كيف أثَّرت عملية "طوفان الأقصى" على مستوى قوة إسرائيل؟

كيف أثَّرت عملية "طوفان الأقصى" على مستوى قوة إسرائيل؟

2024-07-16
1231 مشاهدة


في صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أشرق على إسرائيل يوم حالك السواد أنذر بتقلُّبات تمسّ منسوب قوتها على نحوٍ قلقل موقعها الهرمي ودورها الوظيفي في معادلة الإقليم.

قبل التاريخ المذكور، كانت إسرائيل تُصنف على أنها دولة وُسْطى إقليمية، وذلك ركوناً إلى مستوى قوتها المؤسسية والعسكرية والاقتصادية وعقليتها الإستراتيجية وإرادتها الملتئمة نسبياً حول هدفٍ سواء. وبوقوع عملية "طوفان الأقصى"، غدَا التساؤل المطروح: هل ما زال منسوب قوة إسرائيل كما هو ما قبل عملية "طوفان الأقصى"؟

مستوى قوة إسرائيل قبل "طوفان الأقصى"

لقد كانت إسرائيل دولة متوسطة القوة "وُسْطى" إقليمية مؤثرة في معادلة الإقليم وعلى نحوٍ ملموس لا يخفى على مراقب. أما المعيار الأساسي في تقييمها على أنها دولة متوسطة القوة، فمردّه امتلاكها معدلاً من قوةٍ وقدرةٍ على حماية أمنها دون الحاجة المُطلقة إلى بناء تحالفات تُحقق لها ذلك؛ حيث إن ذلك ما تكون عليه الدول متوسطة القوة بالعادة.

لقد كان البرهان الواقعي لمعدل قوة إسرائيل ضِمن هذا المستوى ملء السمع والبصر بمناوراتها وتحرُّكاتها شمالاً في التصدي الاستباقي الوقائي لتمدُّد النفوذ الإيراني في سورية ولبنان، والأمر ذاته في الضفة الغربية وتجاه قطاع غزة وصولاً إلى البحر الأحمر، حيث التواجد العسكري المباشر عبر قاعدة "دهلك" الواقعة في إريتريا، وما كان يحدث هناك بين الفَيْنة والأخرى من اعتراض سفن أو محاولات نقل أسلحة إيرانية صوب غزة، وسابقاً استهداف مصانع للأسلحة في السودان مرتين في 2012 وفي 2015، بل وعمليات أمنية واستخباراتية تتم في معظم أنحاء العالم.

حفاظاً على موقعها باعتبارها دولة متوسطة القوة نشطة مؤثرة ضمن هرمية معادلتَي الشرق الأوسط والنظام الدولي، لم تألُ إسرائيل جهداً في ترسيخ استقرارها الداخلي على صعيدٍ اقتصادي ببالغ ناتج محلي إجمالي 525 مليار دولار عام 2022، وعلى نحوٍ عسكري مُنظم انعكس بتبوُّء الجيش الإسرائيلي المرتبة 18 ضمن تصنيف أقوى الجيوش حول العالم وفقاً لتقدير موقع FirePower Global المختص في التصنيفات العسكرية. وقد اعتمد الموقع في تقديره مستوى قوة الجيش الإسرائيلي على حجم الميزانية المخصصة له والبالغة ٢٤ مليار دولار ضِمن ميزانية عام 2022، فضلاً عن قدرات عسكرية ذاتية وخارجية؛ أمريكية تحديداً، لا تنضب عدداً ونوعيةً.

قبل عملية "طوفان الأقصى" بوقتٍ قصير، تجلّت مؤشرات عدة تدلل على فرضية مناورة إسرائيل في المنطقة باعتبارها دولة متوسطة القوة نشطة. فالمؤشر الأهم يكمُن في دورها الوظيفي الذي قام –بدفعٍ أمريكي– على تحقيق تدافُع إقليمي يشمل تطبيع بعض الدول العربية على أن تتضافر الجهود ضد منابت النفوذ غير الغربي؛ إيران – الصين – روسيا. وكانت الولايات المتحدة تحت إدارة بايدن مطمئنة إلى إقبال بعض الدول العربية إلى إسرائيل على أساس أن الأخيرة وكيل متقدِّم للولايات المتحدة والقطب الغربي عموماً في المنطقة.

