الأزمة السياسية في السودان: هل يخالف الجيش شواهد التاريخ، ويصنع الديمقراطية؟
2021-11-173551 مشاهدة
ظلت الجيوش في العالم الثالث في فترة ما بعد الاستقلال، خاصة في إفريقيا، تتآمر، وتجهض الديمقراطيات تحت مختلف المبررات، باعتبار أن تكريس السلطة تحت قيادة الجيش هو أقصر الطرق إلى الحداثة والتنمية والوحدة الوطنية، لكن الفريق عبد الفتاح البرهان قائد الجيش في السودان قدم وعداً مختلفاً بإعلانه السعي لتعزيز المسار الديمقراطي بإجراءات تصحيحية، وتسليم السلطة لحكومة منتخبة، عقب الإجراءات التي قام بها في 25 أكتوبر2021.
قُوبل هذا التعهد بشكوك كبيرة، وتم تفسيره بأنه انقلاب لإعادة إنتاج النموذج المصري في السودان، لكن البرهان يُصرّ على أنه يريد إعادة إنتاج نموذج المشير سوار الذهب الذي سلَّم الحكم لحكومة منتخبة برئاسة الزعيم الراحل الصادق المهدي في نيسان/ إبريل 1986، بعد فترة انتقالية لمدة عام عقب الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس جعفر نميري، قام فيها بتكوين حكومة كفاءات انتقالية لمدة، تولى فيها رئاسة المجلس السيادي.
هذه المُقارَنة في الذهن الجَمْعيّ السوداني بين نموذجَي السيسي وسوار الذهب، جعل الشارع السياسي غارقاً في الاستقطاب، ومنقسماً على نفسه بين مُعارِض ومناهض للإجراءات التي أعلنها البرهان، ووصفها بالانقلاب على مسار التحول الديمقراطي، وبين مؤيد ومساند لها باعتبارها إجراءات تصحيحية ضد مجموعة صغيرة "اختطفت" الفترة الانتقالية، وجيَّرتها لخدمة أهدافها الحزبية الضيقة.
مهما يكن حكم الشارع السياسي لهذه القرارات، لكن الموضوعية تقول إنها خلقت واقعاً جديداً، وصنعت حقائق على الأرض يصعب تجاوُزها، فقد سعى البرهان لشرح مبررات ودوافع هذا التغيير السياسي الكبير، وأنكر وصف خصومه بأن ما حدث انقلابٌ، مؤكداً بأنها إجراءات تصحيحية، بعد أن استشعر خطورة الاضطرابات، وانزلاق البلاد نحو الفوضى، وحافّة الحرب الأهلية.
في الوقت ذاته، يدرك العالمون ببواطن الأمور أن البرهان تحرك بعد أن تم حصره في زاوية ضيقة، كما قال الباحث جوزيف تاكر من المعهد الأمريكي للسلام، من قِبل بعض أحزاب المكون المدني، خاصة بعد التحريض المكثف من بعض السياسيين ضد قيادة الجيش، وضرورة تقديم بديل للبرهان، بسبب تآكُل الثقة بين شركاء الفترة الانتقالية.
فيما توفرت معلومات عن تحركات من صغار الضباط المغامرين المتطلعين لتسلُّم السلطة في ظل المشاكسة المستمرة مع المكون المدني، وتمحورت رؤية قيادة الجيش بأن يتخذ البرهان هذه الإجراءات لإغلاق الباب أمام أي مغامرة من صغار الضباط للاستيلاء على السلطة؛ لأنها ستجر البلاد لمواجهات عنيفة وفوضى وحرب أهلية.
مع العلم أنه عقب فشل جهود المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي جيفري فيلتمان، الذي قاد جهود وساطة مكوكية بين أطراف الأزمة السودانية، سارع الجيش لإعلان قرار فضّ الشراكة مع المكون المدني، وفرض الإجراءات الاستثنائية، وكشف فليتمان لمجلة "فوربن أفيرز" الأمريكية أن البرهان وقائد الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي" أبلغاه في اجتماع مغلق نيتهما تسلُّم السلطة، لكنه حذرهما من مغبة أي إجراءات تنسف المسار الديمقراطي؛ لأنها ستعرض التعاون والعلاقة مع الولايات المتحدة للخطر، وستجمد كل برامج التعاون الاقتصادي والثنائي، ورغم ذلك، وبعد مغادرة فيلتمان للسودان بساعة واحدة، أعلن البرهان حل مجلسَي السيادة والوزراء، وتجميد كل مواد الشراكة مع المكون المدني الواردة في الوثيقة الدستورية.
