كيف يمكن أن تستفيد الجماعات الجهادية من وقوع الفوضى في تشاد؟

كيف يمكن أن تستفيد الجماعات الجهادية من وقوع الفوضى في تشاد؟

2023-12-30
955 مشاهدة


ليس من المبالغة القول: إن منطقة الساحل الممتدة على مسافة أكثر من 5000 كم في وسط القارة الإفريقية، هي الأكثر خطورة وتسجيلاً في العالم لعمليات العنف من حيث تصاعُد العمل الجهادي فيها، وهي المنطقة الوحيدة في العالم التي شهدت سبعة انقلابات خلال العقد الأخير، إلى جانب سلسلة من الحملات العسكرية التي لم تكبح جماح تنظيمات جهادية تتبدّل واجهاتها وتتصاعد عملياتها منذ عام 2012، رغم العمليات الفرنسية الثلاث -سيرفال، وبرخان، وتوباكو- في المنطقة.

اعتمدت فرنسا على نشر قواتها بشكل رئيسي في مالي وإدخال تحالف من دول الساحل -مالي، وبوركينا فاسو، وموريتانيا، وتشاد، والنيجر- في مواجهة مع التنظيمات الجهادية، إلا أن العملية رغم نجاحات نسبية، وصلت إلى فشلٍ نهائي، تمثّل بنزوح أكثر من 15 مليون إنسان في المنطقة، وتوسّع نفوذ الجماعات الجهادية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتهديد وحدة مالي نفسها بالتقسيم إثر دعم الجماعات الانفصالية شمال البلاد.

تشاد.. كيف يبدو الوضع فيها؟

تتكوّن مجموعة دول الساحل في إفريقيا من حزام من الدول الممتدة من موريتانيا إلى تشاد، وقد حرصت فرنسا التي نشرت قواتها في عدد من هذه الدول في إطار عمليتَيْ "سيرفال" و"برخان"، على ضبط الوضع السياسي والأمني فيها، بهدف الحفاظ على نفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري، ومنع تصاعُد الجماعات الجهادية فيها مرة أخرى.

تعددت الانقلابات في المنطقة، وبالرغم من ذلك، فإن الوضع السياسي والأمني في موريتانيا يبدو مستقرّاً، حيث لا يظهر فيها نشاط علنيٌّ لأيٍّ من الجماعات الجهادية، في حين أن الدولة الأخيرة من حزام الساحل -أي تشاد- لا تبدو في مأمن من خطر الانقلابات أو الفوضى الجهادية، حيث من المحتمل بشكل كبير أن القطعة الأخيرة في دول الساحل واقعة أمام تهديدٍ من عدم الاستقرار ووصول الفوضى الإقليمية إليها.

تولّى رئاسة تشاد منذ استقلالها 6 رؤساء، اثنان منهم ينتميان لقبيلة القرعان العربية هما قوكوني وداي (حكم من1980ـ 1982) وحسين حبري (حكم من 1982- 1990) إلا أن إدريس ديبي إتنو -الأب- قاد تمرداً مسلّحاً عام 1990 أخرج من خلاله حسين حبري من السلطة، ليحلّ بديلاً عنه.

استطاع ديبي بعد نجاحه في جعل قبيلة الزغاوة العربية المتحكّم الرئيسي بالبلاد والجيش، رغم أن نسبتها من مجموع السكان لا تزيد عن 2% إلا أنها أقصت قبيلة القرعان التي تزيد نسبة سكانها عن 6% من مجموع سكان تشاد عن جميع مفاصل السلطة -وهناك العديد من العرقيات الأخرى أشهرها الساري، والتبو، والباما- الأمر الذي أدى لظهور عدة حركات تمرد مسلح واسعة في البلاد، من بينها حركة التمرد التي قادها حسن حبري، ونجح في الوصول بقواته إلى العاصمة عام 2008 إلا أن الدعم الفرنسي للرئيس إدريس ديبي إتنو دفعه للتراجع.

