الدَّيْن العامّ في بعض الدول العربية: إلى أيّ مدى يهدد الدولة؟

الدَّيْن العامّ في بعض الدول العربية: إلى أيّ مدى يهدد الدولة؟

2024-07-08
1151 مشاهدة


مثَّلت الأرجنتين نموذجاً يُضرب به المثَل في قضية الدَّيْن العامّ؛ حيث تعثرت البلاد أكثر من مرة عن سداد ديونها، وكانت النتيجة اضطرابات سياسية، وانهياراً في سعر العملة، وسقوط عدد كبير من المواطنين في براثن الفقر، إضافة إلى ارتهان البرامج الاقتصادية الحكومية لتدخُّلات الدائنين لضمان حقوقهم، كما أن برامج تخفيض التكاليف التي اتبعتها الحكومات الأرجنتينية أدت لتسريح عدد كبير من الموظفين، مما أَوْدَى بهم إلى بطالة غير مسبوقة.  
لا يرغب أحد بتكرار هذه السيناريوهات، خاصة أن السلطات الحاكمة في الدول العربية تتغنى دائماً بالاستقلالية والسيادة ورفض التدخل الأجنبي، وبالتالي فإن فقدانه لقدراته على سداد الدَّيْن سيعني تدخُّلات الدائنين بشكل أو بآخر.  

يُعَدّ لبنان أحد الأمثلة المجرَّبة في مجال الدَّيْن العامّ، حيث أعلنت الحكومة رسمياً في مطلع 2020 عن عدم قدرتها على سداد الدَّيْن العامّ [1] ، وبعد مضيّ عدة سنوات على هذا التخلف نجد أنفسنا أمام واقع اقتصادي مرير يتمثل باستمرار ارتفاع الأسعار وتراجُع الاستثمار الأجنبي، ونداءات مستمرة لمحاسبة السياسيين، ومحاولات لاستعطاف الواهبين الخارجيين، وتعثُّراً في التفاوض مع المانحين المفترضين.  

ليس لبنان وحده هو المهدَّد بالانهيار جراء ارتفاع الدَّيْن العامّ، فمصر وتونس تُعَدّان مثالاً على مواجهة هذه التهديدات، كما أن الدول الأقل استقراراً، مثل: ليبيا واليمن والعراق تواجه مشاكل متعلقة بالدَّيْن العامّ يصعب تقديرها لغياب الإحصاءات أو اختلافها بين الأطراف المتصارعة، كما أن بعض الدول التي تُعَدّ أكثر غنى كالبحرين وعُمان واجهت -أو لا تزال تواجه- مشاكل في تأدية الدَّيْن العامّ.  

إذاً تواجه معظم الدول العربية مشاكلَ على المستوى العامّ في ارتفاع معدل الدَّيْن نسبة للناتج المحلي الإجمالي، وقد يقول قائل إن بعض الدول الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا وأمريكا لديها معدلات دَيْن عامّ مرتفعة بالمطلق وبالنسبة للناتج المحلي الإجمالي؛ وفي الحقيقة فإن هذه الدول لها أوضاع اقتصادية مختلفة عن الدول العربية، لذلك لا يمكن المقارنة بين النموذجين.  

المشكلة الرئيسية للدول العربية المقترِضة هي ضعف قدرتها على سداد الفوائد وتأدية الأقساط، وذلك لأسباب سياسية واقتصادية في الوقت نفسه، ففي لبنان نجد أن الحكومة معطَّلة تقريباً منذ 2022 وهي تعمل كحكومة تصريف أعمال، كما تواجه البلاد مشاكل حزبية تتضارب فيها مصالح الفاعلين مع مصلحة البلاد نفسها، إضافة لشبح الحرب الذي يحوم حول لبنان، كل هذا في ظل خروج للاستثمارات وارتفاع في سعر صرف العملة المحلية.  
في السياق نفسه لدينا أربع أو خمس دول عربية شِبه مفككة، هي فلسطين وسورية واليمن والسودان وليبيا، وهذا يُصعِّب الاقتراض من جهة، ويُصعِّب قدرة هذه الدول على سداد ديونها المترتِّبة عليها أصلاً دون كلف مرتفعة، ففي الحالة السورية يسدد النظام السوري دينه على شكل بيع أصول لإيران.  

