الهواجس الإيرانية في القوقاز وأسبابها
2024-09-23670 مشاهدة
على الرغم من ظاهر العلاقات الوثيقة بين "روسيا" و"إيران"، إلا أن هذه العلاقة لا تنفصل عن السياق العامّ للعلاقات الدولية، التي تُحدِّدها بوصلة المصالح وتفاعُلات القُوى بأبعادها المختلفة. ويمكن القول: إنَّ سياق العلاقات "الروسية – الإيرانية" سواء في منطقة الشرق الأوسط أم في منطقة القوقاز لا تخرج عن إطار محدِّدات هذه المصالح، التي هي المُحرّك الأول للدول في علاقاتها وتفاعُلاتها ومواقفها.
ما يدعو إلى هذه المقدمة، ردود الأفعال الإيرانية العنيفة التي أعقبت التصريحات الروسية بعد زيارة الرئيس الروسي إلى "أذربيجان"، والحديث عن ضرورة تفعيل بنود اتفاق وقف إطلاق النار بين "أذربيجان" و"أرمينيا" بعد حرب 44 يوماً عام 2020، خصوصاً الشِّقّ المتعلّق بفتح معبر "زانجيزور"، الذي يربط أراضي "أذربيجان" مع إقليم "ناختشيفان" الأذري المعزول عَبْر منطقة "سيونيك" الأرمنية.
حصلت اعتراضات إيرانية وردود أفعال وإجراءات وصلت إلى استدعاء السفير الروسي في "طهران" إلى مقر وزارة الخارجية الإيرانية، في خُطوة نادرة لم يَعْتَدْها الحليفان، وأبلغ السفير الروسي اعتراض "إيران" على هذه التصريحات، وضرورة مراعاة مصالح الأطراف، واحترام مبادئ السيادة الوطنية، وحمل ذلك إشارة جديدة إلى استمرار تبايُن المواقف بين "روسيا" و"إيران" حول ترتيبات الوضع الإقليمي في منطقة جنوب القوقاز، وهو ما أثار تساؤُلاً رئيسياً حول أسباب الرفض الإيراني لافتتاح المعبر الذي يربط الأراضي الأذرية بعضها ببعض براً عَبْر الأراضي الأرمنية.
الإجابة عن هذا التساؤُل تحمل كثيراً من النقاط المهمّة، التي تمسّ جميع دول المنطقة وخصوصاً "إيران" التي ترى في افتتاح المعبر تغييرات جيوسياسية في القوقاز، سينتج عنها تغييرات في موازين القُوى في المنطقة لصالح بعض القُوى على حساب إيران، وهو ما يُمثّل -حَسَب الإيرانيين- خطّاً أحمرَ لا يمكن السكوت عنه أو تجاهُله.
فمن جهة يُمثّل افتتاح المعبر -حسب الرؤية الإيرانية- تغييراً في الحدود المعترَف بها دولياً في المنطقة، حيث سيقلّص عدد الدول المجاورة لها من 15 دولة إلى 14 دولة، بعد خسارة حدودها المشتركة مع "أرمينيا"، وبذلك سيحرمها من أحد منافذها إلى أوروبا، الذي يربطها بـ "جورجيا" عَبْر "أرمينيا"، كما سيُؤثّر على دَوْرها الإستراتيجي في نقل البضائع الأذربيجانية إلى إقليم "ناختشيفان"، وكذلك على صادراتها إلى الإقليم، وبالتالي فإنّ افتتاح المعبر سيقلص الأهمية الإستراتيجية لـ "إيران" بوصفها معبراً للبضائع بين الشمال والجنوب، وخسارتها إحدى أوراقها المهمَّة للضغط في تنافُسها مع دول القوقاز، لذلك ترفض "إيران" رفضاً قاطعاً إدخال أيّ تعديلات على الخرائط وطرق الإمداد في المنطقة، وتَعُدّ ذلك خطّاً أحمرَ.
من جهة أخرى ترى "إيران" أن انقطاع حدودها مع "أرمينيا" سوف يسهم في تطويقها كلياً في القوقاز من قِبل "تركيا" و"أذربيجان"، وهما دولتان منافستان، لذلك يرى العديد من المراقبين أنَّ أحد أهم المخاوف الإيرانية بشأن أيّ تغيير جيوسياسي على حدودها، ينبع من توجُّسها إزاء المخططات الرامية إلى تشكيل عالم تركي عَبْر معبر "زانجيزور"، حيث سيعمل افتتاح المعبر على توسيع نطاق الوجود الإقليمي التركي في المنطقة، عبر ربط "تركيا" برياً مع دول آسيا الوسطى والقوقاز، التي تربطها معها روابط ثقافية وعِرْق مشترك، ومنها "أذربيجان" و"كازاخستان" و"أوزباكستان" و"قرغيزستان" و"تركمانستان" وصولاً إلى "تركستان الشرقية" (شينجيانغ) شمال غرب "الصين"، التي تقطنها أغلبية من "الإيغور" التركية، وهو ما سيمنح "تركيا"، المنافس الإقليمي الأقوى لـ "إيران" في المنطقة، مساحة أكبر للمناورة، تمكنها من زيادة نشاطاتها وتحرُّكاتها على مستوى المنطقة، وتعزيز دورها الإقليمي على حساب الدور الإيراني.
وبالتالي فإن هذه المخاوف الإيرانية تتجاوز المخاوف الجيوسياسية في هذه المنطقة الحيوية، لتشمل المخاوف الجيوستراتيجية، لذلك يمكن القول: إن احتجاج "طهران" على موقف "موسكو" يمثل خطّاً أحمرَ موجَّهاً لجميع القُوى المهتمة بفتح المعبر، وخصوصاً "تركيا"، التي سيسمح لها فتح المعبر بإعادة تنشيط طموحاتها بإحياء مشروع الهلال التركي الذي يربط "أنقرة" مع دول وسط آسيا وتوسيع "مجلس الدول الناطقة بالتركية" ومحاصرة الدور الإيراني في منطقة أوراسيا.
يمكن القول: إنّه إنْ حصل وتمّ افتتاح هذا المعبر، فسوف يمثل الأمرُ تحوُّلاً إستراتيجياً كبيراً، يُغيّر من المعادلات والتوازُنات السياسية والأمنية والاقتصادية في المنطقة بأكملها لحساب بعض القوى على حساب "إيران" ودورها، وهذا ما يجعل مسألة افتتاح المعبر أكثر من مجرد قضية إقليمية، بل جزءاً من لعبة دولية أكبر، حيث تحاول كل قوة فرض رؤيتها وتهيئة الظروف بما يناسب مصالحها الإستراتيجية، وبالتالي قد يكون المستقبل القريب حاسماً في تحديد شكل التحالفات وملامح التوازُنات الجديدة في هذه المنطقة الحسّاسة من العالم، ما يجعل الموقف الإيراني شديد الحساسية تجاه أي تغيير قد يُهدد مكانتها ونفوذها في هذا السياق، وهذا يُمثل منبع الرفض الإيراني لافتتاح هذا المعبر.