أزمة سدّ النهضة الإثيوبي وسط توتُّرات القرن الإفريقي
2024-11-11768 مشاهدة
Download PDF
الملخص التنفيذي
تتجدَّد أزمة سدّ النهضة بين إثيوبيا المستمرة بعمليات ملء السدّ وتشغيله من جهة، وبين بلدَي المصبّ السودان ومصر من جهة أخرى، وسط مجموعة من التوتُّرات الأمنية والسياسية التي تشهدها منطقة حوض البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
يناقش هذا التقرير التحليلي أبعاد التنافُس الجيوستراتيجي بين الفاعلَين الرئيسيَّيْنِ مصر وإثيوبيا، ويناقش أزمة السدّ من منظور مفاهيم الهيمنة المائية المصرية في منطقة حوض النيل، والهيمنة المائية المضادة التي تسعى لها إثيوبيا بدعم غربي وخاصة من الولايات المتحدة وإسرائيل.
يقدم التقرير للباحثين والخبراء والمهتمين تحليلاً لأبعاد الأزمة من المستويات المحلية والداخلية إلى الإقليمية والدولية، وخروجها عن مجرد الأسباب الفنية والتقنية وحتى الاقتصادية، حيث تكمن تحرُّكات من كِلا الطرفين المتنازعيْنِ إلى امتلاك أدوات الردع والتحالُفات الخارجية، على المستوى الإفريقي وعلى مستوى الفاعلين الآخرين المؤثرين إقليمياً ودولياً.
يناقش التقرير ارتباط أزمة السدّ بمواقف الأطراف من الأزمات الأخرى، وأهمها الأزمة في القرن الإفريقي والتعامل مع وحدة الصومال، حيث وجدت إثيوبيا فرصة لإحياء أسطولها البحري من خلال اعترافها بجمهورية أرض الصومال، فيما تدعم مصر وحدة الأراضي الصومالية، وتقدم الدعم العسكري لمقديشو مُوصِلةً بذلك رسالة ردع صريحة إلى أديس أبابا.
يخلص التقرير إلى استشراف سيناريوهات محتملة لحلّ أزمة سدّ النهضة، ويناقشها من منظور الدوافع الحقيقية لها، بناءً على نظرية التنافس الإقليمي لفرض تغييرات الهيمنة المائية ومواجهتها، بما ينعكس على الهيمنة السياسية والإستراتيجية المتصلة بالصراع الدولي على القارة الإفريقية ومواردها عالمياً.
تمهيد
تَقدَّم وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي بخطاب 1 إلى مجلس الأمن مطلع أيلول/ سبتمبر 2024 إثر تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد حول المرحلة الخامسة من ملء سدّ النهضة، لتسجل مصر اعتراضها الرسمي ورفضها لما وصفته بالسياسات الأحادية الإثيوبية التي تُشكل خرقاً صريحاً لاتفاق "إعلان المبادئ" 2 الموقَّع في الخرطوم بين مصر والسودان وإثيوبيا عام 2015، وللبيان الرئاسي 3 لمجلس الأمن الصادر في 15 أيلول/ سبتمبر 2021.
تعتقد مصر أن إثيوبيا تذهب في سلوكها العدائي إلى زيادة الاضطراب في محيطها الإقليمي، وفي أمن القرن الإفريقي والبحر الأحمر، خاصة بعد توقيعها مطلع كانون الثاني/ يناير 2024 اتفاقاً مع جمهورية "أرض الصومال" (غير المعترَف بها دولياً)، تحصل بمقتضاه إثيوبيا على مرفأ على البحر الأحمر يطل على خليج عدن، في المقابل وقَّعت مصر بروتوكولاً عسكرياً منتصف آب/ أغسطس 2024 مع الصومال لتزويدها بمعدات عسكرية، وتهدف القاهرة بذلك لدفع أديس أبابا إلى طاولة التفاوض؛ لكن وَفْق موازين قوة جديدة.
تأتي هذه التطوُّرات بعد الاضطرابات المتصاعدة والتوتر غير المسبوق في البحر الأحمر نتيجة استهداف الحوثيين في اليمن لسفن تجارية وعسكرية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بالتزامن مع استمرار الحرب الإسرائيلية في غزة.
