حرب محلية النشأة في السودان تُهدّد بجذب الأطراف الخارجية
2023-05-121579 مشاهدة
نشرت مجلة الإيكونوميست مقال رأي عن الحرب في السودان بين قوات الجيش وقوات التدخل السريع، استعرضت فيه طرفَي النزاع وتحالُفاتهما الإقليمية، والآثار المحتملة على مصالح الدول التي تستثمر في السودان، بالإضافة إلى ارتفاع مخاطر تدويل الصراع وتدخُّل أطراف خارجية فيه.
وفيما يلي النص الكامل للمقال، من ترجمة مركز أبعاد للدراسات الإستراتيجية:
بعد أربعة أيام من اشتعال الحرب في الخرطوم، عاصمة السودان، اقتحم مسلحون منزل محمد وأمروا رجل الأعمال -الذي غيرنا اسمه حفاظاً على سلامته- وعائلته بالمغادرة، وقام الجنود بوضع مدافع مضادة للطائرات على سطح الشقة. وانتقلت عائلة محمد للعيش مع أقاربهم في حيّ أكثر هدوءاً. لكن ذلك الحيّ سرعان ما أصبح غير آمِن مع انتشار القتال إلى مناطق أوسع، مما خلّف الكثير من الجثث المُلقاة في الشوارع.
قد تكون المعركة قد بدأت كصراع ضيّق على السلطة بين الجيش الرسمي، المعروف باسم القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع، وهي ميليشيا تحوّلت إلى منظمة شِبه عسكرية. لكن كلما طالت فترة استمراره، ازداد خطر انجذاب الغرباء إلى ذلك الصراع بسبب الأهمية الجيوسياسية للسودان.
يقع السودان على ضفاف نهر النيل، شريان الحياة لمصر. كما أن لدى السودان موانئ قريبة من القرن الإفريقي، تتحكم في الممرّ الجنوبي للبحر الأحمر وليست بعيدة عن الخليج العربي. هذه الشرايين من الاقتصاد العالمي تراقبها أمريكا والصين وفرنسا، وكل هذه الدول لها قواعد عسكرية في جيبوتي. وتقول "كومفورت إيرو" مديرة مجموعة الأزمات الدولية: "منطقة القرن إستراتيجية للغاية، وهي صورة مصغرة للنزاعات الدولية الأخرى، إنه مكان يلتقي فيه الغرب بالشرق، حيث يلتقي الخليج بأوروبا".
في الوقت الحالي يبدو أن الجانبين متكافئان. ويتولى قيادة القوات المسلحة السودانية اللواء عبد الفتاح البرهان، الذي استولى على السلطة ثم عززها كزعيم فعلي للسودان في انقلابَيْ 2019 و 2021. وقد بدأ الصراع بقوة عسكرية تقليدية كبيرة، بما في ذلك الدبابات والطائرات المقاتلة. وعلى الرغم من أن قوات الدعم السريع ظاهرياً هي الجهة المُستضعَفة، إلا أن قائده، محمد حمدان دقلو (المعروف باسم حميدتي)، لديه ثروة خاصة كبيرة؛ لأنه يقال إنه يتحكم في تجارة الذهب في السودان. كما أنه يقود عشرات الآلاف من القوات الموالية له.
كانت هذه الأصول هي التي مكّنت حميدتي من التنافس مع الجنرال برهان للسيطرة على المرحلة الانتقالية التي أعقبت الإطاحة بنظام عمر البشير في عام 2019. ربما ساعدته الأسلحة والمال أيضاً على الظهور في السنوات الأخيرة كشخصية شِبه مستقلة على المسرح الدولي، وعقد صفقات مع قوى أجنبية. فقوات الدعم السريع ليست مجرد "ميليشيا متمردة" وإنما هي "دولة فاعلة"، كما يشير الخبير في الشؤون السودانية ضِمن جامعة كامبريدج شاراث سرينيفاسان.