تولّى رئيس المجلس العسكري محمد إدريس ديبي زمام الأمور إثر مقتل والده الرئيس السابق للبلاد في أيار/مايو 2021 في حربه ضد فصائل المعارضة في الشمال، وقد كان تولي ولده خطوة مدعومة من قبل فرنسا، حيث شُكِّل مجلساً عسكرياً من خمسة عشر ضابطاً من كبار قيادات الجيش، وعيِّن ولده رئيساً للمجلس العسكري، على أن تدير الحكومة التشادية مؤتمراً للحوار الوطني، يفضي لإقرار دستور جديد للبلاد والانتقال الديمقراطي للسلطة.

إثر مقتل إدريس ديبي الأب في أيار/مايو عام 2021، فرِضت الأحكام العرفية، وعُلِّق الدستور، وقُمعت المظاهرات المؤيدة للديمقراطية، إلى جانب تسويق نظام الابن لجدول زمني انتقالي يعتمد على الحوار الوطني ووضع دستور جديد للبلاد والبدء بإصلاح سياسي.

تحولت تشاد إلى مركز لوجستي وعملياتي لقيادة العمليات الفرنسية في الساحل، وأرسلت فرنسا؟ -على عدة دفعات- نحو 1500 جندي من قواتها للمشاركة في بعثة حفظ السلام في مالي بين عامي 2020- 2023، إلى جانب إسهامها الواضح في العمليات العسكرية الداعمة للجيش النيجيري في محيط بحيرات تشاد شمال شرقي نيجيريا ضد تنظيم الدولة -ولاية غرب إفريقية- في المنطقة.

في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2023 أعلنت المفوضية الوطنية المكلفة بتنظيم الاستفتاء الدستوري الذي جرى في 17 كانون الأول/ديسمبر تأييد 86% من المصوّتين للدستور الجديد، في حين أن 14 بالمئة من المقترعين رفضوه، حيث بلغت نسبة المشاركة 63,75 %.

لم يرد في الدستور الجديد ما طالبت به أحزاب المعارضة من مطالب الفيدرالية، وإنما ركّز على وحدة البلاد مع رفض المركزية، وأقر مبدأ تسليم المجلس العسكري السلطة عبر عودة المدنيين إليها بانتخابات ديمقراطية، -ستعقد نهاية 2024 على الأغلب-. تؤكد المعارضة التشادية، أن الدستور الحالي لا يختلف عن الدستور السابق، حيث ما يزال بإمكان محمد إدريس ديبي رئيس المجلس العسكري الترشح للانتخابات المقبلة خاصة بعد تخفيض سنّ الترشّح للرئاسة من 40 إلى 35 سنة -علماً أن ديبي يبلغ من العمر 38 عاماً-.

هل نحن أمام آخِر حركات رقعة الشطرنج؟

ثمة حدثان لافتان في سياق الاضطرابات الإقليمية والداخلية في تشاد، أولهما أن السفير الأمريكي في نجامينا "ألكسندر مارك لاسكاريس" أبلغ في منتصف يناير/كانون الثاني 2023 الرئيس التشادي عن قرب وقوع محاولة انقلابية في تشاد، بتعاون بين ميليشيا فاغنر وقائد قوات الدعم السريع في السودان محمد حمدان دقلو الملقب بـ "حميدتي" -الذي يقود الآن عملية تمرد عسكرية ضد الجيش السوداني- انطلاقاً من جمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب ليبيا، بالرغم من أن دقلو تجمعه مع رئيس المجلس العسكري التشادي علاقة قرابة وصداقة وثيقة، وهو ما دفع ديبي لاستدعاء حميدتي في اليوم التالي من لقائه بالسفير الأمريكي.

أما الأمر الثاني فهو تململ قيادات الجيش التشادي -المنتمية بمعظمها لقبيلة الزغاوة- من تصرفات رئيس المجلس العسكري، بدءاً من طرده السفير الألماني "لتصرفاته غير المهذبة" إثر تأميمه قطاع النفط، إلى جانب محاولته الاعتماد على ميليشيا فاغنر لقيادة حملات ضد المتمردين في الشمال نظراً لوجودها في ليبيا وقربها من حميدتي، وتسليمه مطار أمدجراس الإستراتيجي للإمارات لتشغيله واستغلاله كقاعدة جوية وعسكرية في المنطقة، بالتوازي مع قربه الشديد من حميدتي المنحدر من أبوين سودانيين/تشاديين مختلطين، مما يجعل البلاد تحت تهديد حميدتي بإثارة الفوضى فيها، وبالتالي الدخول في فترة جديدة من العنف في إطار الدوامة الإقليمية.

