الهجمات الإيرانية على كردستان الدوافع والمآلات

الهجمات الإيرانية على كردستان الدوافع والمآلات

2024-02-03
990 مشاهدة
Download PDF


تمهيد

أثارت الهجمات الصاروخية الأخيرة التي شنها الحرس الثوري الإيراني على أربيل في (16 كانون الثاني/ يناير 2024)، العديد من التساؤُلات حول الأسباب الحقيقية التي تقف خلفها، ورغم أن الحرس الثوري أشار في بيانه عقب الهجمات إلى أنها استهدفت مقرات تابعة للموساد الإسرائيلي في الإقليم، إلاّ أنه مما لا شك فيه أن إيران أرادت إرسال العديد من الرسائل الإقليمية والدولية عَبْر هذه الهجمات، خصوصاً أنها تأتي في سياق توتُّر أمني يشهده العراق، على خلفية تصاعُد الهجمات المتبادلة بين الفصائل المسلحة الموالية لإيران والقوات الأمريكية في العراق، والتي ازدادت وتيرتها عقب الحرب الإسرائيلية على غزة.

تحاول هذه الورقة رصد الدوافع الحقيقية التي تقف خلف الهجمات الإيرانية الأخيرة على الإقليم، وموقف الحكومة العراقية منها، وإمكانية تأثيرها على العلاقة بين بغداد وطهران، فضلاً عن مستقبل هذه الهجمات، وتداعياتها على المشهد السياسي في العراق.

دوافع إيرانية متعددة الأبعاد

إلى جانب البيان الذي أصدره الحرس الثوري عقب الهجمات الأخيرة على أربيل[1]، فإن الفترة الماضية شهدت مزيداً من التصعيد على مستوى العلاقات التي تربط إيران بإقليم كردستان، خصوصاً بعد تصاعُد الخلاف حول تواجُد جماعات المعارضة الكردية الإيرانية في الإقليم، إذ تعتبر إيران هذا التواجد بمثابة تهديد للأمن القومي الإيراني، وطلبت من سلطات الإقليم احتواء تحرُّكات هذه الجماعات، إلى جانب مطالبتها بتسليم قيادات في هذه الجماعات، ورغم قيام طهران وبغداد بتوقيع اتفاق أمني في ( آب/ أغسطس 2023)، تتعهد من خلاله أربيل بنقل مقرات جماعات المعارضة الكردية الإيرانية إلى مناطق بعيدة عن الحدود العراقية الإيرانية[2]، إلاّ أن إيران تعتبر أن ذلك لم يتحقق حتى الآن.

يمكن القول بأن هناك العديد من الدوافع الإستراتيجية التي تفرض نفسها في سياق الهجمات الإيرانية الأخيرة على إقليم كردستان، والتي يمكن إيجازها على النحو الآتي:

الدوافع السياسية: أظهر إقليم كردستان، وتحديداً (الحزب الديمقراطي الكردستاني) تمايزاً واضحاً عن السياسة الإيرانية في العراق، وتحديداً على مستوى الموقف الأخير الذي صدر عن رئاسة إقليم كردستان، والخاص برفض الإقليم لعملية الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق، والإعلان عن رغبة الإقليم بنقل هذا التواجد إلى داخل أربيل، وهو ما مثل خروجاً واضحاً عن أهداف الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية في الشرق الأوسط، إذ أصبح هدف إنهاء التواجد الأمريكي في العراق، الركيزة الرئيسية التي يقوم عليها الدور الإيراني في مرحلة ما بعد اغتيال قائد قوة القدس السابق (قاسم سليماني) في (كانون الثاني/ يناير 2020)، إذ تعتبر إيران مثل هذه المطالبات تهديداً حقيقياً لإستراتيجيتها العسكرية في سورية، خصوصاً أن نقل التواجد الأمريكي إلى الإقليم، سيعرض الممر البري الآمن[3] الذي أقامته إيران في مناطق شمال العراق وصولاً إلى الحسكة السورية، عبر التنسيق مع الجماعات الكردية المسلحة للتهديد الكبير، يأتي ذلك في ظل فقدانها للقيمة الإستراتيجية التي يمثلها الممرّ البري الرابط مع مدينة دير الزور عبر البو كمال، بفعل الضربات الإسرائيلية والأمريكية المتكررة.