بعد قُرابة ثلاثة أسابيع من القتال في الخرطوم وأماكن أخرى -ولا سيما في غرب دارفور- لم يكن باستطاعة أيٍّ من الجانبين امتلاك ميزة حسم المعركة. وتفتقر قوات الدعم السريع إلى الدبابات والقوة الجوية، ولكنها تعوضها بإنشاء الأنفاق والخنادق في الأحياء السكنية في العاصمة. هناك يقوم رجالها باغتصاب النساء وإجبارهن على الطهي لهن، بحسب امرأة سودانية هرّبت أربعاً من بنات عمها عَبْر فتحة تهوية بعد أن احتلت قوات الدعم السريع منزلهن.
وكذلك يتعين على المدنيين في الخرطوم مواجهة ضربات جوية يشنها الجيش السوداني. ففي الأول من أيار/ مايو الجاري، قُتلت ثلاث نساء يبعن الشاي مقابل مستشفى في انفجار قنبلة. ووفقاً للأمم المتحدة، قُتل بالفعل أكثر من 500 مدني، وأُصيب عدد أكبر في القتال، ومن المرجح أن يكون الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير. كما أنه من المتوقع أن يعبر ما يصل إلى 800 ألف لاجئ حدود السودان في الأسابيع والأشهر القادمة.
قوات الدعم السريع، -التي يحصل جنودها على رواتب أفضل ولديهم خبرة قتالية أحدث من تلك الموجودة في القوات المسلحة السودانية- نجحت في تأمين أجزاء رئيسية من العاصمة بما في ذلك المطار الدولي وأكبر مصفاة للنفط في البلاد. كما يبدو أنها تسيطر على القصر الرئاسي والإذاعة الحكومية. ويقول وليد آدم، أحد سكان منطقة تسيطر عليها قوات الدعم السريع بشرق الخرطوم: "خلال الأسبوعين الماضيين كانوا يتجولون وكأنهم يمتلكون المكان".
وتسيطر قوات الدعم السريع أيضاً على منطقة دارفور التي يسكنها حميدتي، إذ تُحكم قبضتها على اثنتين من القواعد الجوية الثلاث في المنطقة.
لا يزال الجيش موجوداً إلى حدّ كبير في كل مكان. وقد تم إجلاء الآلاف من المواطنين السودانيين والأجانب من مدينة بورتسودان الواقعة على البحر الأحمر، في شرق البلاد المضطرب، حيث تم تأمينها في وقت مبكر من الحرب من قِبل القوات المسلحة السودانية. كما أن الريف المحيط بالخرطوم ينعم بالسلام إلى حدٍّ مَا. ويقول أستاذ جامعي فرَّ مؤخراً من المدينة مع عائلته: "الأمور تسير كالمعتاد".
على الرغم من أن قوات الدعم السريع تتبع أسلوب حرب عصابات على وحدات ومنشآت الجيش في العاصمة، إلا أن السيطرة المريحة على المجال الجوي للبلاد يُلحق خسائر بقوات حميدتي. ويقول جندي متوسط الرتبة في القوات المسلحة السودانية: "لقد ضربنا جميع مخازن الإمدادات الخاصة بهم حول الخرطوم". وبحسب ما ورد دمرت الضربات الجوية للجيش عدة قوافل تعزيزات قادمة لقوات الدعم السريع من دارفور.
السؤال هو: ما إذا كان بإمكان أي من الجانبين كسر الجمود بسرعة. حيث تتمتع القوات المسلحة السودانية بعقود من الخبرة في محاربة التمرد في مناطق بعيدة ونائية، ولكن هذه المرة الأولى التي تواجه تمرداً في العاصمة. لا يمكنها ببساطة أن تقصف الطريق الذي ستعبره لتحقيق انتصار كما حاولت أن تفعل في أماكن أخرى. ويتوقع محلل أمني غربي أن "الخرطوم ستُستنزف من الطرفين بعض الشيء ولبعض الوقت". ويضيف: "الانقسامات الداخلية داخل القوات المسلحة السودانية قد تعيق قدرتها على استغلال ميزة امتلاك الأسلحة الثقيلة.