تشير بعض المعلومات إلى أن كبار قادة الجيش من جنرالات "الزغاوة" في تشاد، يميلون لانتقاد ديبي علناً، خاصة بعد دفعه عدداً من كبار القادة للتقاعد وترقية أصدقائه مثل إدريس يوسف بوي لمناصب حساسة في إدارة البلاد، فباتوا يعارضون تصرفاته مثل توجهه لتسليح ميليشيا قوات الدعم السريع في السودان، خشية أن يرتدّ إلى تشاد نفسها، فيثير الفوضى فيها بعد إحكام السيطرة على غرب السودان ووسطه، خاصة بعد حملات التطهير العرقية التي نفذتها ميليشيات الدعم السريع بحق أقلية "المساليت" في غرب دارفور، حيث يشتركون معهم في علاقات مصاهرة وروابط ثقافية متجذرة، مما يجعل تصرفاته تهديداً مباشراً لهم.

هذا كله، يصعّد من احتمال حدوث سيناريو مشابه لما جرى في الغابون أخيراً، حيث يمكن أن يقوم بعض ضباط القصر، أو أحد أشقاء ديبي بتنفيذ حركة تمرد انقلابية، تؤدّي لتغيير شكل الخارطة السياسية في البلاد.. وبالتالي؛ فإن التهديد الحقيقي لرئيس المجلس العسكري التشادي، لا يأتي من أحزاب المعارضة أو صناديق الانتخاب، وإنما من الدائرة العسكرية القريبة منه، وهو ما تغذّيه الإشاعات المتكررة، بأن البلاد على وشك مواجهة "انقلاب عسكري" من الدائرة المؤثرة في قيادات الجيش، وهذا بالضبط عامل كبير من عوامل الفوضى التي تهدد آخر قاعدة فرنسية في دول الساحل بعد خروجها النهائي من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

أرض الفرص.. هكذا تنظر الجماعات الجهادية لتشاد

وصل إلى أراضي تشاد ما يزيد عن نصف مليون إنسان من اللاجئين السودانيين، وبهذا يمكن أن تعد تشاد مركزا رئيسياًّ للاجئين الهاربين من تمرد قوات الدعم السريع في السودان، إلى جانب ذلك تتصاعد المشاعر الغاضبة فيها من فرنسا وتتزايد الدعوات المطالِبة بخروجها من تشاد -التي تعد آخر موقع لجنودها في الساحل-، وذلك بالتوازي مع تصاعد نُذُر وقوع مجاعة عامة في البلاد، خاصة مع موجات الجفاف التي ضربت إفريقيا، مما يهدد البلاد بكارثة إنسانية، لا يستطيع برنامج الغذاء العالمي مواجهتها في تشاد، نظراً لضعف وصوله وقلة الدعم المقدّم له في المنطقة.

يبلغ عدد السكان في تشاد نحو 18 مليون إنسان، بينهم 75% من سكان المناطق الريفية، و24% من سكان المناطق الحضرية، وتُعَدّ نسبة الشباب في تشاد من أعلى النِسَب في القارة الإفريقية، وبالتالي فهم أهداف تجنيدية محتَملة، وهو ما يلائم الجماعات الجهادية التي تتحفز لدخول هذا البلد والاستفادة من الفرص الكبيرة المتاحة فيه، سواء من جهة تنظيم الدولة المتمركز في أجزاء واسعة من بحيرة تشاد المنتشرة على طرفي الحدود بين نيجيريا وتشاد -شمال العاصمة نجامينا- أو عبر استغلال تنظيم القاعدة واقع الفوضى المتوقع لتأسيس موطئ قدم لها في تشاد بدعم من حركة شباب المجاهدين في الصومال وكينيا، أو جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في مثلث الساحل.

إن دخول تشاد في حالة من الفوضى أو حرب أهلية سيفتح الباب لتجارة السلاح غير الشرعية، وسيتيح المجال لتدفُّق عشرات آلاف المقاتلين من السودان ونيجيريا وليبيا والقرن الإفريقي، الأمر الذي سيجعل منطقة الساحل الغربي كتلة من النار المتدحرجة في القارة الإفريقية، والتي لن تنطفئ إلا بعد أن تُحيلها رماداً.