دوافع روسيا ومكاسبها خلال سنوات من تدخُّلها العسكري في سورية
2024-09-16580 مشاهدة
Download PDF
نهاية أيلول/ سبتمبر 2015 حدث تطوُّر بارز في الموقف الروسي الداعم لنظام بشار الأسد سياسياً ودبلوماسياً، حيث انتقلت روسيا من استخدام الشركات العسكرية الخاصة مثل "فاغنر" والفيلق السلافي إلى التدخُّل العسكري المباشر بشكل معلَن، وقد تركَّز هذا التدخل بشكل أساسي على توجيه الضربات الجوية، تلاه توسيع للوجود العسكري على الأرض.
يناقش هذا التقرير في ذكرى مرور 9 سنوات على إعلان التدخُّل العسكري مكاسب روسيا على مستوى سورية والبحر الأبيض المتوسط، وتوظيف هذا التدخُّل في الصراع الروسي مع الغرب.
المكاسب الروسية في سورية
تمكنت روسيا عَبْر تدخُّلها العسكري بالتنسيق مع النظام السوري وحلفائه الإيرانيين من تثبيت أركان النظام الذي كاد أن يتهاوى، وبالتالي لم تحافظ على وجودها العسكري التقليدي في قاعدة طرطوس البحرية وحَسْبُ، بل وسَّعت وجودها العسكري في عدد من القواعد الأخرى، أهمها القواعد العسكرية الجوية في اللاذقية وجبلة وحماة وتدمر والقامشلي، وبات لها وجود عسكري مؤثِّر في مسرح أحداث الشرق الأوسط، كما هو حال الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وساهم هذا الوجود الروسي في سورية في تطويق حلف الناتو من حدوده الجنوبية؛ في سياق الحفاظ على توازُن النفوذ [1] .
قدمت دعاية الكرملين هذا التدخل للرأي العامّ الروسي على أنه حماية لمصالح روسيا القومية والأمنية في المقام الأول [2] ، واعتمدت هذه الدعاية على الإشارة لوجود أكثر من 5 آلاف مقاتل يحملون الجنسية الروسية، يقاتلون مع الجماعات المسلحة التي تصفها بـ "الإرهابية"، وإمكانية عودة هؤلاء حال "الانتصار" إلى روسيا من خلال الحدود التركية لاختراق منطقة شمال القوقاز الروسي، مع مَن سيصحبونهم معهم من المقاتلين الأجانب، للتذكير بسيناريو حربَي الشيشان الدامية بين عامَيْ 1994 و1999، وقد تعامل الكرملين مع هذا التدخُّل على أنه مكسب كبير لحفظ أمن روسيا من أي "مخطَّطات" غربية لزعزعة استقرارها ووحدتها الداخلية، وثبت أركان حكم بوتين الذي كان يعاني من مظاهرات مستمرة ضده منذ عام 2011 في العاصمة موسكو. فعلياً ساهم التدخُّل العسكري الروسي في إيقاف "ثورة ملونة" قَيْد التشكُّل داخل البلاد، بحَسَب الوصف الروسي.
قدمت روسيا نفسها لدول المنطقة على أنها حليف "موثوق" يمكن الاعتماد عليه، على عكس الطرف الأمريكي المستعِدّ للتخلي عن حلفائه (وفقاً للسَّرْدِيّة الروسية)، وكذلك قدرتها على لَجْم "الفوضى" التي أحدثها "الربيع العربي"، وأكدت أنها الطرف الوحيد دولياً الحاسم في قراره وتوجُّهاته وسياساته تجاه حركات "الإسلام السياسي" [3] ، وقد نجحت إلى حد كبير في الترويج لهذه الدعاية التي تتناقض مع مسار علاقات روسيا مع حلفائها، ومكَّنتها من نسج علاقات أكثر قوة مع دول المنطقة، متجاوِزة الدعاية السلبية التي واجهتها في بداية تدخُّلها الذي حسب انحيازاً من جانبها للمحور الإيراني وحلفائه في المنطقة، بل وأقنعت بعض الأطراف أن تدخُّلها العسكري ربما يكون بديلاً عن النفوذ الإيراني أو كابحاً له، وهو ما انعكس على علاقة روسيا بدول الخليج العربية التي زادت من تواصُلها وتفاهُماتها مع روسيا، وكذلك الأمر في علاقة روسيا مع تركيا، وتمكنت موسكو من امتلاك ورقة ضغط على تل أبيب، وبالتالي على الولايات المتحدة، وهو ما دفع إسرائيل إلى التحوُّط وعدم تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا رغم الضغوط الأمريكية.