بلد آخر كمصر خضع لتقلُّبات سياسية متعددة في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، ومن جهة أخرى تقوم مصر بتطبيق برنامج تقشُّفي ضِمن وصفة دولية حادّة لبلد كمصر، ويحاجج البعض بأن مصر لن تكون قادرة على تطبيقه.  

عموماً تواجه الدول العربية غير المصدِّرة للنفط مشكلة ارتفاع فاتورة الطاقة، وصعوبة في تأمين مستلزمات البلاد الأساسية التي ارتفعت أسعارها بشكل كبير منذ الحرب الروسية الأوكرانية، كما أن الاستثمارات ضعيفة في معظم الدول العربية، وهو أمر آخر يُصّعب من قدرة الدول على السداد.  
 

 

ashkaal.jpg



بلد مثل لبنان لديه ضعف الناتج المحلي الإجمالي دَيْناً، وفي الوقت الذي يرتفع فيه رقم الدَّيْن نتيجة للفوائد والأقساط المتأخرة؛ يتراجع الناتج المحلي الإجمالي. بلد نفطي مثل العراق لديه معدل دَيْن يقارب 60% من الناتج المحلي، وفي نفس الوقت تصنيف ائتماني دون المتوسط (B-) عند "ستاندرد آند بورز"، و(Caa1) عند "موديز" [2] ، كما أن تونس لديها تصنيف ائتماني أقل من تصنيف العراق ومصر وهي معرَّضة للتخلُّف عن السداد.  

بالملخَّص تواجه معظم الدول العربية مشاكل تتعلق بالمديونية، ليس في نطاق ارتفاع الدَّيْن العامّ، ولكن في نطاق سداده والأسلوب الأفضل للسداد، والوقت المحدد للسداد، مثلاً في فترة انخفاض أسعار النفط واجهت الكويت – وهي إحدى أغنى الدول العربية- مشكلة تتعلق بسداد ديونها، فمنذ أن انتهى قانون الدَّيْن العامّ في 2019 راحت الكويت تناقش قانوناً جديداً لم يُعتمد لفترة زمنية تزيد عن خمس سنوات من النقاش والأخذ والردّ [3] ، لتقدم هذه المشكلة دليلاً على أن المديونية تتسبَّب بمشاكل حتى للدول الغنية، فما بالك بالفقيرة.  

الاضطرابات السياسية، النظرة للدَّيْن الخارجي والمؤسسات الخارجية من قِبل بعض الحكومات، ارتفاع فاتورة الطاقة، ارتفاع أسعار السلع الرئيسية المستوردة، هروب الاستثمارات أو عزوفها عن القدوم.. كل هذا يجعل من الدَّيْن العامّ أزمة حقيقية تهدد بالكثير.  

يمكن القول إن العوامل التي تساعد على تحسين الأوضاع في هذه الدول العربية، أي نجاح الحكومات في سداد الالتزامات التي تواجهها، تتوقف على عدة أمور، منها:      

· العوامل السياسية: يمكن أن يساهم الإصلاح السياسي للنُّظُم الحاكمة في الدول المدينة برفع مستوى المسؤولية، وزيادة الشفافية والكفاءة الحكومية، وبالتالي هذا يعطي دفعاً عامّاً على المستوى الشعبي والحكومي لسداد الأقساط والوفاء بالالتزامات.  