لكن ما أثار حفيظة المجتمع الدولي هو اعتقال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وعدد من الوزراء وأعضاء مجلس السيادة من المدنيين، كما توسعت المواجهة العنيفة في الشارع بين القوات النظامية والحشود الشعبية المناهضة للقرارات، وأوقعت ضحايا بين المدنيين، ورغم ما شهدته الفترة الماضية من حالة كر وفر للمواجهات، لكنها شهدت انحساراً كبيراً في الأيام الماضية، تمهيداً لعودة الحياة إلى طبيعتها.
بعد الكشف عن مكان إقامة رئيس الوزراء حمدوك، وإعادته لمقر إقامته، تزايدت انتقادات المجتمع الدولي ضد الانقلاب، باعتباره يهدد مسار التحول الديمقراطي، وتنامت الدعوات بإعادة السلطة للمدنيين، وتصاعدت ردود الفعل الدولية من معظم الدول الغربية، وصدرت جملة من القرارات الخاصة بتجميد كل برامج العون الاقتصادي التي تقدمها هذه الدول والمؤسسات المالية الدولية للسودان مثل: الولايات المتحدة وفرنسا والنرويج وألمانيا والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي.
وفقاً للرصد المستمر، فقد شهدت إدانات المجتمع الدولي لما شهده السودان اتساعاً في النطاق، وتشديداً في اللغة، ووقفاً لبرامج التعاون، والتهديد باتخاذ إجراءات أكثر صرامة، ومع فشل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بإصدار بيان من مجلس الأمن الدولي بسبب اعتراض روسيا، ورفضها توصيف ما حدث في السودان بأنه انقلاب، لجأت واشنطن لتحريض بعض الدول الإفريقية لتجميد عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي.
رغم كل ذلك، فلم تفلح هذه الإدانات وإجراءات المجتمع الدولي في إثناء الجيش وقائده العامّ البرهان في التراجع عن خطواته، لأن قاعدة تأثير ونفوذ الدول الكبرى في مجريات اتخاذ القرار داخل المؤسسة العسكرية السودانية ما تزال ضعيفةً، لأنها ركزت استثمارها في النخب السياسية المدنية الحاكمة طيلة الفترة الماضية، ولم يكن لها تأثير يُذكر داخل الجيش؛ لأن واشنطن ظلت تضغط لإخضاع المؤسسة العسكرية للمدنيين، وإجراء الإصلاحات الأمنية، دون إشراك القيادة العسكرية في الأمر.
بعد أن لمست واشنطن والعواصم الغربية ضعف تأثيرها لإجبار البرهان وقادة الجيش السوداني على التراجع عن قراراتهم، لجأت لتوظيف الدول الإقليمية المؤثرة على أوضاع السودان، كالسعودية والإمارات ومصر، وعملت على تحريضها لوقف الدعم المالي، وتصعيد الضغوط السياسية ضد المكون العسكري؛ لكن الأخيرة أعلنت وقوفها مع البرهان؛ لأن الجيش المصري يرى نظيره السوداني امتداداً طبيعياً لتحالفاته الإستراتيجية لحماية الأمن القومي المصري، خاصة بعد بروز الخلافات مع إثيوبيا بعد أزمة بناء سد النهضة، ولا يمكن للسعودية والإمارات الاستجابة للضغوط الأمريكية، خشية تعرُّض جهودهما للاستثمار في النخبة السياسية والمدنية في السودان بعد سقوط البشير للتصدع والتجريف.