يناقش هذا التقرير التحليلي طبيعة الأزمة بين مصر والسودان من جهة وبين إثيوبيا من جهة أخرى، مع التركيز على أبعاد هذه الأزمة الجيوستراتيجية، ومدى تأثيرها وتأثُّرها بالأزمات الإقليمية والتنافس الدولي في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، مع استشراف السيناريوهات المحتملة لحلّ الأزمة.
أولاً: أبعاد الأزمة إقليمياً ودولياً
تنظر إثيوبيا لقضية سدّ النهضة على أنها تجسيد لمفهوم "الهيمنة المائية المضادة"، انطلاقاً من رغبتها في تطويع الإرادة المصرية، وهو ما يؤثر على العلاقات الإقليمية بين دول حوض النيل، كما كانت أديس أبابا تفكر دوماً في تحويل مجرى نهر النيل، وترى أن لها حقوقاً في الهيمنة المائية، إذ تسهم بنحو 84,5% من إجمالي الإيراد المائي السنوي للنهر، وتسعى تاريخياً إلى ترجمة تلك الهيمنة الهيدروليكية على النظام المائي للنهر إلى هيمنة هيدروبوليتيكية وهيدروستراتيجية للنظام الإقليمي 4 .
تكمن خطورة بناء سدّ النهضة في كونه أحد مشاريع الإستراتيجية الوطنية الإثيوبية لبناء السدود واستخدام الموارد المائية وليس جزءاً من مبادرة حوض النيل 5 أو اتفاقية التعاون الإطاري 6 أو أي اتفاق ثنائي بين إثيوبيا ومصر، بل ذهبت إثيوبيا إلى المصادقة على اتفاقية التعاون الإطاري لدول حوض النيل “عنتيبي” 7 وهو ما يعني إصرارها على استبعاد مصر من الترتيبات الإقليمية الجديدة، كما تُعَدّ هذه الإستراتيجية جزءاً من مخطط أمريكي إسرائيلي لمحاصرة مصر من الجنوب، وبذلك يمكن فرض تسويات سياسية وإستراتيجية عليها وتغيير معادلة التوازن الإستراتيجي في المنطقة.
في هذا الإطار تعمل إثيوبيا على توظيف السياقيْنِ الدولي والإقليمي لصالحها، فعلى الصعيد الدولي توظف حالة التعارض في المصالح الإستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة، خاصة في ظل السعي للسيطرة الجيوستراتيجية على القارة الإفريقية، حيث تعمل واشنطن على تمكين بعض القوى (إسرائيل وإثيوبيا) ضِمن أدوار إقليمية فاعلة تمهد للنفوذ الأمريكي، وفي هذا السياق نجحت إثيوبيا في تقديم نفسها للولايات المتحدة على أنها الفاعل الإقليمي الذي يمكن أن يكون الحليف المحتمل في منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا 8 .
استخدمت إثيوبيا في مراحل تصميم السدّ وبنائه العديد من التكتيكات بهدف التوظيف السياسي، واستخدام المشروع لدعم مكانتها الإقليمية والدولية، من ذلك اعتماد رواية واحدة روَّجت لها النخبة السياسية الحاكمة في إثيوبيا، تقوم على فكرة أن المشروع لن يتسبب بأي ضرر جسيم لدولتَي المصب، بل سيحقق فوائد للمنطقة، ويضمن حقّ إثيوبيا في التنمية 9 .
استخدمت إثيوبيا إطالة أمد المفاوضات ضِمن تكتيكاتها لفرض الهيمنة المائية المضادّة، في المقابل لجأت كل من مصر والسودان إلى مجلس الأمن الدولي في تموز/ يوليو 2021، واعتمدت القاهرة إستراتيجية أن الأمر بالنسبة لها موضوع وُجودِيّ يمسّ بالبقاء الإنساني 10 ، وفي منتصف أيلول/ سبتمبر 2021 أصدر مجلس الأمن بياناً رئاسياً يدعو فيه الأطراف إلى استئناف المفاوضات بحسن نية على أساس اتفاق المبادئ المبرَم بين الدول الثلاث في آذار/ مارس 2015، بغرض الانتهاء سريعاً من صياغة نصّ اتفاق قانوني ملزِم حول ملء سد النهضة وتشغيله في إطار زمني معقول 11 .
