الحضور الفرنسي في غرب إفريقيا بين محفّزات الهيمنة ومنغّصات البقاء
2022-10-173433 مشاهدة
تمهيد
تاريخ منطقة غرب إفريقيا وجغرافيتها يجعلانها على مفترق طرق، ومساحة التقاء مصالح القوى المتنافسة في الغرب (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، المملكة المتحدة) وفي الشرق (الصين، روسيا، تركيا). فلم يَعُدْ خافياً أن دائرة تأثير فرنسا في مستعمراتها القديمة في منطقة غرب إفريقيا باتت في تراجُع وانحسار. وتعود أسباب هذا التراجع إلى عوامل متعددة منها غطرسة فرنسا تجاه مستعمراتها القديمة، ودخول فاعلين جُدد يمتلكون وسائل وأدوات تأثير مغرية، على خط المنافسة.
وقد قرّر القادة الأوروبيون في عام 1885 تقاسم إفريقيا، وذلك في مؤتمر برلين الشهير، وقد أخذت بريطانيا وفرنسا حصة الأسد من هذه القسمة. بعد إعلان برلين بسنوات قليلة، شرعت فرنسا في دخول منطقة غرب إفريقيا لبسط نفوذها الاستعماري، حيث بدأت فكرة الاستعمار عن طريق الاستيلاء على أراضي المنطقة، في بعض الأحيان من خلال القوة المسلحة، وأحياناً عن طريق التوصل إلى اتفاقيات حماية وضعت حداً للحروب المحلية بين مجموعات وقوميات الأرض.
وأسّست فرنسا في عام 1895 كياناً إدارياً، أطلقت عليه اسم منطقة غرب إفريقيا-الفرنسية، حيث تشكل من السنغال والسودان الفرنسي (مالي حالياً) وغينيا وساحل العاج. وكان المقر العامّ لهذا الكيان في السنغال.
وفي بداية القرن العشرين، تمّ استعمار كل منطقة غرب إفريقيا تقريباً، مع نشوء جيوب مقاومة في بعض الأماكن، فيما رفض عدد من المناطق معاهدات الحماية التي عرضها الفرنسيون. وكانت المقاومة سبباً في شراسة الفرنسيين تجاه مَن يقف في وجه وجودهم في المنطقة، إذ قابلوها بموجة من القمع ونهب الموارد وفرض الضرائب وأعمال التجنيد. واستمرت فترة استعمار فرنسا للمنطقة لغاية 1960، وتميزت بارتكاب جرائم القتل والإبادة وسرقة الموارد والتراث وطمس هُوِيّات شعوب المنطقة مقابل ترسيخ الثقافة الفرنسية.
ويوصف الاستعمار الفرنسي بكونه الاستعمار الوحيد الذي ظلّ يحافظ على الكثير من مصالحه الاقتصادية والثقافية والأمنية في المناطق التي خضعت لسيطرته. وتتجلى هذه الحقيقة في منطقة غرب إفريقيا بشكل كبير، حيث ظلت فرنسا لوقت قريب، الفاعل الأكثر نفوذاً في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية في بلدان المنطقة. فباريس ترتبط باتفاقيات تعاوُن نقدي مع الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا (UEMOA)، الذي يتكون من ثماني دول هي بنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو. وكانت فرنسا بموجب هذا الاتفاق، تستفيد من إيداع نصف احتياطيات النقد الأجنبي الخاص بالبنوك المركزية لدول المنطقة لدى الخزانة الفرنسية، مقابل ربط عملة الفرنك الإفريقي بالفرنك الفرنسي سابقاً، ثم اليورو لاحقاً. وتصاعد مع الوقت تدخُّل فرنسا في شؤون الدول الأعضاء، فيما ساهمت باريس، بشكل مباشر وغير مباشر، في هندسة أنظمة الحكم في المنطقة.
ولا يزال لفرنسا نفوذ سياسي واقتصادي في منطقة غرب إفريقيا، إلا أن تركيز باريس على دول المنطقة يتفاوت بحكم اعتبارات التاريخ والاقتصاد والمصالح الجيوستراتيجية. وتأتي الدول التالية في طليعة الاهتمام الفرنسي في إفريقيا:
السنغال: يوصف هذا البلد بالذاكرة التاريخية والسياسية والثقافية لفرنسا في إفريقيا. وتختلف تاريخياً العلاقة بينه وبين فرنسا عن أي علاقة أخرى لباريس في إفريقيا. فالوجود الفرنسي في إفريقيا بدأ من مدينة سينلوي السنغالية في القرن السابع عشر. وبالتالي، تُعتبر سينلوي عموماً أول مستعمرة فرنسية في القارة.