هذا الجدل الخاص بتصاعد نبرة الإدانة الدولية، والتهديد بوقف برامج الدعم والتعاون الاقتصادي مع السودان، لم يعد سلاحاً ماضياً أو مجدياً لإجبار الجيش على التراجع عن قراراته بسبب ضعف قاعدة النفوذ والتأثير الغربي على اتخاذ القرار داخل المنظومة الأمنية، مما يشير أن العامل الحاسم في إعادة التوازن للعملية السياسية هو الديناميكيات السياسية في الداخل السوداني، خاصة مع استمرار تداعيات ردود الأفعال الداخلية، ومدى القدرة على الحشد الشعبي لمناهضة هذه القرارات.
ظهر واضحاً أن التوقعات بالمناهضة الجماهيرية الواسعة والعنيفة لإجراءات الجيش كانت كبيرة، لكن الأداء البائس لحكومة الفترة الانتقالية بقيادة حمدوك، والتصدي المنظم من القوات النظامية، والتوسع في دائرة اعتقال السياسيين والناشطين أضعف من ردة الفعل الشعبية المتوقعة، رغم دعوات العصيان المدني.
رغم تصعيد المقاومة الشعبية في مسيرات متفرقة في الثلاثين من أكتوبر، على أمل عودة الحياة مرة أخرى لخيار المواجهة الشعبية مع القوات النظامية، لكن تاريخ السودان الحديث يُثبت أن كل دعوات العصيان المدني لم تنجح، ولذلك لم تحقق الدعوات المتكررة الأخيرة نجاحاً خلال الأسابيع الماضية.
من ناحية أخرى، وجدت قرارات وخطوات قيادة الجيش تفهماً ودعماً من فصائل الحرية والتغيير التي نظمت الاعتصام الشهير أمام القصر الجمهوري، بمشاركة طيف واسع من ممثلي القبائل والنظام الأهلي والطرق الصوفية، وممثلي الأحزاب والحركات المسلحة، وهي تمثل السند الشعبي لقرارات البرهان، وبحكم تركيبتها الجغرافية والديمغرافية أقل تمثيلاً لفئة الشباب الحضري الذي تولى قيادة الحَراك الثوري في ديسمبر ٢٠١٩، لكنها في المقابل تملك تمثيلاً اجتماعياً واسعاً، خاصة في الريف السوداني ونجوع الهامش، مما يوفر غطاءً شعبياً وسياسياً لخطوات قيادة الجيش.
هناك أطياف شعبية أخرى رحبت بهذه القرارات وهي القطاعات الفقيرة التي اكتوت بنيران الأسعار، والتدهور الاقتصادي، وانفلات السوق، وندرة المواد الضرورية، وارتفاع كلفة التعليم، بعد أن قامت حكومة الفترة الانتقالية بتطبيق وصفة البنك الدولي، برفع الدعم عن السلع الضرورية، وتحرير الأسعار، وتعويم الجنيه، وأحالت حياة المواطنين إلى جحيم.
إن الانقسام الذي أحدثته قرارات البرهان بفض الشراكة مع "قوى الحرية والتغيير"، وحل مجلسَي السيادة والوزراء، لا يعني أنها قائمة على خط مفاصلة بياني أفقي، وليس صراعاً عنيفاً وسط قوى أيديولوجية متباينة بين دعاة المشروع العلماني مقابل المشروع المحافظ على الهُوِيَّة السودانية، أو بين دعاة الحريات المدنية مقابل أصحاب النزعة الديكتاتورية والاستبدادية، لكن ما حصل هو مواجهة في إطار الصراع على السلطة بين مجموعة مدنية حازت على امتيازاتها، ووظفت أدوات الدولة لقمع الخصوم، وزرع الفساد، والتمكين المضاد، وتجيير الفترة الانتقالية لصالح المصالح الحزبية الضيقة الخاصة بأقلية اختطفت الثورة من الشباب.
في المقابل فإن هذا الصراع بين قوى سياسية واجتماعية أخرى حرمت من امتيازات السلطة، وتم إبعادها من مركز اتخاذ القرار، ولم تكن جزءاً من ديناميكيات هندسة المشروع السياسي الذي سيتحكم في مستقبل السودان، مما أدى لظهور مصطلح "الديكتاتورية المدنية" في الساحة.