الدوافع الاقتصادية: تمثل الدوافع الاقتصادية المحدد الأبرز في السلوك الإيراني حيال أربيل خلال الفترة القليلة الماضية، إذ أظهرت الهجمات الأخيرة، إلى جانب هجمات إيرانية سابقة تعرضت لها أربيل (في آذار/ مارس 2022)، إلى جانب هجمات متكررة تتعرض لها الحقول الغازية في الإقليم، وأبرزها حقل كورمور الغازي، كان آخِرها في (26 كانون الثاني/ يناير  2024)، طبيعة المخاوف الإيرانية من السياسات الاقتصادية لإقليم كردستان، خصوصاً بعد نجاح الإقليم في بناء شراكات اقتصادية مع تركيا وبعض الدول الأوروبية، من أجل تصدير الغاز، فضلاً عن نجاح الإقليم في إنتاج تفاهمات غازية مع أذربيجان، من خلال الزيارات المتبادلة بين مسؤولي الطرفين، عَبْر سعي الإقليم لربط عملية تصدير الغاز إلى أوروبا عَبْر الممر الغازي الأذربيجاني من خلال البحر الأبيض المتوسط، وهو ما تعتبره إيران تهديداً اقتصادياً لها.

وفي هذا السياق، أظهرت طبيعة الاستهدافات الإيرانية على خلفية هذه الهجمات، تركيزاً إيرانياً على بعض الأسماء الكردية ذات العلاقات الاقتصادية المؤثرة على الصعيد الخارجي، ففي (آذار/ مارس 2022) استهدفت إيران إقليم كردستان بـ 12 صاروخاً باليستياً من طراز (شهاب 3)، وكان من ضمن الأهداف منزل رئيس شركة كار للغاز (باز كريم)، الذي نجح في (شباط/ فبراير 2022)، أثناء زيارة لرئيس إقليم كردستان (نيجرفان بارزاني) إلى أنقرة، بتوقيع اتفاقية غازية تسمح للإقليم بتصدير الغاز إلى تركيا، وبأسعار تفضيلية عن تلك التي تحصل عليها تركيا من إيران، وفي الهجمات الأخيرة استهدفت إيران منزل رجل الأعمال الكردي (بيشرو ديزيي) الذي ينخرط بشبكة علاقات اقتصادية، وتحديداً على صعيد قطاع الطاقة، مع العديد من الدول الإقليمية، وهو ما يعطي البعد الاقتصادي قيمة مؤثرة في العلاقات بين الطرفين.

الدوافع الأمنية: نجحت أربيل خلال الفترة الماضية في إنتاج سياسة مغايرة عن سياسة بغداد حيال إيران، وتحديداً في ثلاثة ملفات أمنية مهمة هي: ملف تواجد جماعات المعارضة الكردية الإيرانية، وملف (حزب العمال الكردستاني)، وملف العلاقة مع السليمانية، وهي ملفات ذات أهمية أمنية كبيرة بالنسبة لإيران، إذ لم تتمكن إيران ورغم ضغوطاتها المستمرة، من احتواء تحرُّكات أربيل في هذا الإطار، إذ لا زالت أربيل تتحكم في ملف تواجد جماعات المعارضة الكردية الإيرانية، سواءً على مستوى التواجد أو العمليات في الداخل الإيراني، كما أنها مكنت تركيا من شنّ هجمات مؤثرة على مناطق تواجد (حزب العمال الكردستاني) في سنجار ومخمور والكوير، إلى جانب الوحدات المحلية الحليفة للحزب، والحديث هنا عن (وحدات مقاومة سنجار YBŞ) التي تتكون من ميليشيات إيزيدية تعمل ضمن اللواء 80 في هيئة الحشد الشعبي، وذلك عبر التنسيق الاستخباري والعسكري المتواصل بين أربيل وأنقرة.