أعلنت مصر وإثيوبيا بياناً مشتركاً 12 في تموز/ يوليو 2023، التزمت فيه أديس أبابا بعدم إلحاق ضرر "ذي شأن" بمصر أو السودان أثناء ملء السد في العام الهيدرولوجي 2023 - 2024، لكن لم تلتزم إثيوبيا بالاتفاق، وجرت عملية الملء الخامس لبحيرة خزان السدّ وَفْق المخطط السابق دون تغيير، وصولاً إلى إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2024 اكتمال بناء السد، وارتفاع إجمالي كمية المياه المحتجزة في بحيرته إلى 64.5 مليار متر مكعب، مع توقع ارتفاع كمية المياه في البحيرة نهاية عام 2024 إلى ما بين 70 إلى 71 مليار متر مكعب 13 .
إن الإخفاق المستمر في المفاوضات لا يرجع إلى غياب الحلول الفنية أو الخبرة القانونية، إنما بسبب الإرادة السياسية الإثيوبية، التي تسعى إلى إقحام تقاسُم المياه ضِمن المسائل الأساسية في مفاوضات السدّ، وهو ملفّ لم يكن ضِمن بنود التفاوض، ولم يتم التطرق إليه في اتفاق إعلان المبادئ 2015، ويُعتقَد أن أهداف المشروع لا تقتصر على توليد الطاقة، بل تُعَدّ كفاءة السدّ متدنية سواء بالمعايير الإثيوبية أم بالمقارنة مع المعايير الدولية الخاصة بالسدود، حيث المتوقَّع إنتاجه من السد نحو 15 ألف غيغاوات سنوياً، وهذه الكفاءة تعادل أقل من 30% حَسَب الدراسات العلمية 14 .
نستطيع القول: إنه ثَمَّتَ أهداف إستراتيجية مرتبطة بتغيُّر معادلة الهيمنة المائية في حوض نهر النيل، من خلال الضغط على مصر وفرض سياسة الأمر الواقع التي بدأت منذ بداية الإعلان عن مشروع السدّ، وبذلك فهو تغيير من معادلة النظام الإقليمي المائي تريد فيه إثيوبيا أن تُؤسِّس لنفسها طابعاً جديداً تقوم فيه بدور المهيمن الإقليمي في حوض النيل، وترى في سدّ النهضة نواة كافية لتحقيق هذه القوة.
ثانياً: تفاقُم توتُّرات المنطقة يُعمِّق الأزمة
تبنَّى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مقاربة إقليمية جديدة تقوم على ما يمكن أن نسميه "دبلوماسية الموانئ" للخروج من مأزق الدولة الحبيسة، وشرع في خطة إعادة بناء الأسطول البحري لدعم القوة الإثيوبية في البحر الأحمر وخليج عدن في مواجهة القوة البحرية المصرية، وفي هذا السياق أقامت أديس أبابا شراكات سياسية واقتصادية مع مختلف دول القرن الإفريقي وفقاً لمبدأ "تصفير المشاكل" مع جيرانها، لتأسيس حقبة جديدة تصبح فيها مركز الثقل الإقليمي، وتفرض مفاهيمها فيما يتعلق بأمن القرن الإفريقي واستقراره 15 .
وفي هذا الإطار، جاء اتفاق إثيوبيا مع "أرض الصومال" مطلع كانون الثاني/ يناير 2024، حيث ستحصل إثيوبيا على حقّ الانتفاع بشريط ساحلي بطول 20 كيلومتراً بميناء بربرة على ساحل البحر الأحمر لمدة 50 عاماً، لتتمركز به القوات البحرية الإثيوبية، مقابل اعترافها الرسمي باستقلال جمهورية أرض الصومال، وهذا سيكون بالنسبة للجمهورية الناشئة غير المعترَف بها الأول من نوعه دولياً، فضلاً عن منحها 20% من أسهم الخطوط الجوية الإثيوبية 16 .
تبدو أديس أبابا أكثر ثقة بقدرتها على المضيّ في فرض الأمر الواقع، حيث توفر السياقات الراهنة ظروفاً ملائمة لتحقيق الحلم الإثيوبي المتمثل في تجاوُز المعضلة الجغرافية، وإحياء أسطولها البحري وتعزيز نفوذها على المستويين الإقليمي والقاريّ، فبقدر مخاوفها من تصاعُد التوتُّرات الجيوسياسية واندلاع صراع جديد في القرن الإفريقي، لا تبدو القوى العظمى وبعض الدول الإقليمية الفاعلة، ممانعةً لفكرة منح إثيوبيا دوراً في أمن البحر الأحمر، والأمن البحري بشكل عامّ.