إن قرارات البرهان لن تحل الأزمة السياسية بهذه الإجراءات الاستثنائية، وإن تم فرضها بقوة الجيش، وقد تكون أضافت طبقة أخرى من التعقيد السياسي للأزمة المستفحلة أصلاً؛ لأن أيَّ مؤسسات تنشأ بموجب هذه القرارات ربما تفقد الشرعية الشعبية إنْ لم تجد القَبول الكافي، وعليه فإن نجاح هذه القرارات في خلق واقع سياسي جديد سيرتبط بإنجاز عدد من المطلوبات، على رأسها إعادة السلطة التنفيذية لقيادة مدنية، وترشيح رئيس وزراء، على نحو عاجل، يحظى بالقَبول والإجماع الوطني، مقابل الشرعية الشعبية والدولية التي اكتسبها حمدوك من قبل، والإسراع بإقامة كل مؤسسات الفترة الانتقالية، بما في ذلك المجلس التشريعي، وبناء وصَوْن مؤسسات العدل والقضاء، وحمايتها من التدخُّل والتغوُّل السياسي.
رغم أن المعيار الفاصل في إنجاح الفترة الانتقالية وفقاً للحقائق التي أفرزتها قرارات البرهان يتمثل بقدرة المنظومة الأمنية في بسط الحريات، وحمايتها، وتأمين حرية العمل السياسي والمدني، واستعادة العمل النقابي ومنظمات المجتمع المدني، وإطلاق سراح المعتقلين بجميع أطيافهم، وتقديم كل المنتظرين لمحاكمات عادلة، أو إطلاق سراحهم، إن لم تتوفر بينات قانونية كافية لمحاكمتهم.
هنا يُطرح السؤال: هل يصبر العسكر على جمر الحريات والمناهضات الجماهيرية والتمرين الديمقراطي؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من التقرير أن معظم المؤسسات العسكرية في العالم الثالث فشلت في دعم وتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي، بل أجهضتها، وتآمرت عليها، كما حدث في ميانمار مؤخراً، وعليه تجد تعهدات البرهان باستعادة المسار الديمقراطي وتصحيحه شكوكاً عظيمة، لأن الجيوش لا يمكن أن تكون أُمُّاً رَؤُوماً لولادة الديمقراطيات.
هذا يعني أن ما يمكن اعتباره "طفلاً خَدِيجاً" يتنفس بصعوبة في المهد الآن في السودان، إما أن يخرج صحيحاً معافًى بعد الرعاية الطبية اللازمة التي تقتضي إجماعاً وتوافقاً وطنييْنِ على مسار انتقالي متفَق عليه حتى قيام الانتخابات، وإما أن تولد ديمقراطية شَكْلانية مشوَّهة متحكَّم فيها، تعترف بهامش ديمقراطي، مع توجهات ديكتاتورية ذات مُسوح ليبرالية، إن لم ينزلق المشهد لإعادة إنتاج النموذج المصري في السودان.
ولذلك تقف أمام البرهان تحدِّيات جادة، فإما يمتثل لشواهد التاريخ وممارسات الجيوش في العالم الثالث، أو ينجح بولادة تحوُّل ديمقراطي يحقق التطلعات الشعبية في السودان، أم ينفذ الوصفة المعروفة في إفريقيا ودول المنطقة، بأن الجيوش تصنع أنظمتها الديكتاتورية تحت لافتات ديمقراطية ليبرالية، لكنها ترضخ لسلطة المنظومة الأمنية في السيطرة على دولاب الدولة.
الخُلاصة أن البرهان ربما يكون على موعد لإعادة تعريف دور الجيش في السياسة إذا نجح في الخروج بالبلاد من مأزقها الراهن، كما فعلها المشير سوار الذهب من قبل، ويتم تقديم نموذج سوداني فريد، خاصة أن الساحة السياسية السودانية فيها قطاعات كبيرة زهدت في "الديكتاتورية المدنية" التي تولَّت مَقاليد الحكم في البلاد خلال الفترة الماضية.