أما على مستوى العلاقة مع السليمانية، فقد أظهرت أربيل حذراً كبيراً في التعامل مع (حزب الاتحاد الوطني الكردستاني) المقرب من إيران، وتحديداً على مستوى تفكيك العلاقة التي تجمع الحزب بـ(قوات سوريا الديمقراطية- قسد)، إذ تعتبر أربيل أن مثل هذه العلاقة سيعزز الحضور الإيراني في شمال العراق، خصوصاً أنه يأتي ضِمن سياق تضامُن كردي عابر للحدود على شكل مثلث أمني مكوَّن من (الاتحاد الوطني الكردستاني – العراق، حزب العمال الكردستاني – تركيا، قوات سوريا الديمقراطية – سوريا)، والذي يعمل ضمن رعاية الحرس الثوري، ويهدف بالنهاية إلى احتواء أربيل، وجعلها خاضعة تماماً للحسابات الأمنية الإيرانية.

الدوافع الجيوسياسية: تنظر إيران إلى التحركات الخارجية لأربيل، والتي عززت من الحضور الإقليمي في أربيل، خلال الفترة القليلة الماضية، وتحديداً على مستوى الأدوار التركية والخليجية، بأنها تأتي على حساب الدور الإيراني في العراق، وعلى الرغم من محاولة إيران اختراق الإقليم، عبر عدة مبادرات سياسية واقتصادية، إلّا أن تفضيل الإقليم للأدوار الإقليمية المذكورة على حساب الحضور الإيراني، جعل إيران تمارس سياسة متطرفة حيال أربيل، ولعل الهجمات الإيرانية الأخيرة إحدى صور التخوف الإيراني من السياسات الخارجية التي بدأت تنتهجها أربيل في الفترة الأخيرة.

موقف الحكومة العراقية

إن طريقة التعاطي العراقي مع موضوع الهجمات الإيرانية على أربيل، خاضع لديناميات السياسة الداخلية العراقية، حيث لا يوجد هناك اتفاق سياسي عامّ حول قبول أو رفض الهجمات المتكررة على الإقليم، سواءً الهجمات المباشرة، أم تلك التي تحصل عَبْر فصائل موالية لإيران، ففي الوقت الذي تحاول فيه حكومة الإقليم تدويل هذا الملف، أو إنهاءه، تحاول أطراف سياسية عراقية مقربة من إيران، وتحديداً الفصائل المسلحة، جعله جزءاً من سياسة احتواء لتحركات (الحزب الديمقراطي الكردستاني) الذي يتزعمه (مسعود بارزاني)، ومن ثم فإن هذا الوضع سيؤثر سلباً على أي جهد حكومي عراقي لوضع حد له.

هذا الواقع أجبر الحكومات العراقية المتعاقبة على اعتماد نهج الاحتجاج الدبلوماسي على الهجمات التي تشنها إيران في داخل الإقليم، وهو ما حدث في الهجمات الأخيرة، عندما استدعت الخارجية العراقية القائم بالأعمال الإيراني في بغداد أبو الفضل عزيزي، وسلمته مذكرة احتجاج على خلفية هذه الهجمات، فضلاً عن التلويح العراقي باللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لبحث هذه الاعتداءات، رغم أنه لم يتحقق شيء في هذا السياق حتى الآن، وهو ما أكده رئيس مجلس الأمن الدولي نيكولا دي ريفيير، بعدم تلقيه أي طلب من الحكومة العراقية بخصوص الهجمات الأخيرة[4].

هذا الضعف الحكومي، إلى جانب غياب الجهود الاستخبارية والأمنية العراقية على حدود الإقليم مع إيران، بسبب الخلاف المستمر مع إقليم كردستان، أدى إلى اندفاع الحرس الثوري بمعالجة العديد من الملفات الداخلية والخارجية بعيداً عن مراعاة مبدأ السيادة العراقية، وقد تتحول إيران في ظل غياب ردود حكومية عراقية رادعة، نحو نهج جديد في العراق، عَبْر التحول من الضربات الصاروخية إلى عمليات برية محدودة داخل الإقليم، في استنساخ لتجربة العمليات العسكرية التركية التي تجري على الحدود الشمالية بين الحين والآخر.