يُعتقد أن تحرُّكات إثيوبيا سوف تفاقم التوتر في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر، خاصة عقب استهداف الحوثيين في اليمن للسفن التجارية، وتزايُد القُوَى العسكرية في البحر الأحمر في سياق إقليمي وعالمي معقَّد، وقد يمتد الأمر إلى قيام تنظيمات متطرفة بخُطوات تصعيدية في منطقة القرن الإفريقي، خاصة أن حركة الشباب الصومالية لديها هدف مركزي هو استهداف أي وجود أجنبي في الصومال، وقد يمتد الأمر إلى مصالح الدول التي تدعم إثيوبيا، الأمر الذي يُنذر بخطر قد يطال العديد من دول المنطقة 17 .
على صعيد الدفاع عن مصالحها ومهددات أمنها القومي في منطقة القرن الإفريقي سعت القاهرة لإبرام اتفاقيات أمنية وسياسية، منها تدشين خط طيران مباشر بين مصر والصومال وجيبوتي في تموز/ يوليو 2024، ما يسهم في رفع مستوى التبادل التجاري وتحقيق قدر أعلى من الترابط بين المستثمرين والقطاعات الاقتصادية في الدول الثلاث 18 ، وكذلك زيارة رئيس المخابرات ووزير الخارجية المصرييْنِ للعاصمة أسمرة منتصف أيلول/ سبتمبر 2024، ونقاش رئيس إريتريا ووزير خارجيته في قضايا تتعلق بتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين، ومتابعة القضايا الأمنية والسياسية في البحر الأحمر 19 .
أرسلت مصر معدات عسكرية للصومال بموجب البروتوكول العسكري الموقَّع في 14 آب/ أغسطس 2024، مع التخطيط لنشر 5 آلاف جندي مصري هناك، بالإضافة إلى 5 آلاف جندي آخرين من المقرَّر مشاركتهم في كانون الثاني/ يناير 2025 في سياق أوسع تحت مظلة قوات حفظ السلام في الصومال التابعة للاتحاد الإفريقي AMISOM 20 .
يمكن النظر للبروتوكول المصري الصومالي من خلال أمرين:
أولهما قدرته على تعزيز القدرات العسكرية لمقديشو في مواجهة التحديات الداخلية والقضاء على الإرهاب والحفاظ على سيادة الدولة.
ثانيهما ارتباطه الوثيق بالنزاع الإثيوبي الصومالي بعد توقيع أديس أبابا اتفاقاً مع إقليم "أرض الصومال"، وبالتالي تشارك مصر في تحقيق مصالحها برسالة ردع وضغط دون التصعيد المباشر.
يبدو أن إستراتيجية مصر الأمنية تشهد تحوُّلاً كبيراً، خاصة مع اتساع دائرة الأخطار والتحديات التي تحاصرها على جميع الجبهات الإستراتيجية، فمن المرجَّح أن القاهرة ترغب بدفع أديس أبابا إلى طاولة التفاوض لكن وَفْق موازين قوة جديدة، بحيث تضمن القدرة على تعديل سياسات إثيوبيا ودفعها لمراعاة مصالح مصر والسودان فيما يتعلق بملء سدّ النهضة وتشغيله، بالإضافة إلى التعامل مع الحكومة الاتحادية الصومالية على أنها صاحبة السيادة على كامل البلاد.
في المقابل، أعلنت إثيوبيا تعيين سفير لها في إقليم " أرض الصومال "، رداً على إرسال مصر معدات وقوات عسكرية إلى الصومال 21 ، كما قررت غلق بوابات السدّ واستمرار المرحلة الخامسة من عمليات الملء، الأمر الذي دفع وزير الخارجية المصري إلى خطاب مجلس الأمن مطلع أيلول/ سبتمبر 2024، لتثبيت أن سياسات إثيوبيا غير قانونية، وسيكون لها آثارها السلبية الخطيرة على دولتَي المصبّ مصر والسودان، وأن مصر تظلّ متابعة عن كثب للتطوُّرات ومستعدة لاتخاذ كافة التدابير والخُطوات المكفولة بموجب ميثاق الأمم المتحدة للدفاع عن وجودها ومقدَّرات شعبها ومصالحه 22 .