تجد قوات الدعم السريع نفسها أيضاً في مأزق. وستكافح لتزويد قواتها وإعادة تسليحها مع استمرار القتال. وحتى في حالة الانتصار المستبعد، سيكافح حميدتي لقيادة السودان. وهو مكروه في الخرطوم من قِبل السكان الذين حمّلوه مسؤولية مذبحة مئات المتظاهرين في عام 2019 على يد قوات من الدعم السريع والشرطة والمخابرات. ولقد أدى السلوك الحالي لقواته إلى كُرْههم بشكل أكبر. ويقول السيد آدم: "الشعب يساند الجيش".
تعتمد احتمالات الدخول في حرب طويلة الأمد على رد فعل الدول المجاورة للسودان. ونظراً لحجمه وموقعه الإستراتيجي على البحر الأحمر، فقد كان يُنظر إلى السودان منذ فترة طويلة على أنه ذو قيمة إستراتيجية داخل المنطقة وكذلك من قِبل الصين وروسيا والغرب حيث إنه يطل على الممرات الملاحية المؤدية إلى مضيق باب المندب، والذي يمر عبره حوالَيْ 10٪ من التجارة البحرية العالمية.
أيضاً الحرب تضع مصالح دول الخليج الاقتصادية-لا سيما الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية– في خطر. ففي كانون الأول/ ديسمبر، وقّعت شركة إماراتية صفقة بقيمة 6 مليارات دولار لتطوير ميناء ومنطقة اقتصادية على ساحل البحر الأحمر في السودان. وقام السعوديون والإماراتيون بدعم اللواء برهان وحميدتي بعد الانقلاب المشترك، وقدموا حوالَيْ 3 مليارات دولار من المساعدات الطارئة. ولا يوجد لدى أي من البلدين مصلحة واضحة في تأجيج الصراع. وقد قامت المملكة العربية السعودية بالفعل بإجلاء آلاف السودانيين الفارين عَبْر بورتسودان، كما أن السعودية تخشى من تدفُّق اللاجئين.
ومما يزيد الأمور تعقيداً، العلاقة الغامضة بين الإماراتيين وحميدتي، الذي تلقى الأموال والأسلحة مقابل إرسال قوات الدعم السريع الخاصة به للمساعدة في حربهم في اليمن عام 2017. ومنذ ذلك الحين، أقام علاقات مع كل من أبو ظبي ودبي في الإمارات. ولكن هاري فيرهوفن من جامعة كولومبيا يقول: "إن الإماراتيين ليس لديهم أي ودّ خاص تجاه حميدتي". فمنذ بَدْء الحرب، لم يكن هناك دليل على أن الإمارات تواصل إمداد قواته، لذا ربما تكون دول الخليج "تتراجع وتتحوط في رهاناتها لترى في أي اتجاه تسير الأمور"، كما تقول إيرو.
والأقل وضوحاً هو نهج روسيا، التي يقال: إن مجموعة "فاغنر" المرتزقة التابعة لها التي تعمل في الخفاء، متورطة في تعدين الذهب في السودان وتسليح قوات الدعم السريع. ويظهر أن الهدف الرئيسي للكرملين هو "إحباط التحول الديمقراطي في السودان"، كما يقول صمويل راماني، مؤلف كتاب "روسيا في إفريقيا". وذلك لأن طموحها في بناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر يخدمه بشكل أفضل حكومة عسكرية في الخرطوم أكثر من تلك الديمقراطية الوليدة التي أجهضتها انقلابات المجلس العسكري.
