المفاوضات الروسية الأوكرانية ومستقبلها

المفاوضات الروسية الأوكرانية ومستقبلها

2025-07-29
130 مشاهدة
Download PDF

في 23 تموز/ يوليو 2025 انعقدت الجولة الثالثة من المفاوضات المباشرة بين أوكرانيا وروسيا في إسطنبول. وعُقد الاجتماع في قصر جراغان، واستمر أقل من ساعة.  

 كان الوفد الأوكراني برئاسة وزير الدفاع السابق والأمين العامّ الحالي لمجلس الأمن القومي والدفاع رستم عمروف بينما كان الوفد الروسي برئاسة مساعد رئيس الاتحاد الروسي فلاديمير ميدينسكي [1] .  

مجريات اللقاء  

اقترحت أوكرانيا عقد لقاء بين الرئيسين فولوديمير زيلينسكي وفلاديمير بوتين، بمشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وذلك قبل نهاية شهر آب، مع الاستعداد لوقف إطلاق نار دائم، لكن روسيا لم تُبدِ رغبة بهذا.  

ترى أوكرانيا أن من غير الدقيق وصف الوثائق المتعلقة بوقف إطلاق النار بأنها مذكرات تفاهم، بل مقترحات قيد النقاش، معتبِرة أن المشروع الأوكراني أكثر واقعية من نظيره الروسي.  

أكد الجانب الأوكراني استعداده الدائم لوقف إطلاق النار، إلا أن روسيا لا تبدي رغبة في ذلك.  

الوفد الروسي أشار إلى أن عقد لقاء بين قادة روسيا وأوكرانيا يحتاج أولاً إلى التوافق على شروط الاتفاق، وفهم القضايا التي سيتم تناولها، وينبغي أن يكون مثل هذا اللقاء نقطة ختام للعملية التفاوضية لا نقطة بداية.  

اقترحت روسيا على كييف النظر في إمكانية إعلان هدن قصيرة الأمد لمدة 24 أو 48 ساعة، بغرض إجلاء الجرحى وانتشال جثث القتلى، وإجراء عمليات تبادل أسرى.  

طلب الوفد الروسي من نظيره الأوكراني توضيح وضع المدنيين من مقاطعة كورسك المحتجزين لدى كييف، وتبدي روسيا استعدادها لمبادلتهم بأسرى حرب وفئات أخرى من المحتجَزين لدى الطرف الأوكراني.  

اقترحت روسيا تسليم كييف جثامين 3000 من الجنود الأوكرانيين القتلى. وستُنقل رفات الجنود التابعين للقوات المسلحة الأوكرانية إلى كييف عَبْر الصليب الأحمر، فور إعلان الجانب الأوكراني استعداده لاستلامها.  

دوافع ترامب نحو تسوية الصراع  

يصعب على أي إدارة أمريكية سواء بقيادة دونالد ترامب أم أي رئيس آخر أن تخوض المواجهة الشاملة مع الصين في المعركة الجيو-اقتصادية العالمية، لا سيما في صراع الهيمنة على "نفط القرن الحالي"، أي المعادن النادرة، التي تمثل حجر الأساس لضمان التفوق الصناعي عالي التقنية. ولا يمكن كذلك كبح تمدُّد الصين عَبْر شبكاتها من الممرات والطرق التجارية المتعددة، ولا ممارسة الضغط الكافي على أوروبا لإعادة التوازن التجاري والانحياز إلى معسكر واشنطن في هذه المواجهة، دون وجود تفاهم إستراتيجي، أو على الأقل حياد إيجابي من جانب روسيا. فموسكو، بما تمتلكه من موارد وموقع جغرافي ونفوذ في أوراسيا، تبقى عاملًا مهماً في صياغة المعادلة الجيوسياسية.  

هذا ما نبّه إليه هنري كيسنجر مرارًا، والذي يتبنى ترامب مذهبه، عندما قال: "لا مجال لمواجهة مزدوجة مع الصين وروسيا في آنٍ واحد، لأن نتائجها ستكون كارثية على الإستراتيجية الأمريكية العالمية" .  

حتى إدارة بايدن رغم خطابها الصدامي كانت في جوهرها تسعى إلى تفاهم لاحق مع روسيا، ولكن بعد إنهاكها واستنزافها في أوكرانيا، على أمل أن يكون ذلك الغزو آخر توسّع عسكري روسي منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في كانون الأول 1991.  