تعتقد مصر والسودان أن أكثر من 150 مليون نسمة في البلدين يعيشون تحت تهديد مُحدِق نتيجة لهذا السدّ وبحيرته العملاقة التي ستخزن 74 مليار متر مكعب من المياه، ففي غياب اتفاق ينظم قواعد ملء السد وتشغيله فإنه قد يؤدي إلى عجز متراكم للمياه في مصر يبلغ نحو 120 مليار متر مكعب، وتعميق الفجوة الغذائية إلى 75%، حيث تبلغ حاليا نحو 55% من إجمالي احتياجات الغذاء، كما يسهم بدوره في تقليل سُبُل الحصول على مياه الشرب النظيفة، ويحرم ملايين العاملين في قطاع الزراعة من المياه اللازمة لري أراضيهم، ومن ثَمّ يتسبب في بوار من 4 إلى 5 ملايين فدان، مما يؤثر سلبياً على مستوى دخل المزارعين ومعيشتهم، ويدمر مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، ويُسهم في زيادة ظاهرة التصحُّر وبالتالي زيادة معدلات البطالــة والجريمــة والهجرة وتدهور النُّظُم البيئية في دولتَي المصبّ 23 .
لم تعترض مصر على تمويل البنك الدولي لإقامة بعض السدود الإثيوبية على النيل لتوفير حوالَيْ 180 مليون متر مكعب تم خصمها من حصة مصر والسودان مناصفة، كما وافقت مصر عام 2011 على طلب إثيوبي آخر لبنك التنمية الإفريقي لتمويل إقامة عدد آخر من السدود 24 ، وترى مصر أن توليد الكهرباء من الأنهار الأخرى ممكن، لكن قدرات إثيوبيا على التنمية فيها مشكلة، ليست بسبب النيل الأزرق الذي تبلغ موارده 49 مليار متر مكعب بينما الموارد الكلية 900 مليار متر مكعب، ولكن نتيجة الحروب الأهلية بين القوميات الإثيوبية 25 .
ثالثاً: سيناريوهات حلّ الأزمة
يَتعقَّد المشهد مع تمسُّك إثيوبيا بمقولات السيادة الإقليمية ومُضِيّها في استكمال مشروع السدّ، في مقابل سيولة عالية من الأحداث والتوتُّرات الأمنية والسياسية التي تشهدها المنطقة، والسيناريوهات المحتملة لحلّ أزمة سدّ النهضة ترتبط بمفاهيم الهيمنة والهيمنة المضادّة في حوض النيل، وأبرز هذه السيناريوهات:
السيناريو الأول : تعزيز الهيمنة المصرية، بخلق تحالُفات قوية مع دول نهرية أخرى مثل السودان وجنوب السودان، ورغم أن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة استمرار حصول مصر على حصتها كاملة من مياه النيل كما هو متفَق عليه منذ عام 1959 إلا أنه يمكِّنها من الاحتفاظ نسبياً بقدر كبير من الهيمنة، والحصول على حلّ توافُقيّ بشأن حصتها من المياه.
على أن هذا السيناريو بالتوصُّل إلى اتفاق لا يعني انتهاء التنافُس الإستراتيجي بين كل من مصر وإثيوبيا في منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل.
السيناريو الثاني : ظهور الهيمنة المضادّة لكن مع وجود مراكز متعددة للهيمنة، حيث قامت "الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في إفريقيا" بدور مهم في نقل الخبرات وتقديم الدعم الفني في مجالات الزراعة والطاقة والسدود، إلى جانب إيفاد الخبراء والتعاون الأمني والاقتصادي مع دول إفريقيا وحوض النيل 26 ، كذلك سعت مصر من خلال رئاستها للاتحاد الإفريقي للتعاون مع الصين في حل مشكلة الطاقة والكهرباء منذ نيسان/ إبريل 2019، ومع ذلك فإن هناك حاجة لوجود قوى خارجية قادرة على التوسط لحل الأزمة، حيث إن الصين التي تشارك في تمويل السد تبدو غير راغبة في التدخل في المواقف الخلافية عالية المخاطر 27 .