وتجدر الإشارة إلى أن السلطات الاستعمارية الفرنسية منحت مدينة سينلوي عام 1872، صفة بلدية فرنسية ضِمن مدن وبلديات فرنسا ما وراء البحار. وكان سكان المدينة بموجب هذه الصفة، يتمتعون بحق المواطنة الفرنسية. وكانت مدينة سينلوي العاصمة السياسية للاستعمار الفرنسي في منطقة غرب إفريقيا، واحتضنت أهمّ المنشآت الإدارية والتجارية للاستعمار في المنطقة.
إلى ذلك، يُنظر إلى السنغال كأحد أبرز الروافد المعرفية للتعليم والثقافة الفرنسيين في المنطقة، حيث تأسست فيها أولى مدارس التعليم الفرنسي إبان فترة الاستعمار، وكانت مأوى للتلاميذ والطلبة من معظم ربوع إفريقيا، والذين أصبحوا بعد رحيل فرنسا، نواة الدولة الوطنية.
ساحل العاج: تُعتبر هذه الدولة الرئة الاقتصادية لفرنسا في المنطقة، حيث تحتضن استثماراتها الضخمة، وتأتي كثاني أكبر شريك تجاري لفرنسا في إفريقيا جنوب الصحراء، بعد جنوب إفريقيا. ووصل حجم التبادل التجاري بين الجانبين العام الماضي إلى حوالَيْ 1.6 مليار يورو([2]).
النيجر: يحتلّ هذا البلد موقعاً خاصاً في إستراتيجية الأمن القومي الفرنسي منذ أن بدأت فرنسا عام 1971 عَبْر شركة «أريفا»، في الاستحواذ على استخراج اليورانيوم منها. والنيجر تمدّ فرنسا بـ 35% من احتياجاتها من الطاقة النووية([3])، وهو ما يساهم بدوره في 75% من الطاقة الكهربائية الفرنسية.
مظاهر الإخفاق الفرنسي
تشهد العديد من الدول الإفريقية في الفترة الأخيرة، انتفاضةً رسميةً وشعبيةً ضد ما يُطلَق عليه «فرنسا الاستعمارية»، وذلك رغبةً في التحرر من ثوب الفرنسيين وتحقيق الاستقلال التامّ وحماية السيادة من الغطرسة الفرنسية.
فباريس لم تَعُدْ محل ترحيب في منطقة غرب إفريقيا. على سبيل المثال فإن الماليين الذين رفعوا أعلام فرنسا احتفاء بطلائعها العسكرية عام 2013 لتحرير شمال ووسط البلاد، سرعان ما قاموا بحرق هذه الأعلام والدوس عليها بالأقدام بعد الإخفاق العسكري الفرنسي في البلاد.
ويرى الجيل الجديد من الشباب الإفريقي أن فرنسا تطبق أساليب غير أخلاقية محدّثة بإستراتيجيات الجيل الجديد من الاستعمار، للحفاظ على نفوذها ونهب موارد القارة، معتبراً أن باريس تحاول الاستفادة من وجود حركات إرهابية عديدة للحفاظ على شرعية الوجود الفرنسي وخاصة العسكري في المنطقة، علماً أن هذا الوجود العسكري الفرنسي في دول الساحل قوّض الأمن إلى حد كبير.
ويمكن تلخيص الأسباب الرئيسية للغضب الإفريقي على فرنسا في ما يلي:
رفض الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية: تكابر فرنسا كثيراً في نظرتها لإفريقيا، وتصرّ على عدم الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية. وتعتبر هذه المكابرة من موجبات الغضب الإفريقي تجاه فرنسا. فأغلب الدول التي استعمرت القارة قدمت خطوات كبيرة في هذا الاتجاه باستثناء فرنسا، التي يُعتبر ماضيها الاستعماري أكثر استغلالاً للأفارقة ولمواردهم من غيرها من القوى الاستعمارية.
ديمقراطية الكيل بمكيالين: أخفقت باريس التي بشّرت بالديمقراطية وأرغمت عليها في مؤتمر القمة "الفرنسية-الإفريقية" في لابول غرب فرنسا عام 1990([4])، في ترويض الأفارقة على نموذج ديمقراطي يحقق الاستقرار ويدعم مسار الديمقراطية في إفريقيا. وانكشفت باريس في ادّعائها بخصوص دعم الديمقراطية الإفريقية، إذ اتضح أن خياراتها في المسألة الديمقراطية متوقفة على مَن تأتي به الديمقراطية من خُدّامها. ولم تتورع باريس من المشاركة في إسقاط أنظمة سياسية ديمقراطية بالقوة، بمجرد أنها لا تتفق معها في السياسات.