وفي سياق المعادلة المذكورة، لاحت وقائع تمدُّد النفوذ الإسرائيلي بمساندةٍ عربية بانت في تعاون "إماراتي-إسرائيلي" استخباري مشترك في جزيرة سُقطرى. وتطوُّرٌ آخر أبان النشاط السلوكي الأمني لإسرائيل باستضافة وزراء خارجية البحرين ومصر والإمارات في قمة النقب التي عُقدت في آذار/ مارس 2022. بحضور وزير الخارجية الأمريكي، مؤديةً إلى تأسيس منتدى النقب الذي رعته تل أبيب باسم واشنطن في تقوية أواصر التنسيق الأمني والعسكري مع الدول العربية المذكورة بغية احتواء النفوذ الإيراني، وأيضاً التعاون مع القاهرة وعمان تحديداً بهدف احتواء المقاومة في غزة عَبْر تقديم تسهيلات اقتصادية. ومن ملامح هذا التعاون أيضاً يُذكر انخراط السعودية في علاقات تجارية مع تل أبيب منتصف 2022. والخُطَى بدأت تتكشف بالحديث عن وجود توجُّه سعودي نحو التطبيع ومن ثَمّ إحراز تكامل اقتصادي مترابط متبادل وثيق عَبْر ممر تجاري بري ينطلق من الهند إلى الإمارات والسعودية والأردن وصولاً لإسرائيل ومن هناك إلى أوروبا، ليتشكّل بذلك ممر تجاري بري موازٍ ومنافس لمشروع الحزام والطريق الصيني.

ليس ذلك فحسب، بل اتجهت واشنطن نحو شقّ الطريق أمام تعاوُن إسرائيلي تركي عَبْر إخطارها تل أبيب مطلع عام 2022 بسحب دعمها لخط الغاز "Eastmed" الذي كان من المخطط استخدامه في نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عَبْر التعاون مع اليونان وقبرص.

عَبْر هذه التطوُّرات اتضح أن واشنطن انتهجت تكتيك توكيل إسرائيل بتأسيس محور تعاوُن تشارُكيّ مع بعض دول المنطقة بما يرفع من شأنها هرمياً في معادلة الشرق الأوسط لتكون وكيلاً إقليمياً. وبالتالي تُريح واشنطن دبلوماسياً، وتجود عليها بفرصة تقليص تكاليف التواجد العسكري الأمريكي المباشر على نحوٍ يمنح واشنطن فرصة التركيز في الملف الأوكراني ومناطق أخرى أمام روسيا، وكذلك يعطيها بُحْبُوحة المناورة أكثر في حوض بحر الصين الجنوبي حيث الخصم الصيني.

منسوب قوة إسرائيل بعد ٧ أكتوبر

من الواضح أن العدوان الإسرائيلي على غزة سينتهي بتواجُدٍ عسكريٍ مباشر في محوري نتساريم وفلادلفيا، وهذا أول المؤشِّرات العملية على انخفاض منسوب قوة إسرائيل من إقليمية إلى صغيرة منكفئة على ذاتها في سبيل التصدي للتهديدات الأمنية الأكثر خطراً عليها. فبينما كانت إسرائيل تحثّ خُطَى التربع على عرش خريطة أمنية تطوّق النفوذ الإيراني وكذلك الصيني والروسي في المنطقة باسم واشنطن، عادت إلى الانشغال بضمان أمنها الداخلي إنْ صحّ التعبير.

مؤشِّرات أخرى طرأت على السطح بعد ٧ أكتوبر أبرزت تراجُع منسوب قوة إسرائيل في معادلة الشرق الأوسط، منها عودة واشنطن بثقلها إلى المنطقة وتفضيل بعض دول المنطقة -تحديداً السعودية والإمارات والأردن- العودة إلى إستراتيجية السير في ركب قوة عُظمى، وبالأخصّ الولايات المتحدة عَبْر التعاون العسكري المباشر وتوقيع اتفاقيات دفاع مشترك مباشرة، بدلاً من الاعتماد على إستراتيجية التعاون التشارُكيّ الإقليمي مع إسرائيل.

إسرائيل ذاتها باتت غير قادرة على حماية أمنها دون دعمٍ مديد من واشنطن التي باتت تبذل جهوداً مضنيةً للتصدي للحوثيين؛ رغم وجود قاعدة إسرائيلية في البحر الأحمر، وميليشيات أخرى نشطة في سورية والعراق. إن اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة وقوى أخرى، سيضعها أمام اشتراطات الداعم الذي له حسابات قد لا تتفق بالمطلق مع منطلقات إسرائيل.

فاعلون آخرون يدخلون على الخط، فموسكو مثلاً باتت على مشارف تأسيس نفوذ قوي في البحر الأحمر من خلال تقديم دعمٍ عسكري للجيش السوداني، ولا رَيْب أن ذلك يُربك الحسابات الأمريكية، ويوسع اشتراطاتها على إسرائيل لاحتواء توجُّهها نحو توسيع جذوة الصراع إقليمياً، وهذا معيار أساسي في تعريف دولة ما على أنها قوة صغيرة، حيث إن هذه القوة تنكبّ على الدفاع عن سيادتها دون القدرة على التأثير في معادلتَي الإقليم والنظام الدولي.