 ولكي يحقق ترامب هدفه الإستراتيجي الأوسع، ويجتذب روسيا إلى جانبه – إن أمكن – أو على الأقل يحيدها، فلا بد من تفكيك "العقدة الجيوسياسية" التي تعيق أي تقارب أو تفاهم مع موسكو، وهي: الحرب في أوكرانيا.  

فمن دون روسيا، لا يمكن تأمين الوصول الفعلي إلى المعادن النادرة في أوكرانيا، ولا إلى الموارد الهائلة في دول آسيا الوسطى، ولا إلى الثروات التي تختزنها روسيا ذاتها والتي تتفوق على الجميع. كذلك، لا يمكن ضمان استخراج المواد الخام من المنطقة، ولا السيطرة على الطرق التجارية البرية الصينية المتجهة إلى أوروبا والعائدة منها، ومن هنا، تتجلى دوافع ترامب الحقيقية، التي تتجاوز بكثير أوكرانيا ذاتها، والتي تمثل في نظره مجرد عقبة على الطريق نحو تفاهم أكبر وأعمق مع روسيا، يخدم إستراتيجية التفوق الأمريكي في مواجهة الصين. يُضاف إلى ذلك رغبته المعتادة في أن يظهر بصفته رجل سلام عالمي حكيم، حقق ما عجز عنه أقرانه من الرؤساء الأمريكيين.  

نظرة روسية أبعد من أوكرانيا  

تمتلك روسيا من الثروات الطبيعية ما يكفي لتمكين أي كتلة اقتصادية من التحول إلى قوة عظمى، وقد قامت رؤية الرئيس فلاديمير بوتين على مبدأ يبدو منطقياً إلى حد بعيد: "في ظل هزيمتها الجيوسياسية، وامتلاكها لموارد باطنية هائلة لا متناهية، ليس من الحكمة الانفتاح العشوائي على الاستثمارات الغربية أو الأجنبية بما في ذلك الصينية".  

وفق الرؤية الروسية، نجحت الصين في استغلال الانفتاح الغربي لتحقيق نهضتها الكبرى، مستفيدة من عوامل لا تملكها روسيا، كالكثافة السكانية العالية، والفقر المدقع الذي أتاح لها توفير عمالة رخيصة لخدمة الاقتصاد الغربي، إضافة إلى حاجة الغرب، في مرحلة الحرب الباردة، إلى منافس يواجه به الاتحاد السوفياتي.  

 أما روسيا، فواقعها مختلف تماماّ،  ولكي تحقق التوازن المطلوب، وتبقى قادرة على التحكم في إيقاع النظام العالمي، مع الحفاظ على سيادتها وتعزيزها، والانفتاح المدروس على الاستثمار الخارجي بما يحقق نهضة اقتصادية ورفاهية لشعبها، عليها أولاً أن تقلب موازين الهزيمة الجيوسياسية.  

ومن هذا المنطلق، فإن أوكرانيا ليست سوى ملف أمني لا بد من إغلاقه قبل التوجه نحو "مستقبل روسيا الحقيقي"، كما عبّر عن ذلك أحد أهم مستشاري بوتين سيرغي كاراغانوف، والمقصود به الشرق الأقصى، حيث الثروات والموارد الكبرى، وحيث يمكن بناء القاعدة الاقتصادية الجديدة للبلاد.  

لكن في حال نجحت روسيا بتحقيق هدفها الجيوسياسي في أوكرانيا، فإنها ستجد نفسها أمام معضلة أكبر: غياب التكنولوجيا اللازمة لاستغلال موارد الشرق الأقصى، وبعد انسحاب الاستثمارات الأوروبية، واليابانية، والكورية الجنوبية، لم يتبقَّ إلا الوجود الصيني المتضخم، وهو ما يطرح أخطاراً حقيقية على السيادة الروسية.  

منح الصين نفوذاً أكبر في تلك المنطقة الحساسة، سيُحوّل روسيا إلى مجرد خزّان مواد خام لصالح بكين، وبالتالي، لا يبقى أمام موسكو سوى خيار واحد عقلاني: الانفتاح على الولايات المتحدة، الطرف الوحيد القادر تقنياً، وصاحب القيادة الفعلية للغرب الجماعي.  