تشديد سياسات الهجرة في وجه الأفارقة: جلبت سياسات تشديد الهجرة تجاه الأفارقة سخطاً كبيراً على الحكومات الفرنسية من قِبل الأفارقة، الذين يعتبرون أن لديهم دَيْناً على فرنسا، من مقتضياته فتح أبوابها أمام مهاجريهم الراغبين في دخول التراب الفرنسي.
فشل التدخل العسكري الفرنسي في مالي: بعد أكثر من تسعة أعوام على وجودها في مالي لمواجهة الجماعات الجهادية، أتمت فرنسا في آب/ أغسطس 2022 انسحابها من البلاد في خضمّ توتر مع المجلس العسكري الحاكم ووسط عدائية شعبية متزايدة تجاهها. وقد فتح الفشل العسكري الفرنسي في مالي موجة غضب كبير لدى شعوب منطقة الساحل، التي انتفضت أكثر من مرة ضد القوات الفرنسية وحمّلتها مسؤولية تدهور الأمن وتوسع نطاقه.
منافسو فرنسا: الإسناد الداخلي ومجالات المنافسة
أفسحت السياسات الفرنسية الفاشلة في إفريقيا المجال أمام القوى المنافسة لباريس. واتكأت هذه القوى على جملة من الدعائم لإيجاد موطئ قدم لها في القارة، مستخدِمة خطاباً ينتقد ماضي وآثار السياسات الإمبريالية، وعارِضة مشاريع وشراكات إستراتيجية تقوم على مبدأ الشراكة المربحة للطرفين.
ومن أهم الأدوات التي تتخذها القوى المناهضة لفرنسا، ما يلي:
اللعب على ورقة الماضي الاستعماري لفرنسا: بعض القوى المنافِسة لباريس في إفريقيا لا تتوانَى عن نبش الماضي الاستعماري لفرنسا وتذكيرها بجرائمها ضد الشعوب الإفريقية، معتبرة أن ما حققته من تطوُّر وازدهار كان على حساب القهر الذي أذاقته للشعوب الإفريقية.
الاستثمار في القوى التحرُّرية الجديدة: تراهن القوى المنافِسة لفرنسا على إيجاد أحلاف داخلية، من خلال الاهتمام بالقوى المحلية التي باتت تناهض بقوةٍ الوجودَ الفرنسيَّ في غرب إفريقيا.
اعتماد الدبلوماسية الناعمة: تعتمد القوى المناهضة لفرنسا مبدأ الدبلوماسية الناعمة تجاه إفريقيا، وذلك لملء الفراغ الذي خلَّفه تراجُع النفوذ الغربي. وتعتمد هذه الدبلوماسية على الشراكات الاقتصادية المثمرة والاستثمار في البني التحية والمجالات التعليمية والثقافية، مع حرص العديد من تلك القُوى على الابتعاد عن التدخُّل في الشؤون الداخلية لبلدان القارة السمراء.
وتتخوف فرنسا من النشاط المتنامي للقوى الشرقية المنافسة لها، والتي قلّصت حصتها من السوق التجارية في المنطقة وزاحمتها في الصفقات والاستثمارات، كما باتت هذه القوى تنافسها بقوة في مجالات أخرى، حيث حصلت في إطارها على المزيد من التأثير والنفوذ. ومن أبرز منافسي فرنسا في المنطقة:
الصين: لطالما نفذت الصين الكثير من الاستثمارات وعملت في مجال التعاون المتعلق بالبنى التحتية في غرب إفريقيا. وفي عام 2006، كانت الصين أكبر مورِّد تجاري لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث استحوذت على أكثر من 10٪ من حصة السوق([5]).
وتقوم إستراتيجية الصين في إفريقيا على ثلاث خصائص عامة، وهي توريد المواد الخام، والبحث عن الدعم السياسي من الدول الإفريقية في المحافل الدولية، والوصول إلى الأسواق الإفريقية كمنافذ جديدة للإنتاج الصيني.
تركيا: تبنَّت الحكومة التركية سياسة انفتاح على إفريقيا في عام 1998. فالعزلة الجيوسياسية التي كانت تعيشها تركيا في نهاية الحرب الباردة دفعت قادتها الحاليين إلى البحث عن تحالفات إستراتيجية جديدة. ونتيجة لذلك، ارتفع عدد السفارات التركية في إفريقيا من 12 في عام 2003 إلى 43 في عام 2022، وكان آخِرها في توغو.