ومن منطلق النظر إلى حوض النيل باعتباره نظاماً إقليمياً وظيفياً يشمل نمطاً منتظماً من التفاعُلات المختلفة بين وحداته السياسية المستقلة التي يجمعها إقليم جغرافي واحد، فإنه يمكن الاعتقاد أن الدول الخليجية النافذة داخل منظومة دول حوض النيل طرف ثالث له تأثيراته في نمط التفاعُلات، سواء كانت صراعية أم تعاونية داخل النظام الإقليمي الوظيفي النيلي 28 .
السيناريو الثالث: نجاح قُوى الهيمنة المضادة في التوصل لنظام بديل لمبادرة حوض النيل، خاصة بعد موافقة برلمان جنوب السودان في تموز/ يوليو 2024 على التصديق على اتفاقية التعاون الإطاري لدول حوض النيل “عنتيبي” 29 ، وبالرغم من خطورة تلك الخُطوة -لأنها تستهدف التأثير على مصالح مصر المائية، وإثبات فرض إثيوبيا هيمنتها في حوض النيل- فإنه من الصعوبة بمكان التنبؤ بمستقبل توازُن القُوى في دول حوض النيل، خاصة في ظل زيادة الضغط والطلب على الموارد المائية، وهو ما يجعل هناك توقعات باحتمال اندلاع حروب المياه والصراع حول هذا المورد الطبيعي ذي المصداقية في التفاعُلات المستقبلية لدول حوض النيل.
خاتمة
بات من الواضح أن أزمة سدّ النهضة تتجاوز الجوانب الفنية، فهي تتعلق بالسياسة والأيديولوجيا ومسألة التنافس الإقليمي، لا سيما بين مصر وإثيوبيا، فضلاً عن ديناميات السياسات الداخلية، التي تتفاعل بشكل مَرِن وسريع مع التوازُنات الإقليمية الجديدة في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
تحتاج منطقة البحر الأحمر في إفريقيا متصلةً مع القرن الإفريقي إلى توفر خطة تنموية شاملة، تقتضي إدارة مشتركة للموارد بما في ذلك المائية، لتحقيق الأهداف التنموية المتكاملة لمختلف دولها، وهو ما يتطلب امتلاك رؤية جديدة لمعالجة درجات التشابك بين كثير من القضايا المطروحة، لا سيما تلك المتعلقة بقضايا التنمية والفقر والسلم والأمن.
[1] مصر توجه خطاباً لمجلس الأمن حول تطوُّرات السدّ الإثيوبي ، الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية المصرية على موقع فيسبوك، 01/09/2024. الرابط
[2] نص إعلان المبادئ حول مشروع سدّ النهضة ، موقع الهيئة العامة للاستعلامات في مصر، 13/12/2017. الرابط
[3] سدّ النهضة: مجلس الأمن يشجع مصر، إثيوبيا، والسودان على استئناف المفاوضات بصورة "بنّاءة وتعاونية"،
موقع الأمم المتحدة، 15/09/2021. الرابط
[4] Yacob Arsano, Ethiopia and the Nile: Dilemmas of national and regional hydropolitics , thesis phd, Center for security studies, swiss federal Institute of technology, Switzerland 2007, p 58 - 62.
[5] مبادرة حوض النيل: اتفاقية موقعة من 10 دول هي مصر والسودان وإثيوبيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية وبوروندي وتنزانيا ورواندا وكينيا وإريتريا، وتهدف لتعزيز التعاون الإقليمي بين الدول الموقّعة، وتم توقيعها في تنزانيا عام 1999.
[6] اتفاقية التعاون الإطاري: وتسمى الاتفاقية الإطارية الشاملة Cooperative Framework Agreement، تم وضع مسودة الاتفاقية منتصف عام 2007، وهي تهدف لإنشاء منظمة تعاون دائمة بين دول حوض النيل.
[7] اتفاقية التعاون الإطاري لدول حوض النيل: اتفاقية وقعتها 6 دول هي إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا وكينيا وجنوب السودان، تهدف لتنظيم استخدام مياه نهر النيل وتوزيعها بين الدول الأعضاء مع السماح لدول المنبع بإنشاء مشاريع مائية دون موافقة دول المصبّ، وتم وضع الاتفاقية في مدينة عنتيبي (Entebbe) الأوغندية منتصف عام 2010.