بهذا المسار، يمكن خلق توازن إستراتيجي يسمح بتحقيق أهداف روسيا الجيوسياسية، وبناء علاقة تعاون وثيقة مع واشنطن، بما يجنّب الطرفين الانزلاق إلى صدامات قد تتطور إلى مواجهة مباشرة.  

 ولعل من المفيد، التذكير بحجم الثروات الكامنة في الشرق الأقصى الروسي المحاذي للصين، وما تمثّله من فرصة حاسمة لمستقبل روسيا الجيو–اقتصادي.  

تُعَدّ منطقتَا سيبيريا والشرق الأقصى الروسي خزّاناً إستراتيجياً للثروات الطبيعية لروسيا، إذ تحتويان على نحو 70% من إجمالي الموارد الطبيعية للبلاد، ويتميّز الشرق الأقصى، على وجه الخصوص، بثروة معدنية وبحرية هائلة، حيث يتم استخراج 98% من إنتاج روسيا من الألماس، و80% من القصدير، و90% من خامات البورق، و50% من الذهب، و14% من التنجستن، إضافة إلى نحو 40% من إجمالي الثروة السمكية والمأكولات البحرية.  

 كما تحتضن هذه المنطقة نحو ثلث احتياطيات الفحم في روسيا، فضلًا عن موارد مائية-هيدرولوجية ضخمة تُعَدّ من بين الأهم على المستوى الوطني. وتُشكّل غابات الشرق الأقصى ما يقارب 30% من إجمالي مساحة الغابات الروسية، وهو ما يعزّز من الأهمية البيئية والاقتصادية للمنطقة.  

إغراء الفرص الاقتصادية التي طرحها الروس على ترامب وفريقه قبل تنصيبه، دفع الأخير وإدارته بعد وصولهم إلى البيت الأبيض، إلى إصدار سيل من التصريحات التي بدت عدائية تجاه أوكرانيا وأوروبا، وداعمة لوجهة النظر الروسية، وصولًا إلى تسريب خطته في أيار/ مايو 2025، والتي تتضمن اعتراف أمريكي بحكم القانون، بملكية روسيا لشبه جزيرة القرم، والاعتراف بحكم الواقع بسيطرة روسيا على مقاطعة لوغانسك بالكامل تقريباً، بالإضافة إلى الأجزاء المحتلة من دونيتسك، وخيرسون، وزابوريجيا.  

أيضاً، تضمنت خطة الولايات المتحدة وعداً رسمياً بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (NATO) مع فتح الباب أمام انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ورفع كامل للعقوبات المفروضة على روسيا منذ عام 2014، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين موسكو وواشنطن، خصوصاً في قطاعات الطاقة والصناعة.  

تعثُّر رؤية ترامب بخصوص أوكرانيا  

شكّلت خطة ترامب المسربة عامل هلع لأوروبا، وتجلى الخطأ الأكبر لترامب في تجاهُله لبريطانيا، حيث لم يُنسّق معها أيّاً من الخطوات التي يزعم القيام بها مع روسيا. وتُعَدّ لندن من الصقور في موقفها من موسكو، ويعود ذلك لأسباب تاريخية وجيوسياسية لا يمكن معها أن تقبل أن يتزامن خروجها من أوروبا مع هيمنة روسيا على قطاعها الشرقي. ولهذا، تناست جميع خلافاتها مع ألمانيا وفرنسا، واقترحت بعد أسبوع من تسريب "خطة ترامب" للسلام، تشكيل "تحالف الراغبين" لدعم أوكرانيا، والذي ضمّ في بداية إنشائه 31 دولة، وما يزال يشهد توسعاً، وقد تقرر في 10 تموز/ يوليو 2025 أن يكون لهذا التحالف الجديد مقرّ دائم في باريس.  

تغيير الحدود عبر القوة العسكرية، خلافاً لكونه سابقة ستُغيّر شكل النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية وترسخ بعد تفكك الكتلة الشرقية على إثر نهاية الحرب الباردة، وما نتج عنه من منح عدة دول استقلالها، سيفتح المجال في أوروبا والعالم لإعادة النظر في مسألة الحدود من جديد، وبدء نزاعات قد لا تنتهي.  

 أبدت أوروبا عزماً قويّاً، وقررت الدفع بتسليم أسلحة جديدة لأوكرانيا، وتقديم دعم مالي، وأعلنت باريس ولندن بشكل غير مسبوق استعدادهما للعمل سويّاً لتوفير مظلة نووية لأوروبا، وصولاً إلى توقيع اتفاقية ردع نووي مشترك لدرء المخاطر عن أوروبا، وهذا كان بمثابة رسالة جادة إلى ترامب والمؤسسة العسكرية الأمريكية.  