الحرب الأهلية في السودان ليست بالوكالة مثل تلك في ليبيا وسورية واليمن. لكن البلاد تشترك في حدود طويلة وسهلة الاختراق مع جيرانها الذين يعانون من النزاعات، بما في ذلك جمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا وجنوب السودان، حيث إن في كل بلد من تلك البلدان يوجد مجموعة كبيرة من الميليشيات والجماعات المتمردة، وكثير منها له روابط عرقية أو تجارية مع قوات الدعم السريع أو مع خصومها. وقد يترقب البعض فرصة للاستفادة من فوضى السودان. ويحذر سليمان بالدو، الذي يرأس منظمة الشفافية في السودان، وهي مجموعة لمراقبة الصراع، من أنه "كلما استمر الصراع لفترة أطول، ستتدخل المزيد من الجهات الخارجية".
يوجد متدخل آخر محتمل هو إساياس أفورقي، رئيس إريتريا، الذي سعى لإقامة علاقات مع حميدتي وله تاريخ في دعم المتمردين السودانيين. والآخر هو خليفة حفتر، وهو أمير حرب ليبي له صلات بمجموعة "فاغنر"، ويقال: إنه أرسل بالفعل وقوداً وأسلحة إلى قوات الدعم السريع.
لقد عملت قوات الدعم السريع وقوات حفتر -الذي يسيطر على جزء كبير من شرق ليبيا- معاً في الماضي. وفي عام 2019، تم إرسال قوات الدعم السريع لدعم حفتر في هجومه على طرابلس بدعم إماراتي. الذي حظي أيضاً بدعم إماراتي. وقبل يومين من اندلاع الحرب الأهلية في السودان، وصل الابن الأكبر لحفتر إلى الخرطوم لإجراء محادثات مع حميدتي.
بغض النظر عن الدعم الذي قد يقدمه حفتر، فقد تكون قوات الدعم السريع أيضاً بحاجة لأمير الحرب الليبي المتمرد للحفاظ على علاقات جيدة مع مصر، وهي دولة أخرى راعية لحفتر. وتُعَدّ مصر -الجارة الأكثر تأثيراً في السودان- من أشد المؤيدين للقوات المسلحة السودانية تحت قيادة الجنرال برهان. فهي تعتبر السودان عنصراً حيوياً لأمنها القومي، وتتخوف من وصول حكومة مدنية مستقلة أو حميدتي إلى حكم السودان.
في وقت مبكر من الحرب، أفادت الأنباء أن طائرة مصرية قصفت مستودع ذخيرة تابعاً لقوات الدعم السريع. وفي الأول من أيار/ مايو، اتهم حميدتي القوات الجوية المصرية بضرب أهداف في الخرطوم. وعلى الرغم من أن مدى تدخُّل مصر العسكري غير معروف، فمن المرجح أن تزيد القاهرة من دعمها للقوات المسلحة السودانية إذا وجدت أنها ستتراجع. ويقول مجدي الجزولي من معهد "ريفت فالي": "مصر هي العامل الأكثر أهمية، الهدف المصري الآن هو إنقاذ السلطة المركزية في السودان كما يعرفونها".
لا يزال من الممكن تجنُّب اشتعال حريق أوسع نطاقاً. فعلى الرغم من الاشتباكات الاثنية في دارفور، اقتصر الصراع بشكل عامّ حتى الآن على القتال بين الفصيلين المسلحين. وفي الثاني من أيار/ مايو، اتفق الجانبان على وقف إطلاق النار لمدة سبعة أيام اعتباراً من 4 أيار/ مايو بوساطة رئيس جنوب السودان، ويمكن أن تبدأ محادثات السلام قريباً.
تلوح في الأُفق كارثة إنسانية وهي تتصاعد مع الوقت. فإمدادات الغذاء والمياه في الخرطوم آخِذة في التناقُص. وتكاد لا توجد مستشفيات في العاصمة تعمل حيث تُوفيت النساء الحوامل أثناء توجُّههن إلى المشافي من أجل الولادة. ويحذر محمد لمين، الذي يرأس وكالة الصحة الجنسية والإنجابية التابعة للأمم المتحدة في السودان، قائلاً: "إذا لم يكن هناك وقف لإطلاق النار، فإن كل شيء سينهار".
عن مجلة الإيكونوميست
ترجمة: عبد الحميد فحام