الشهر المقبل فرصة مبكرة لمتابعة هذه الاستراتيجية.

ويرتبط الحكم الديمقراطي القوي ارتباطاّ مباشراّ باستقرار إفريقيا وازدهارها على المدى الطويل. ويتعين على الولايات المتحدة أن تثبت للأفارقة أنها تعتبرهم شركاء في عملية التحوّل الديمقراطي، وليسوا مجرّد بيادق في عصر جديد من المنافسة بين القوى العظمى. إن اهتمام واشنطن وقدرتها على دعم قوات الأمن التي يسيطر عليها المدنيون، والنمو الاقتصادي الشامل، والتنمية الديمقراطية المستدامة، يمنحها ميزة فريدة على المنافسين مثل موسكو وبكين، الذين يعقدون صفقات مع النخب على حساب المواطنين.

لقد حان الوقت الآن لكي تكرّس الولايات المتحدة هذا النهج في سياسة جديدة مدروسة وشاملة تجاه إفريقيا.

ترجمة: عبد الحميد فحام
المصدر:
( فورين بوليسي)