أخيرًا، وبعد زيارة الأمين العامّ لحلف الناتو لواشنطن، وعجز ترامب عن إتمام أي صفقة في ظل رفض الأوروبيين، وعدم فاعلية رفع العقوبات من جانب واحد دون أوروبا، وتصلب مواقف بوتين، تم التوصل إلى تفاهم جديد بموجبه ستعود الولايات المتحدة إلى تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، ولكن بعد دفع أوروبا لتكلفته المالية، وقد أعلنت الأخيرة انفتاحها على هذه الخطة ، ويجري بالفعل مناقشتها.  

عوامل مؤثرة في مآل المفاوضات  

1. عوامل متعلقة بروسيا  

أي تسوية لا تضمن ابتداءً لروسيا رفعاً كاملاً لكافة العقوبات الاقتصادية منذ 2014، عندما طُبِّقت عليها إثر ضمها لشبه جزيرة القرم، لا يمكن للكرملين قبولها، أو على الأقل البدء بعودة روسيا إلى نظام الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (SWIFT)، والذي يقع مقره في بلجيكا، وقد رفضت أوروبا ذلك المقترح جملةً وتفصيلاً دون تسوية شاملة تنسحب بموجبها روسيا من أراضي أوكرانيا.  

الاقتصاد الروسي يقف اليوم على مفترق طرق، فرغم أن العقوبات الاقتصادية الغربية لم تؤدِّ إلى أزمات عنيفة وفورية، فإن ثمن هذا "التحمّل الظاهري" كان باهظاً، فقد جاء على حساب مزيد من التبعية الاقتصادية للصين التي أصبحت تستحوذ على 30% من صادرات روسيا، في حين باتت تستورد 40% من وارداتها من الصين، مقارنة بـ 24% قبل اندلاع الحرب [2] .  

 إلى جانب ذلك، تحوّلت أنماط حياة المواطنين الروس إلى مستويات معيشية رديئة أقل جودة وأكثر تقشفاً. أمام هذا الوضع، لا بدّ من انتصارٍ ما يبرّر هذه التضحيات يقدّمه الكرملين للمواطنين الروس.  

تدرك روسيا المخطط الأوكراني، وتردد دائماً أنها لن تتعرض لنفس "خديعة" اتفاقيات مينسك 2014، التي كسبت بموجبها أوكرانيا الوقت لتسليح نفسها. وقد روّج الكرملين لتصريحات جرى تحريفها، مفادها أن المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل قد اعترفت بأن هدف مفاوضات مينسك كان كسب الوقت لصالح تسليح أوكرانيا.  

تراهن روسيا على أن وجود ترامب، حتى لو لم تحصل منه على ما تريد، سيؤدي إلى إضعاف التحالف الغربي عبر الانسحاب من الحرب أو تحميل أوروبا تكلفتها، وهو ما سيزيد من الأعباء الاقتصادية الملقاة على حكوماتها، ويرتد على رفاهية المواطنين، ويمنح اليمين المتطرف مادة خصبة للدعاية الانتخابية، ويُبرز ترامب في صورة المدافع عن مصالح بلاده عَبْر الحصول من أوروبا على أموال الأسلحة. وبالتالي، تشهد أوروبا موجة صعود للتطرف اليميني واليساري، وكلا الطرفين لروسيا علاقات جيدة معه، وخطوط اتصال، ورؤية بضرورة الانسحاب من الحرب. وفي هذا الوقت، تتوسّع روسيا عَبْر ضمّ المزيد من الأراضي بشكل بطيء لكنه ثابت، حتى إذا ما حانت لحظة التسوية الجديّة، يكون موقفها أقوى، وهي قادرة على القول إن ما كان مقبولاً منها حتى وقت قريب لم يَعُدْ كذلك بعدما حققته من "فتوحات" عسكرية.  