احتكرت روسيا وشركاتها العسكرية الخاصة عدداً من المرافق الحيوية السورية في قطاع النفط [ 4] ، وكذلك الثروات السورية من غاز ونفط في البحر المتوسط [5] ، إلى جانب مشاريع إعادة الإعمار المستقبلية، وفرضت نفسها على جميع الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية بما فيها المعارضة السورية طرفاً رئيسياً لا يمكن تجاوُزه أو تجاوُز مصالحه في سورية، وطرفاً أساسياً في أي حلّ سياسي مستقبلي.
حافظت روسيا على بِنْية الجيش والمؤسسات الحكومية التابعة للنظام السوري، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة لمستقبل وجودها ونفوذها في مرحلة ما بعد الأسد، ولتعزيز صورتها الدعائية أمام الأنظمة العربية في حفاظها على كيان "الدولة" من التفكُّك، مقارنةً في ذلك مع التدخُّل الأمريكي في العراق وليبيا [6] .
أخيراً استعرضت روسيا أحدث أسلحتها، واختبرتها بنجاح في القتال ووفقاً لوصف بوتين بأن العملية العسكرية في سورية كانت أشبه بـ "مناورة تدريبية حيّة للجيش الروسي" [7] . وقد سمح هذا الأمر لروسيا بتحديد أوجُه القصور والعيوب في هذه الأسلحة بتكلفة منخفضة نسبياً؛ مما ساعد في تحسينها في المستقبل. كذلك أصبحت العملية العسكرية في سورية إعلاناً تسويقياً للأسلحة الروسية الجديدة: القاذفات المقاتلة سوخوي 34 (Su-34) وسوخوي 35 (Su-35) المحسَّنة، وصواريخ كروز كاليبر، ونظام الدفاع الجوي (S-400)، والصواريخ والمدافع المضادة للطائرات من نظام بانتسير (Pantsir S-1).
المكاسب الروسية في البحر المتوسط
يقع أسطول البحر الأسود الروسي في سيفاستوبول، التي تُسمَّى "مدينة المجد العسكري الروسي"، وهي إحدى مدن شِبه جزيرة القرم، وقد أضاف ضمّ روسيا للقرم في آذار/ مارس 2014 أهمية خاصة لضرورة تثبيت وضعها في سورية عَبْر دعم النظام، لضمان قدرة أساطيلها على الإبحار في المياه الدافئة، وكسر عزلتها البحرية تاريخياً، ومنحها قدرات جديدة لمجابهة الأسطول الأمريكي السادس في البحر المتوسط [8] .
عند النظر إلى الخريطة؛ يمكن بسهولة ملاحظة المكسب الروسي الكبير في تجنُّب خسارة سورية، وبالتالي قاعدة طرطوس البحرية التي تُشكِّل للقوات الروسية قاعدة الإمداد والتموين الوحيدة في البحر المتوسط، والمرتبطة بشكل مباشر بقاعدة سيفاستوبول في البحر الأسود عَبْر المضايق التركية، وهو ما يُمكِّن الأساطيلَ الروسيةَ من الإبحار بشكل مريح في البحر المتوسط وصولاً للبحر الأحمر، وخلق شبكة من القواعد البحرية فيه للوصول للقرن الإفريقي والمحيط الهندي كما تأمل، وهو ما يفسر رغبتها في الحصول على إقامة منشأة بحرية أو مركز دعم فني ولوجستي عسكري في بورتسودان، وربما تعزيز وجودها في البحر المتوسط من خلال شرق ليبيا عَبْر علاقاتها مع المشير خليفة حفتر.