[8] نجلاء مرعي، أزمة سدّ النهضة الإثيوبي ومآلاتها على الأمن الإنساني المصري.. وسيناريوهات الحلّ ، المؤتمر الدولي الفكري الثاني للمعهد العالمي للتجديد العربي بعنوان: "مجتمع المعرفة العربي والتنمية الإنسانية: أبعاد وتحديات"، المعهد العالمي للتجديد العربي، تونس، شباط/ فبراير 2023.
[9] Rawia Tawfik, Revisiting Hydro-hegemony from a benefit-sharing perspective: The Case of the Grand Ethiopian Renaissance Dam , Discussion Paper, Deutsches Institut für Entwicklungspolitik, German 2015. p 24 - 25.
[10] نجلاء مرعي، النفوذ الإيراني في القرن الإفريقي والبحر الأحمر.. السياقات والتداعيات ، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة 2024، ص 162 – 164.
[11] بيان رئاسي لمجلس الأمن بشأن "سدّ النهضة".. وترحيب مصري ، صحيفة الشرق الأوسط، 15/09/2021. الرابط
[12] بيان مشترك ، الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية المصرية، 13/07/2023. الرابط
[13] رئيس الوزراء الإثيوبي يعلن اكتمال بناء سد النهضة بنسبة 100%، قناة العربية، 31/10/2024. الرابط
[14] Nader Noureldeen Mohamed, Continuous Dispute Between Egypt and Ethiopia Concerning Nile Water and Mega Dams , Abdelazim M. Negm، Sommer Abdel-Fattah, Grand Ethiopian Renaissance Dam Versus Aswan High Dam: A View from Egypt, Springer International Publishing AG , Switzerland 2019, p 474 - 475.
[15] نجلاء مرعي، الأمن المائي العربي: التهديدات وآليات المواجهة ، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة 2021، ص 207.
[16] جابر منصور، اتفاق وشيك بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال.. ما تداعياته؟ سكاي نيوز، 13/09/2024. الرابط
[17] أسامة السعيد، اتفاق إثيوبيا مع "أرض الصومال" يعمق أزمة "السد" ويفاقم التوتُّرات بالبحر الأحمر ، صحيفة الشرق الأوسط، 21/01/2024. الرابط
[18] إبراهيم الخازن وأحمد حلنى، وزير خارجية مصر يبحث بجيبوتي والصومال أزمتَي البحر الأحمر والسودان، وكالة الأناضول، 12/07/2024. الرابط
[19] برسالة من السيسي.. رئيس المخابرات المصرية ووزير الخارجية يلتقيان رئيس إريتريا ، وكالة الشرق بلومبرغ، 14/09/2024. الرابط
[20] بعد البروتوكول العسكري.. مصر ترسل أسلحة إلى الصومال ، سكاي نيوز، 28/08/2024. الرابط
[21] تصريحات ومواقف إثيوبية تعمق التوتر مع مصر ، صحيفة الشرق الأوسط، 30/08/2024. الرابط
[22] مصر ترفض تصريحات رئيس وزراء إثيوبيا بشأن سدّ النهضة، صحيفة الشرق الأوسط، 01/09/2024. الرابط
[23] نجلاء مرعي، سدّ النهضة الإثيوبي: الصراع المائي بين مصر ودول حوض النيل، العربي للنشر والتوزيع، 2020، القاهرة، ص 201 - 202.
[24] نجلاء مرعي، الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه دول حوض النيل.. سدّ النهضة الإثيوبي نموذجاً ، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 282، مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية، القدس شتاء 2020، ص 22 - 23.
[25] Ying Zhang, Paul Block, Ethiopia’s Grand Renaissance Dam: Implications for Downstream Riparian Countries , Journal of Water Resources Planning and Management, February 2015, p 502 - 2/3.
[26] هدى المصري، الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية: 6 سنوات من العطاء المتواصل في القارة السمراء ، مجلة روز اليوسف، 21/03/2021. الرابط
[27] حمدي عبد الرحمن، مرجع سابق، ص 53 - 55.
[28] Meron Okbandrias, Geopolitical Influence of the Gulf States in East Africa: The Case of Djibouti and Eritrea , Journal of African Union Studies (JoAUS), Vol. 6, (Issues 2&3), Aug/Dec 2017, p 122 - 124.
[29] اتفاقية عنتيبي لدول حوض نهر النيل – التطوُّرات والأبعاد ، مركز القرن الإفريقي للأبحاث، 08/08/2024. الرابط