2. عوامل متعلقة بأوكرانيا  

بعدما وصلت الحرب إلى هذا المسار، أصبح من غير الممكن لزيلينسكي أن يبرّر لمواطنيه، والجيش، والتيار القومي الذي شهد صعودًا كبيرًا في البلاد، فبعد كل هذه التضحيات، والدمار الذي لحق بالبنية التحتية والمدن على مدار أكثر من ثلاث سنوات سيتخلى عن الأراضي التي تسيطر عليها روسيا، بينما عرضت روسيا في مفاوضات إسطنبول التي عُقدت في آذار 2022، بعد أيام قليلة من بدء الحرب، عودة جيشها إلى داخل حدودها وفتح المجال للنقاش حول وضع شبه جزيرة القرم لمدة 15 سنة، مقابل تعهُّد أوكراني ملزم بعدم الانضمام إلى حلف الناتو.  

قانونيًا، هناك معضلة تعوق لقاء بوتين مع زيلينسكي، حيث أصدر الأخير في كانون الأول 2022 مرسومًا رئاسيًا يحظر فيه عقد أي مفاوضات مع بوتين [3] ، والأخير لن يقبل بلقاء دون إلغاء هذا القانون، إلى جانب مشكلة دستورية تكمن في أن المدة الدستورية لرئاسة زيلينسكي قد انتهت في أيار 2024، ووجوده في السلطة فقط بحكم حالة الطوارئ، وعليه يمكن الطعن من قِبل معارضيه في أي اتفاق قد يوقعه، وروسيا تدرك ذلك، إلى جانب أن أي اتفاق يستلزم انتخابات رئاسية وبرلمانية واستفتاء شعبياً، وهي أمور صعبة لوجستيًا وتحتاج إلى وقت.  

تراهن أوكرانيا على أن الوقت يعمل في صالحها، وتحاول كسب الوقت عبر وقف لإطلاق النار غير مشروط بأي التزامات تجاه روسيا فيما يخص قضية الأراضي. ومن خلال هذه الهدنة، تلتقط أنفاسها وتعيد بناء قدراتها العسكرية، وتسعى لاسترضاء ترامب، وخلال أقل من 18 شهرًا، سينشغل في الداخل الأمريكي نتيجة انتخابات التجديد النصفي، وربما يفقد أغلبية الكونغرس. وفي هذه الحالة، سيكون موقفه ضعيفًا، والحلف الداعم لأوكرانيا سيصبح أقوى، وعليه يمكن الضغط على روسيا للتوصل إلى تسوية مواتية، أو استئناف الحرب في ظل ظروف أفضل للغرب وأوكرانيا.  

3. الموقف الأوروبي  

أوروبا بأكملها ومعها بريطانيا، ولربما لأول مرة منذ عدة عقود، يتوحّدون في موقف واحد ضد أي تسوية مع روسيا لا تضمن عودة جيشها إلى ما كان عليه قبل 24 شباط 2022، ولو بدا أن هذا الطلب مُبالَغ فيه، وغالبًا ما يهدف إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات التي لا يبدو أن روسيا مستعدة لها.  

باستثناء بعض الدول الصغيرة وغير المؤثرة مثل المجر وسلوفاكيا، فإن كل أوروبا موحّدة في موقفها، ومعها دول إقليمية كبرى مثل تركيا، التي لا يمكنها أن تقبل معادلة التمدد الروسي التي تريد فرضها، وهيمنتها على بحري آزوف والأسود حال تم تثبيت ما حصلت عليه من أراضٍ.  

 يُضاف إلى ذلك الدول المنضوية تحت المنظومة الغربية خارج الغرب، مثل كوريا الجنوبية واليابان، وكِلتاهما لها مواقف حادّة من روسيا، الأولى بسبب علاقة التحالف المتنامية مع جارتها كوريا الشمالية، والثانية بسبب وجود مطالب بجزر تراها اليابان محتلة، وتنامي علاقة موسكو مع بكين.  

 والأخطر أن السابقة الروسية ستفتح الطريق أمام الصين لمحاولة ضم تايوان عبر التلويح بالقوة دون استخدامها بالضرورة، حيث سيبدو التحالف الغربي هشًّا، ولم يتمكن من مواجهة طموحات روسيا رغم كل ما لديه من إمكانيات، وضعف روسيا في ظل عقوبات هي الأكبر في التاريخ. وهذه كلها أمور تعقّد أي نجاح للمفاوضات.  

4. الموقف الأمريكي  

رغم أن إدارة ترامب تتسم بالقرارات الفردية، فإن الوضع يبدو مختلفًا فيما يخص الحرب الروسية–الأوكرانية، والتي للمؤسسة الأمريكية، وتحديدًا وكالة المخابرات المركزية والبنتاغون، دور كبير فيها، ولا يمكن لهما، مع أطراف أخرى، قبول تسوية تبدو فيها روسيا بمظهر المنتصر.  