· العوامل الاقتصادية: تطبيق برنامج إصلاح حقيقي يسهم في تخفيض الإنفاق الحكومي، وترشيده، وخفض مستوى الفساد يمكن أن يعطي نتائج جيدة تجاه سداد الدَّيْن، كما يمكن أن يسهم البرنامج في تعظيم الموارد المالية للبلدان المدينة وبالتالي تحسين قدرتها على السداد.  

ولكن دون ذلك، فإن النتائج ستكون كارثية، وما لبنان عنا ببعيد، حيث تخلف البلد عن سداد ديونه في مطلع 2020، واليوم يمكن لكل من تونس ومصر تحديداً أن تواجهَا خطراً محتملاً في سداد الديون وفوائدها، كما أن دولاً مثل سورية ولبنان والعراق واليمن والسودان وفلسطين تواجه مشاكل أكبر تتعلق بارتهان هذه الدول كلياً، أو فلْنَقُل ارتهان الأطراف التي تحكم هذه الدول كلياً، للجهات صاحبة الدَّين كما في الحالة السورية.  

قد يحاجج البعض بأن الدَّيْن العامّ هو خطر من مجموعة مخاطر تواجهها بعض الدول العربية المدينة، حيث إن مخاطرَ أكبر تواجهها هذه الدول على الصعيد السياسي والاقتتال الداخلي والخلافات الفصائلية، وهذا أمر صحيح، وفي هذا السياق من الجيد التنويه بأن الدول العربية ذات الدَّيْن العامّ المرتفع يمكن أن تنقسم إلى ثلاثة أقسام:  

· دول عربية ذات مديونية كبيرة ولكنها ليست الخطر الرئيسي الذي يواجهها، فهي بالأصل تحتاج لإصلاحات سياسية واستقرار اجتماعي حتى تتجنب الانهيار التامّ، وهذا واضح في حالة السودان ولبنان والعراق وسورية وفلسطين واليمن.  

· دول عربية ذات مديونية كبيرة، تجعلها تواجه مخاطر التخلُّف عن السداد وتعطُّل الأجهزة الإدارية للدول، وبالتالي سيؤدي إلى ضعف في قدرة هذه الدول على تأدية مهامها الرئيسية، كما هو الحال في تونس ومصر وجيبوتي، وهذه الدول تحتاج إلى إصلاحات اقتصادية وسياسية حقيقية حتى تستطيع أن تتغلب على هذه التحديات.  
· دول عربية ذات مديونية كبيرة، ولكنها قادرة على تجاوُز الأزمة ضِمن ظروف اقتصادية أفضل، كما هو الحال عند البحرين وعُمان، كون لديها الموارد التي تساعدها على السداد.  

تمثل المديونية بالنسبة للدول العربية مشكلة مضاعَفة، الوجه الأول لها كونها دَيْناً بفائدة يتطلب سداداً لأقساطه والفوائد المترتِّبة عليه، وهذا يعني حرماناً للمواطنين من موارد كانت ستنعكس عليهم إيجاباً لو كان هذا الدَّيْن غير موجود أو بمستويات أقل، والوجه الثاني له أنه يمثل انكشافاً للدولة على جهات مُقرِضة تتعارض مع حساسية السيادة التي تتغنى بها الأنظمة الحاكمة في هذه الدول. لذا فإن المستفاد من دروس المديونية في العالم العربي اليوم هو ضرورة التصالح بين السلطات الحاكمة والشعوب من خلال إصلاح سياسي حقيقي، إضافة لبرامج اقتصادية تصبّ في الصالح العامّ.  

 

الهوامش:     
[1] لبنان يعلن أول تخلًّف عن سداد ديونه في تاريخه، سكاي نيوز عربية، آذار/ مارس 2020، الرابط.  
[2] ما هو تصنيف موديز للدول العربية؟ الشرق، شباط/ فبراير 2023، الرابط.  
[3] في ظل تعثُّر إقرار قانون الدَّيْن العامّ في الكويت... ما البدائل؟ الجزيرة نت، أغسطس 2020، الرابط.