فعلى الرغم من النقاط العسكرية المشتركة التي يتواجد فيها عناصر الجيش العراقي مع قوات البيشمركة الكردية، والتي تُعَدّ بمثابة قوات حرس حدود، تختص بمهام الإنذار والمراقبة، وليست قوات مقاتلة، ويُلاحَظ طول الحدود التي تربط إيران بإقليم كردستان، دون وجود أي سلطة لوزارة الدفاع العراقية عليها، حيث إن التواجد في هذه المناطق يحتاج لموافقة سلطات الإقليم، كون جزء من الحدود بين العراق وإيران هي ضمن حدود الإقليم، الذي بدوره يرفض تواجد الجيش العراقي فيها، وهي معضلة خطيرة، خصوصاً إذا ما وجدنا أنه بين مناطق إقليم كردستان وبين إيران توجد أربعة منافذ رسمية، واحد مع محافظة أربيل، واثنان مع السليمانية وواحد مع مدينة خانقين التابعة لمحافظة ديالى، فيما أكدت معلومات ميدانية أن هناك أكثر من 39 منفذاً غير رسمي بين الأراضي الإيرانية وإقليم كردستان، وهي منافذ تمثل تحدياً أمنياً يواجهه العراق، يتم استخدام بعضها من قِبل جماعات المعارضة الكردية الإيرانية في التنقل عَبْر الحدود، والتسلل للداخل الإيراني.

إن عدم تمكُّن العراق من ردع إيران، أو حتى إجبارها على التفريق بين سياستها الداخلية، ومتغيرات الداخل العراقي، جعل إيران توظف كل ما يجري داخل أربيل لحسابات السياسة الإقليمية كلما دعت الحاجة، ففي الهجمات الأخيرة جاء التوظيف الإيراني عنيفاً، بغية الضغط على أربيل، للتراجع عن العديد من السياسات الداخلية والخارجية التي اتخذها خلال الفترة الماضية، والتي تعتبرها إيران تهديداً لمصالحها في العراق والمنطقة، وتحديداً تلك المتعلقة بموقف الإقليم من الوجود العسكري الأمريكي وتصدير الغاز للخارج.

وبالإضافة لكل ما تقدم؛ فإن مسارات الصراع الأمريكي الإيراني لم تكن بعيدة عن ملامح الهجمات الأخيرة، خصوصاً أن الهجمات الصاروخية الإيرانية، جاءت بعد سلسلة من الهجمات الدامية التي شنتها القوات الأمريكية في العراق، سواءً تلك التي استهدفت القيادي في الحشد الشعبي (أبو تقوى السعيدي) أم هجمات سابقة لمقرات الحشد الشعبي على الحدود العراقية السورية، ما يشير بوضوح إلى إمكانية توسُّع خارطة الصراع الأمريكي الإيراني في المرحلة المقبلة، فيما لو استمرت الهجمات الإيرانية على الإقليم، في ظل غياب أي دور عراقي فاعل لإنهاء هذه المعضلة الأمنية.

تأثير الهجمات على العلاقة بين بغداد وطهران

أظهرت تحرُّكات الحرس الثوري في العراق خلال الفترة الماضية، محاولة لجعل العراق جزءاً من معادلة التوازن الإستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط، عَبْر ربط العراق بالدور الإقليمي الإيراني، ومحاولة إبعاده عن أي نقاشات إقليمية أو دولية تتعلق بالنفوذ والسياسات الإقليمية الإيرانية، سواءً على مستوى المحادثات النووية، أم الحوارات الإقليمية مع الدول العربية، وذلك من أجل تجاوُز حالة الخلل في التوازن الإستراتيجي الإيراني في العراق بعد اغتيال سليماني، خصوصاً على مستوى ضبط الحالة العراقية وإخضاعها لمركزية قوة القدس، وتعثر قائد قوة القدس (إسماعيل قاآني) في مواجهة تحديات النفوذ الإيراني في الساحة العراقية.

وفي سياق الهجمات الأخيرة، مثّل نجاح إيران في اعتماد سياسة مركبة حيال أربيل وبغداد، في التقليل من آثار هذه الضربة على العلاقات العراقية الإيرانية، ولعل ما سمح لها بالتقليل من هذه الآثار، هو وجود بيئة سياسية داعمة لها في بغداد، إذ أظهرت أغلب قوى (الإطار التنسيقي) التي شكلت حكومة رئيس الوزراء (محمد شياع السوداني) تماهياً واضحاً مع هذه الضربة، وحملت حكومة الإقليم تَبِعات هذا السلوك الإيراني، على الرغم من قيام حكومة السوداني وعَبْر مستشار الأمن القومي العراقي (قاسم الأعرجي) بإصدار بيان يوضح عدم صحة الادّعاءات الإيرانية بالأسباب التي تقف خلف الهجوم.