ترامب لا يرى في أوكرانيا سوى عامل معطّل لمشروعات اقتصادية كبرى تلقى وعودًا من الروس بمنحها للشركات الأمريكية، ومحاولة اجتذابها في معركته ضد الصين. ولتحقيق هذا الهدف، فهو بحاجة إلى إنهاء الصراع أو إعلان خروجه منه، وإقامة علاقات مباشرة مع روسيا بمعزل عن الحرب. وفي ظل تعثُّر الوصول إلى حل، قد يلجأ للخيار الثاني، وإن كان محفوفًا بالمخاطر، ومن المتوقّع أن يلقى معارضة أمريكية داخلية قوية، كما يصعب على الشركات الأمريكية المخاطرة بدخول السوق الروسي في ظلّ هذا الوضع المتوتر.  

الخُلاصة  

يبدو أن كل الأطراف تتفاوض لرفع "العتب" إنْ جاز التعبير أمام شعوبها والولايات المتحدة، وتأكيد جديتها في المفاوضات، وكل الأطراف تعتقد أن الظروف لم تنضج بعد للتوصل لصفقة تلبي متطلباتها الأساسية، وتعتقد أنها بحاجة فقط للوقت وأنه يعمل لصالحها، وعليه لا يتوقع من هذه المفاوضات سوى التوصل لاتفاقيات على الجانب الإنساني من تبادل للأسرى، وجثامين الضحايا، وعودة الأطفال المحتجزين من قِبل روسيا في مراكز الرعاية، وربما هدن على فترات مختلفة دون وقف دائم لإطلاق النار، مع استمرار التوسع الروسي البطيء لتقليل التكلفة، واكتفاء أوكرانيا بالدفاع عن المناطق الحيوية، وتوجيه الضربات بالطائرات بدون طيار داخل العمق الروسي بين الفَيْنة والأخرى.  

يبدو أن طرق حلّ هذا النزاع قد وصلت إلى طريق مسدود، وبدأ ترامب يتبع نهجاً أكثر تواضعاً بعدما أدرك أن القضايا الجيوسياسية المعقدة من نوعية الصراع "الروسي–الأوكراني" لا يمكن حلها بهذا الشكل من التبسيط عَبْر صفقة.  

ربما ستكون التسوية الجديدة التي سيسوّق لها ترامب مبرراً بها فشله في تحقيق ما وعد به، هي أنه جنّب الولايات المتحدة الدخول في الحرب بشكل مباشر، والاستنزاف المالي، وسلّم ملف إدارة الحرب لأوروبا، ونشّط المجمع الصناعي الأمريكي بأموال الأوروبيين، لا كما كان في السابق – وفق ادعائه – من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، وبذلك، يدّعي أنه حقق انتصاراً جديداً لمبدأ "أمريكا أولاً"، مع الحفاظ على العلاقات مع الحلفاء.  

السيناريو المشار له في الأعلى متوقع في ظل رفض أوكراني للاستسلام، وعدم وجود استعداد روسي لتقديم أيّ تنازلات، وتوحُّد أوروبا ضدّ خطة ترامب المقترحة للتسوية، ومعارضة المؤسسة العسكرية الأمريكية لها، التي كان يصعب عليها أن تقبل نهاية النزاع لصالح روسيا بعدما انخرط فيه حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة عَبْر شحنات الأسلحة والخبراء العسكريين، وهو ما سيبدو انتصاراً لروسيا على حلف الناتو مُجتمِعاً، وإمكانية ادعائها بأنّ أسلحتها أثبتت كفاءة أكثر من نظيرتها الغربية.  

 

 


 

[1] By: Chris York, Tim Zadorozhnyy and Olena Goncharova - Ukraine, Russia hold third round of peace talks in Istanbul, agree to another major prisoner exchange - The Kyiv Independent - July 23, 2025 - Link .  

[2] By:  Alexander Gabuev - The Russia That Putin Made - Foreign Affairs - Published on April 22, 2025 – Link .  

[3] By: Snejana Farberov - Zelensky signs law that rules out Ukraine peace talks with Putin as ‘impossible’ - New York Post - Oct. 4, 2022 - Link .