وتشهد التبادُلات التجارية بين تركيا والدول الفرنكوفونية الرئيسية في غرب إفريقيا انتعاشاً قوياً، حيث قفز التبادل التجاري بين تركيا وساحل العاج بنسبة 67٪ خلال عامين، فيما زاد التبادل التجاري بين تركيا والسنغال 20٪ خلال الفترة نفسها. وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال مشاركته في منتدى الأعمال "السنغالي -التركي"، في داكار، في شباط/ فبراير الماضي، أن حجم التبادل التجاري بين تركيا والسنغال وصل إلى 400 مليون دولار وأن الهدف التالي بلوغ المليار دولار. وأكد أردوغان أن بلاده تعمل على زيادة حجم التبادُل التجاري مع كل الدول وفي مقدمتها دول القارة الإفريقية، مشيراً إلى أن السنغال نافذة هذه القارة([6]). وتوسع نطاق التعاون "التركي-الإفريقي" ليطاول مجالات أخرى حيوية كالتعاون العسكري والأمني، إضافة إلى تنشيط التعاون في المجالات التعليمية والثقافية والخيرية.
روسيا: يعود الوجود الروسي في إفريقيا إلى فترة ما بعد عام 1945، حيث نشطت الدبلوماسية الروسية تجاه إفريقيا في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي. وتمكن الاتحاد السوفياتي من تحقيق تقارُب حقيقي مع بلدان القارة الإفريقية، إذ دعم النضالات التحررية الإفريقية وقدّم المساعدات للدول المحررة حديثاً، علماً أنه عمل على تصدير أيديولوجية نظامه إلى إفريقيا من أجل توسيع نفوذه، في سياق الحرب الباردة.
ويُلاحَظ أنه تمّ تعزيز الجانب الأمني للتعاون "الروسي – الإفريقي" اعتباراً من عام 2017، بالاعتماد ليس فقط على التعاون العسكري التقني ولكن أيضاً على الشركات العسكرية الروسية الخاصة. وتمكنت موسكو، منذ عام 2017، من توقيع اتفاقيات تعاوُن عسكري مع حوالَيْ 20 دولة إفريقية، مُقارَنةً بسبع دول فقط أبرِمت معها اتفاقيات بين عامَيْ 2010 و2017.
وتنصّ العديد من تلك الاتفاقيات على نشر مستشارين عسكريين روس بهدف تعزيز قدرات جيوش الدول الشريكة. ويتضح التأثير العسكري لروسيا في منطقة غرب إفريقيا بشكل أكبر في دولة مالي، التي تحكمها منذ سنتين حكومة عسكرية مدعومة من قِبل موسكو. وكان التقارُب بين روسيا ومالي سبباً في الخروج العسكري الفرنسي من البلاد، احتجاجاً على التأثير الروسي على الحكومة المالية. وقد تطوّرت علاقات روسيا بمالي إلى درجة نشر قوات خاصة تابعة لمجموعة «فاغنر» لتواجه -مع الجيش المالي- عنف الجماعات المتشددة في وسط وشمال البلاد.
خُلاصة
ظلت منطقة غرب إفريقيا الفرنكوفونية لوقت قريب سوقاً محمية لفرنسا، كما كانت باريس الآمِر والناهي في القضايا الداخلية لهذه المنطقة. إلا أن هذه الصورة تغيرت في الآونة الأخيرة. ومن بين المتغيرات الكبيرة أن الصين أصبحت أكبر شريك تجاري في غرب إفريقيا، فيما تزيد تركيا من حصتها في السوق، بينما أصبحت روسيا أكبر مورّد للأسلحة وواحدة من أكبر مصدِّري القمح إلى المنطقة. في المقابل فقدت فرنسا والدول الغربية جزءاً كبيراً من حصتها في السوق.
وتثبت حركية هذه العلاقات أن الدول الإفريقية أصبحت تنخرط في أجندة جديدة لرسم ملامح علاقاتها الخارجية، تقوم على التقليل من تأثير الغرب في القارة، مع فتح مسارات مع القوى الشرقية الطامحة لزيادة نفوذها الاقتصادي والثقافي والسياسي والعسكري.
يرجى الضغط على الرابط لتحميل التقرير التحليلي: الحضور الفرنسي في غرب إفريقيا بين محفّزات الهيمنة ومنغّصات البقاء
([1]) Colonisation de l’Afrique de L’Ouest», fasotour.fr
([2]) Relations Bilatérales, Côte D'ivoire, Direction générale du Trésor, 18/07/2022
([3]) سيد أعمر ولد شيخنا، «النيجر.. ثروات في مهب الصراعات الدولية»، الجزيرة نت، 26/11/2015
([4]) André Larané, «Discours de La Baule», Herodote, 21/08/2021
([6]) «أردوغان: الألفية الثالثة عصر إفريقي ونعرض على أشقائنا بناء المستقبل معاً،» TRTعربي، 21/02/2022