الوجود في البحر المتوسط لا يساهم فقط في تعزيز الوجود الروسي لمجابهة الولايات المتحدة وحلف الناتو وحَسْبُ، بل يضمن لروسيا أيضاً تأثيراً قوياً على الثروات الباطنية شرق المتوسط، وبشكل خاص في مجال الغاز، وحصول شركاتها على حصّة من استخراجه لتحافظ على دورها الحيوي في أسواق صادرات الطاقة لأوروبا، وتتكامل مع سياساتها في ليبيا والجزائر عَبْر شركة غازبروم، ومنطقة الساحل الإفريقي التي يُنظر إليها على أنها قد تشكل بديلاً محتملاً للغاز الروسي بجانب مشاريع أنابيب الغاز مع تركيا، وهو ما يعزز من نفوذها الجيوسياسي عَبْر ورقة الطاقة، التي تُشكِّل أحد أهم جوانب سياسات الأمن القومي الروسي، فضلاً عن الفوائد الاقتصادية من ذلك [9] .
المكاسب الروسية في صراعها مع الغرب
التدخُّل العسكري الروسي المباشر في سورية ساهم في إيقاف تمدُّد ظاهرة إسقاط الأنظمة العربية الجمهورية، التي بدا أن سقوطها يمنح القوى الغربية مزيداً من النفوذ على هذه البلدان عَبْر النخب الجديدة التي وصلت إلى الحكم، أو الضغط على النُّظُم التي لم تسقط بعدُ، وهو ما ساهم في منح روسيا نفوذاً وسمعة قد تفوق قُدراتها الحقيقية، وتقرّب الكثير من الأنظمة العربية تجاهها، بعد أن رأت في موسكو عامل توازُن كان مفقوداً في المنطقة، وربما مساراً يمنحها هامشاً كبيراً من المناورة في مواجهة الضغوط الغربية، وبالمقارنة بنفوذ روسيا ومكاسبها الاقتصادية والسياسية قبل 2011 وبعد ذلك حتى المرحلة الراهنة؛ نجد أنها قد حققت خروقات واضحة على حساب الغرب في المنطقة.
تمكنت روسيا من إحداث خرق داخل حلف الناتو، عَبْر تزويد أحد أهم أعضائه (تركيا) بمنظومة الدفاع الجوي (S-400) المصممة خصيصاً للتصدي للناتو وأسلحته الجوية، ثم بناء شراكة قوية اقتصادية وأمنية مع أنقرة، وتصدير أسلحة ذات قيمة نوعية لمصر لأول مرة منذ سبعينيات القرن الماضي، وتفاوض دول الخليج العربية على صفقات أسلحة مماثلة، وتصنيع عسكري مشترك، بعدما كان سوق السلاح في هذه البلدان محتكراً من قِبل الغرب، ويعود ذلك كله للدعاية التي صاحبت التدخل العسكري في سورية التي أكدت كفاءة الأسلحة الروسية.
في أعقاب الهجوم الكيميائي الضخم الذي قام نظام الأسد بتنفيذه عام 2013، واحتمال التدخل العسكري من قِبل القوى الغربية وَفْق مبدأ "الخطّ الأحمر" الذي وضعه أوباما، نظرت دول المنطقة إلى التدخل الروسي على أنه "انتصار كبير للدبلوماسية الروسية مقابل التردد الغربي، وهذا جعل روسيا فاعلاً مهماً في الشرق الأوسط".
أتاح التردُّد الغربي وعدم وجود إستراتيجية واضحة -في مقابل ما بَدَا حسماً روسياً- فرصة أمام موسكو لعقد تفاهُمات ثنائية مع تركيا في سورية، وقد أدَّى نجاحها لتكرارها في ليبيا وفي منطقة جنوب القوقاز خلال الصراع على مرتفعات قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا، واستنساخ هذه التفاهمات عَبْر اتفاق مماثل لا يقلّ أهمية مع السعودية من خلال آلية "أوبك بلس" التي تمكنت من الصمود رغم كل الضغوطات الأمريكية، وجنبت منتجي النفط الكبار من الدخول في منافسة تؤدي لتهاوي الأسعار، ورغم تحديات الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على غزة، إلا أن أسعار الطاقة ظلت مستقرة بفضل هذه الآلية التي لم يكن يتوقع أحد حدوثها قبل ذلك في ظل التحالف التاريخي الوثيق بين السعودية والولايات المتحدة، وهو ما يُعَدّ مكسباً كبيراً لروسيا، وقبل ذلك للسعودية وبقية منتجي النفط.