أنتجت الاستجابات العراقية للأدوار الإيرانية حالة من الارتباك الواضح على طول خطّ الدور الإيراني بعد عام 2003، ولعل السبب الرئيسي وراء ذلك يعود إلى شبكة العلاقات العامة التي تمتلكها إيران في الداخل العراقي، فإحدى أهم مميزات هذا الدور، أنه وفّر لنفسه هامشَ مناورةٍ كبيراً أمام مختلف القوى السياسية العراقية، فالمحاولات الإيرانية في الفصل بين ما هو مصلحة إيرانية ومصلحة عراقية، أنتجت بالمقابل تحوُّطاً إستراتيجياً عراقياً في عدم الذهاب بعيداً بسياسة المحاور الإقليمية، بسبب هشاشة الوضع الداخلي العراقي، ولعل هذا ما يبرز واضحاً في تجنُّب العراق تصعيد المواقف السياسية مع إيران، بسبب سلوكياتها العسكرية المتواصلة حيال الإقليم.

قد تبدو المبرِّرات العراقية واضحة في هذا الصدد، فإيران شأنها شأن أي دولة إقليمية، لها مساحة نفوذ واضحة في العراق، كما أن التوازُن الداخلي الذي يقوم على أساسه النظام السياسي العراقي، هو من جهة أخرى ترجمة عملية لعملية التوازن الإقليمي في العراق، ومن ثَمّ فإن التداخل المعقَّد بين الداخلي والإقليمي، دفع بغداد لاعتماد استجابات لا تتماهى مع إيران، خصوصاً أن طهران حرصت على ممارسة أدوار فاعلة ومؤثرة في عملية تشكيل الحكومات العراقية بعد عام 2003.

ورغم غياب أي فرصة للحديث عن إمكانية أن تنعكس الهجمات الأخيرة على أربيل، بصورة سلبية على العلاقات بين طهران وبغداد، فإن الضرورة الإستراتيجية تفرض على العراق أن يضغط على الجانب الإيراني بضرورة التوقف عن تصدير المشاكل الداخلية الإيرانية إلى الداخل العراقي، سواءً على مستوى  نقل ميدان الصراع مع الولايات المتحدة، أم على مستوى الذرائع الإيرانية التي تسوقها خلف هجماتها المتكررة، وأن يتم طمأنة الجانب الإيراني بأن انفتاح بغداد وأربيل على دول الخليج أو الولايات المتحدة، لا يعني الإضرار بالمصالح الإيرانية في العراق، وأن هذه العملية تأتي في سياق تنويع الحركة الخارجية للعراق، في ضوء تزايُد الاعتمادية الدولية على الفرص الاقتصادية الموجودة في الداخل العراقي، والتي إذا ما تم تأمينها، فستنعكس إيجاباً على إيران أيضاً، في ظل وجودها المؤثر ضِمن قطاع الاقتصاد العراقي.

سيناريوهات مستقبلية

يمكن القول بأن تواصُل هجمات الحرس الثوري على إقليم كردستان، إلى جانب الطبيعة المعقدة للعلاقات بين طهران وأربيل، وضع هذه الهجمات أمام ثلاثة سيناريوهات هي:

استمرار الوضع الراهن: يفترض هذا السيناريو المرجَّح، استمرار الهجمات الإيرانية على إقليم كردستان، وذلك حَسَب تطوُّرات الأوضاع الداخلية والخارجية، المحيطة بالعلاقات بين طهران وأربيل، وما يدفعنا للقول بإمكانية استمرار هذا الوضع، هو استمرار أربيل في الابتعاد بسياساتها عن طهران، إلى جانب الموقف المتردد للحكومة العراقية في ضبط السلوكيات الإيرانية واحتوائها في العراق، ومن ثَمّ فإن بيئة الإقليم مرشحة لاستمرار هذا السيناريو في المرحلة المقبلة.