في الأساس من ناحية معايير القوة الثابتة؛ الجغرافيا وعدد السكان، يُشار إلى إسرائيل على أنها قوة صغيرة، ولكن نتيجة المساندة الأمريكية والغربية الرسمية وغير الرسمية، فقد امتلكت إسرائيل ما يُسمى بقوةٍ متغيرةٍ تجسدت بمقدَّرات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية مُستدامة بعقلية مؤسسية إستراتيجية ومشروع إستراتيجي "الصهيونية"، وإرادة سياسية كانت متماسكة نسبياً. بمقدَّرات القوة المتغيرة صعد الدور الإسرائيلي ليصبح إقليمياً، لكنه اهتزّ بفعل ٧ أكتوبر وما تبعها من انشغال إسرائيل بجبهات الجنوب والشمال، فغدت إسرائيل قوة صغيرة تعتمد على الخارج لا على ذاتها، حتى وإنْ لم يتأثر اقتصادها باعتبار أن مقدَّراته خارجية، إلا أن مقدراتها وقدراتها العسكرية اتضح في أكثر من جولةٍ أنها لا تكفي لمواجهة المخاطر المحيطة؛ وأبرز مثال لذلك تضافر جهود دول أخرى بغية التصدي للهجوم الإيراني.

التماسُك المؤسسي الإستراتيجي أيضاً بات محطّ شك جراء الهيمنة النسبية للمتطرفين المُجانِبين للتفكير الإستراتيجي باندفاع أيديولوجي يهاجم الجيش ومؤسسات الدولة متهماً إياها بالتقصير، وهذا يعيق التخطيط الإستراتيجي لهذه المؤسسات التي يبدو أنها ستغوص في وحل التركيز على الاستيطان والاصطدام الدبلوماسي مع الخارج القريب والبعيد بما فيها المؤسسات الدولية وحتى الولايات المتحدة ذاتها، ما يعني أن ثَمة عزلة دولية ستجعل تحرُّكات إسرائيل مجافية للذكاء الإستراتيجي، وهذا حال القوة الصغيرة في العلاقات الدولية، حيث يتقوض التأثير إقليميّاً مع تخبُّط مؤسسي داخلي.

تقرير Global FirePower صنف الجيش الإسرائيلي ضِمن المرتبة 17  عالمياً لعام ٢٠٢٤ معتمداً ارتفاع مستوى الإنفاق وعدد الجنود العاملين، وهنا لا يُقصد أن إسرائيل ستفقد القدرة الكاملة على المناورة في الإقليم بما يشمل التصدي للمخاطر المحيطة بها، وخاصةً النفوذ الإيراني في سورية ومناطق أخرى، لكن أساس توجُّهاتها ستبقى متمحورةً حول إعادة مستوى قوتها ودورها إلى ما كانا عليه قبل ٧ أكتوبر، خاصةً بعد نكوص قوتها الردعية في أدبيات معادلة الإقليم، وعقب انهيار توازُن التهديدات الذي كانت من خلاله تدير الصراع، فالمعادلة الأمنية بالنسبة لإسرائيل هي اليوم توازُن قوى صفريّ؛ أي انشغالٌ طويلُ الأمد بتقويض قدرات حماس وبعدها حزب الله لحدٍ صفري، وهذا يُبعدها عن الساحة الإقليمية بما يجعلها قوة منكمشة؛ أي صغيرة.

الخُلاصة

منسوب قوة إسرائيل قبل ٧ أكتوبر كان في معدل القوة الوُسْطى القادرة على حماية ذاتها دون الحاجة إلى الآخرين. كانت ضِمن مسار التحوُّل إلى دولةٍ إقليميةٍ نشطةٍ تساهم في إدارة النفوذ الغربي بتوكيلٍ أمريكيٍ مفتوح يصل حدّ التكامل الإقليمي التشاركي مع دول المنطقة، لكن مع انكشاف ضعف مستوى قوتها الاستخبارية والعسكرية نسبياً في ٧ أكتوبر، وما تلا ذلك من انكفاء على مسعى ضمان التصدي لأي خطرٍ مشابه، يُصبح منسوب قوتها متراجعاً، وتغدو منشغلةً باستعادة ما فقدته في ذلك اليوم، ما يعني أنها لن تكون نشطة في معادلة الإقليم لفترةٍ من الزمن، مما يفتح المجال لأي دولة إقليمية لتوسيع نشاطها ورفع مستوى دورها إن استغلت ذلك.