رسَّخت روسيا من نظرية "الوفاء" تجاه الحلفاء، وهو ما وجد له صدى عربياً في ظل الصدمة التي شعر بها الكثيرون من سياسات الولايات المتحدة مع "حلفائها" المفترضين، وسهولة تخليها عن حسني مبارك في مصر، وعدم قدرتها على عقد صفقة مع إيران تُعيد السِّلْم والهدوء للمنطقة أو وقف تدخُّلاتها وهجماتها عَبْر وكلائها على البُلدان العربية، خصوصاً بعد الهجوم على منشآت أرامكو في السعودية (منشأتَيْ "بقيق" و"هجرة خُرَيص") منتصف أيلول/ سبتمبر 2019، بينما ظهرت روسيا في صورة الحليف "الوفي"، الذي يملك نفوذاً على إيران أيضاً يمكن استغلاله لضبط سياساتها.
الخاتمة
رغم كل هذه المكاسب التي أعادت روسيا للمنطقة بعد غياب طويل بدأ منذ فكّ مصر ارتباطها بالاتحاد السوفياتي عام 1974، ووَهْم القوة الكبير الذي دفع موسكو لخوض حربها الأخيرة مع أوكرانيا، إلا أن هذه الحرب قد أثرت في الصورة التي سَعَتْ روسيا لرسمها عن نفسها وقوة أسلحتها وجيشها، كما أنها لم تتمكن من تحويل مكاسبها الإستراتيجية في سورية لقيمة مضافة لها، في ظل عدم قدرتها بشكل منفرد على إعادة توحيد الخريطة السورية تحت سلطة النظام، أو بَدْء مشاريع الإعمار، أو تقديم نموذج مُقنِع لدول المنطقة وشعوبها بالتنمية والرخاء.
ظلت سورية على حالها؛ بلداً منقسماً على نفسه، وتعمّه الفوضى من كل مكان، كما بدت روسيا غير قادرة على تحقيق الربح المنتظَر من تدخُّلها العسكري دون التوافُق مع الولايات المتحدة، ولا ضمان لبقاء النظام أو تغييره بنظام آخر يحظى بالقبول ويحافظ على مصالحها.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)
الهوامش:
[1] Anna Borshchevskaya, The NATO Summit Is Another Chance to Counter Russia in the “South”, The Washington Institute for Near East Policy, 25/06/2024, Link.
[2] Алексей Хлебников , Что Россия выиграла в Сирии ? , РСМД , 11/10/2016, Link.
(أليكسي كليبنيكوف، ماذا كسبت روسيا في سورية؟ مجلس الشؤون الدولية الروسي، 11/10/2016).
[3] Ильдар Галеев и Кирилл Семенов , Разворот на Восток и исламский вектор внешней политики России , РСМД , 25/01/2024, Link.
(إلدار غاليف وكيريل سيمينوف، التوجُّه نحو الشرق والتوجُّه الإسلامي للسياسة الخارجية الروسية ، مجلس الشؤون الدولية الروسي، 25/01/2024(.
[4] Amy Mackinnon, Putin’s Shadow Warriors Stake Claim to Syria’s Oil , Foreign policy, 15/05/2021, Link.
[5] Nikita Sogoloff, Russia's Energy Goals in Syria, The Washington Institute for Near East Policy, 30/08/2017, Link.
[6] Алексей Хлебников , Что Россия выиграла в Сирии ? РСМД , 11/10/2016, Link.
(أليكسي كليبنيكوف، ماذا كسبت روسيا في سورية؟ مجلس الشؤون الدولية الروسي، 11/10/2016).
[7] Денис Дёмкин , Путин назвал войну лучшей тренировкой , Reuters, 17/03/2016, Link.
(دينيس ديمكين، بوتين وصف الحرب بأنها أفضل تدريب، وكالة رويترز للأنباء، 17/03/2016).
[8] Marc Pierini, Russia’s Posture in the Mediterranean: Implications for NATO and Europe , Carnegie Endowment for International Peace, 08/06/2021, Link.
[9] Jesús Manuel Pérez Triana, Russia in the Eastern Mediterranean: a Counterweight to the West? CIDOB, 06/2017, Link.