توسُّع نطاق الهجمات: يفترض هذا السيناريو المحتمل أن يقوم الحرس الثوري بتنفيذ عملية عسكرية برية محدودة داخل إقليم كردستان، من أجل إنهاء أي تهديد قادم من أربيل، سواء عَبْر جماعات المعارضة الكردية الإيرانية أم إنهاء التواجد الإسرائيلي في الإقليم على حدّ زعمه، إذ يشير قيام الحرس الثوري بتعزيز عدد نقاطه العسكرية وزيادتها على الحدود مع الإقليم خلال الفترة الماضية إلى أنه قد تكون هناك نية إيرانية لتنفيذ عملية محدودة داخل حدود الإقليم، في توجُّه يعكس إمكانية تفكير إيران بخيارات أخرى، تتجاوز حدود الهجمات الصاروخية، ومنها العمليات العسكرية المحدودة داخل الإقليم، وذلك حَسَب مستوى العلاقة مع أربيل.

توقُّف الهجمات وانتهاؤُها: يفترض هذا السيناريو المستبعَد أن تتوقف الهجمات الإيرانية على إقليم كردستان، إذ إنه نظراً لطبيعة التعقيد الذي تشهده العلاقات الإيرانية الأمريكية في العراق، إلى جانب تضرُّر قوى إقليمية أخرى كتركيا ودول الخليج، من هذه الهجمات، وتحديداً في القطاع الاقتصادي، قد تندفع إيران نحو إعادة تشكيل دورها في أربيل، خصوصاً أن استمرار الهجمات قد يدفع أربيل لمزيد من التمرُّد على السياسات الإيرانية في العراق، وهو توجُّه بدأت آثاره واضحة على سلوكيات سلطات الإقليم عقب الهجمات الأخيرة، أثناء المطالبة بتدويل ملف الهجمات الصاروخية، وما يمكن أن ينتج عن هذه الخُطوة من تداعيات سياسية ستتحمّلها إيران، في ظل بيئة دولية معادية لها بالوقت الحاضر.

خاتمة

يشير استمرار الهجمات الإيرانية على إقليم كردستان، إلى تصميم إيراني واضح على التعامل الأحادي مع أربيل، وَفْق المسارات التي تقتضيها المصلحة الإيرانية، بعيداً عن مراعاة مبدأ السيادة العراقية، أو حتى بيانات الإدانة التي صدرت عن المجتمع الدولي، إذ تأتي محاولات الحكومة العراقية لحل هذه المعضلة، عبر الوسائل السياسية والدبلوماسية متعثرة للغاية، وذلك بسبب وجود فاعل آخر متحكم بهذا الملف، والحديث هنا عن قوى الإطار التنسيقي المقربة من إيران، وهو فاعل له أهداف وغايات متمايزة عن توجُّه حكومة الإقليم، هذا إلى جانب الخلافات المستمرة بين بغداد وأربيل، حول ضرورة خضوع حكومة الإقليم للحكومة المركزية في تعامُلاتها الخارجية، وهو ما يفاقم من معضلة العراق في هذا السياق.


يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)

الهوامش:

[1]  الحرس الثوري الإيراني يتبنى قصف مواقع في أربيل العراقية، وكالة الأناضول، 16 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط.

[2]  بعد الاتفاق الأمني.. ما مصير المعارضة الإيرانية في كردستان العراق؟ الجزيرة نت، 26 آب/ أغسطس 2023، الرابط.

[3]  جاءت فكرة "الممر البري الآمن" في شمال العراق، كإستراتيجية بديلة عن الإستراتيجية التي حاولت من خلالها إيران ربط الحدود العراقية بالحدود السورية عبر مدينة دير الزور السورية، إذ يبدأ هذا الممر من مدينة كرمنشاه الإيرانية ثم مدينة ديالى العراقية ليدخل المدن العراقية الأخرى الواقعة شمال شرق بغداد، ومن ثَمَّ أمرلي وطوزخورماتو وكركوك والموصل وسنجار وربيعة ثم الحسكة السورية، ومن ثَمّ جنوب حلب وجنوب إدلب حتى البحر الأبيض المتوسط، إذ يمثل هذا الممر مثابة بديل عملي للإستراتيجية التشغيلية الإيرانية في سورية.

[4]  مجلس الأمن: لم أتلق طلباً من حكومة العراق بخصوص قصف إيران، سكاي نيوز عربية، 25 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط.