صعود أحزاب اليمين المتطرف مجدَّداً في أوروبا
2023-12-191178 مشاهدة
نشر موقع ستراتفور تحليلاً بقلم "دنكان بارتليت" تحدث فيه عن عودة أحزاب اليمين المتطرف للعب أدوار في حكومات دول القارة العجوز، وذلك لعدة أسباب، كما يتحدث عن فرص نجاح تلك الأحزاب ومدى فعّالية خُطَطها السياسية بمجرد توليها السلطة في أي بلد من بلدان الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الأسباب التي أدت إلى تعزيز فرص تلك الأحزاب وكيف تستفيد أحزاب يمين الوسط من هذا الواقع في الوصول إلى السلطة.
نص الترجمة:
تشهد الأحزاب اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا صعوداً لنجمها مرة أخرى، مدفوعة بإحساس بفقدان الهُوِيّة وردّ فعل شعبي في مواجهة ارتفاع مستويات الهجرة وسياسات المناخ المكلفة، إلى جانب عوامل أخرى.
في الوقت نفسه، أدى تآكل ممارسة سياسية تقليدية في أوروبا تُعرف باسم (التطويق الصحي -cordon sanitaire) وهو مبدأ رفض التعاون مع بعض الأحزاب السياسية - والتي تعمل فيه الأحزاب السياسية الرئيسية على عزل وتهميش القوى المتطرفة - إلى تمكين تلك الأحزاب اليمينية المتطرفة من الدخول بشكل متزايد في حكومات الائتلاف في جميع أنحاء القارة العجوز. حتى الآن، أجبرت القيود المادية الأحزاب اليمينية المتطرفة على تعديل أكثر مقترحاتها تطرُّفاً لدى توليها السلطة، بينما لا يزال من المتوقع أن يظلّ يمين الوسط متماسكاً في معظم البلدان، وكذلك في البرلمان الأوروبي. ولكن مع ذلك، لا تزال أوروبا تستعد لتحولات سياسية كبيرة في مجالات مثل المناخ والهجرة وتوسعة الاتحاد الأوروبي، حيث تحاول الأحزاب المعتدلة التنافس مع الأحزاب اليمينية المتطرفة الصاعدة من خلال إشراكها في الحكومات الائتلافية ودمج مقترحاتها في حكوماتها في برامجها الخاصة.
توجُّه يتشكل على مدى عقود
في حين أن دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا آخِذ في الارتفاع منذ سنوات، إلا أن هذا الاتجاه أصبح واضحاً لأول مرة خلال الأزمة المالية العالمية 2008-2009، والتي شهدت قيام العديد من الحكومات الأوروبية بفرض تدابير تقشفية قوّضت بشدة الثقة في الأحزاب والمؤسسات السياسية الرئيسية، مما خلق أرضية خصبة للأحزاب الشعبوية اليمينية التي تحمل أيديولوجيات متشددة، ثم أدت أزمة الهجرة في الفترة 2014-2016 إلى تسريع هذا الاتجاه، حيث اعتبر العديد من الأوروبيين تدفق اللاجئين من شمال إفريقيا والشرق الأوسط كتهديد للهُوِيّة الوطنية والسلامة العامة. يكتسب هذا الاتجاه الآن مزيداً من الزخم على خلفية رد فعل شعبي ضد ارتفاع مستويات الهجرة، وإحساس بفقدان الهوية وسط تغيرات ديموغرافية سريعة في أوروبا، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتزايد التكاليف على الأسر والشركات المرتبطة بالانتقال إلى الطاقة الخضراء.
في هذا السياق، بدأت الأحزاب اليمينية المتطرفة التي كانت مهمشة سابقاً في دخول الحكومات في جميع أنحاء أوروبا - إما على رأس ائتلافات حاكمة (كما هو الحال في إيطاليا) أو كشركاء بأقلية من المقاعد (كما هو الحال في فنلندا والسويد). وبينما فشلت الأحزاب اليمينية المتطرفة في إسبانيا والدنمارك وبولندا في الحصول على دعم كافٍ في الانتخابات الأخيرة لدخول حكومات بلدانها، إلا أنها قدمت أداءً قوياً في تلك الانتخابات - وهو اتجاه من المتوقع أن يتسارع في عام 2024.
رهانات عالية على الانتخابات
من المقرر أن تجري عدة انتخابات رئيسية في أوروبا في عام 2024، ففي حزيران/ يونيو، ستختار دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 ممثليها في البرلمان الأوروبي، ووفقاً لأحدث استطلاعات الرأي، من المتوقع أن تحصل الأحزاب اليمينية المتطرفة على السيطرة على ما يقرب من 25% من الهيئة التشريعية الأوربية المشتركة، بمجموع 169 مقعداً في الجسم المكون من 705 مقاعد.
من المتوقع أن تفوز مجموعة "الهوية والديمقراطية" اليوروسبيكتية (معارضة الوحدة الأوربية) اليمينية المتطرفة بـ 87 مقعداً في البرلمان الأوروبي، بفضل الشعبية المتزايدة لأعضائها، والتي تشمل حزب البديل من أجل ألمانيا (Alternative for Germany)، وحزب التجمع الوطني الفرنسي (France's National Rally)، وحزب الحرية الهولندي (Netherlands' Party for Freedom) (الذي فاز مؤخراً بالانتخابات العامة الهولندية). ومن المتوقع أيضًا أن تفوز المجموعة البرلمانية للمحافظين والإصلاحيين الأوروبيين ذات الأفكار المماثلة - والتي تشمل حزب إخوان إيطاليا (Brothers of Italy)، وحزب القانون والعدالة البولندي (Poland's Law and Justice)، وحزب فوكس الإسباني (Spain's Vox) - بـ 82 مقعداً.
على المستوى الوطني، تحظى الأحزاب اليمينية المتطرفة بتأييد قوي في دول الاتحاد الأوروبي المقرر إجراء انتخابات وطنية فيها العام المقبل، والتي تشمل النمسا، وبلجيكا، والبرتغال ورومانيا. يتصدر حزب الحرية النمساوي (Austria's Freedom) وحزب المصلحة الفلمنكية البلجيكي (Belgium's Flemish Interest) الاستطلاعات حالياً بنسبة 30% و23% من التأييد على التوالي، بينما يتصدر تحالف الرومانيين من أجل الوحدة في رومانيا (Romania's Alliance for the Unity of Romanians) وحزب شيغا البرتغالي (Portugal's Chega) المركز الثاني والثالث بنسبة 20% و15% على التوالي.
في النمسا، يتجه حزب الحرية اليميني المتطرف ليصبح قائداً لحكومة ائتلاف جديدة بعد الانتخابات الخريفية لعام 2024. في بلجيكا والبرتغال ورومانيا، استطاعت الأحزاب التقليدية حتى الآن منع الأحزاب الهامشية من تولي السلطة برفض التعاون معها. ولكن مع استمرار اكتساب الأحزاب اليمينية المتطرفة لدعم واسع النطاق، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الأحزاب الداعمة لسياسة "cordon sanitaires" القديمة ستستمر بعد انتخابات الدول الثلاث في حزيران/ يونيو وآذار/ مارس وأواخر 2024 على التوالي.
في الواقع، يتبخر تابو السياسة (المحظور سياسياً) الأوروبية القديم المتمثل في التحالف مع اليمين المتطرف في عدة دول، حيث يؤدي التراجع المستمر في دعم الأحزاب الوسطية إلى صعوبة كبيرة في تشكيل ائتلافات متعددة الأحزاب لإبعاد اليمين المتطرف عن الحكم. وأخيراً، حزب البديل من أجل ألمانيا - الذي يعد حالياً ثاني أكبر حزب في البلاد، بدعم يبلغ 21% بين الناخبين الألمان - يتصدر الاستطلاعات في الولايات الشرقية من ساكسونيا (32.5%) وتورينغيا (34%) وبراندنبورغ (32%) التي ستجري انتخاباتها في أيلول/سبتمبر المقبل.
الأيديولوجيا تصطدم بالواقع
نظراً للتجارب التاريخية والتقاليد السياسية المتنوعة في أوروبا، فإن كون المرء يمينياً متطرفاً يعني شيئاً مختلفاً من بلد إلى آخر، وهو ما يزيد من تعقيد استخلاص استنتاجات عامة حول ما قد يعنيه عودة اليمين المتطرف للمنطقة بأكملها. ورغم وجود قواسم مشتركة مثل وجهات النظر المناهضة للهجرة ومستوى عدم الثقة تجاه المؤسسات فوق الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي، إلا أن أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية لا تتقاسم نفس الأفكار.
في شمال أوروبا، على سبيل المثال، تميل الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى أن تكون أكثر تحررية مالياً، بينما في الجنوب غالباً ما تدعم سياسات الحماية التجارية بشكل أكبر، وتعارض القيود التي تفرضها قواعد الميزانية الأوروبية على الإنفاق. علاوة على ذلك، وبناءً على التاريخ الفريد لكل بلد أو جغرافيته، قد تكون الأحزاب اليمينية المتطرفة شديدة الدعم لحلف الناتو أو تفضل علاقات أكثر إيجابية مع روسيا، كما أنه إلى جانب النتائج السياسية المحتملة المختلفة جداً على المستوى الوطني، فإن هذا التباين يجعل من الصعب على الأحزاب اليمينية المتطرفة المختلفة في جميع أنحاء أوروبا تنسيق العمل وتشكيل منصة سياسية متماسكة على مستوى الاتحاد الأوروبي - خاصة أن أيديولوجيتها متجذرة عادة في القومية المحلية لكل بلد، وهو ما يتعارض بطبيعته مع مفهوم الهيئة فوق الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي التي تتطلب التسوية واتخاذ القرار الجماعي.
ما يبدو أكثر وضوحاً هو أن الأحزاب اليمينية المتطرفة تميل إلى تخفيف العديد من أفكارها الأكثر تطرفاً عندما تتولى السلطة، ففي إيطاليا، على سبيل المثال، أجبرت القيود الجيوسياسية والاقتصادية حكومة جورجيا ميلوني اليمينية المتطرفة على اعتماد نهج أكثر عملية والتخلي عن المواقف الأكثر تطرُّفاً والمعادية للاتحاد الأوروبي والاقتراحات الاقتصادية غير المستدامة التي أدت إلى فوز حزبها "إخوة إيطاليا" في انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2022.
من المرجح أن يحدث شيء مماثل في هولندا، حيث من المتوقع أن يدخل حزب الحرية اليميني المتطرف الحكومة الائتلافية المقبلة بعد فوزه في انتخابات البلاد في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. لتأمين دعم الشركاء الائتلافيين الأكثر اعتدالاً، من المحتمل أن يضطر الحزب إلى التخفيف من العديد من وجهات نظره الراديكالية، بما في ذلك اقتراحه لإجراء استفتاء في هولندا للخروج من الاتحاد الأوروبي.
بينما من المتوقع أن تحقق الأحزاب اليمينية المتطرفة نجاحاً في الانتخابات المقبلة في جميع أنحاء أوروبا وأن يتعزز دور العديد منها في الائتلافات الحاكمة، ستستمر القيود الاقتصادية والقانونية والمؤسسية والجيوسياسية في تعديل أولوياتها السياسية إلى حد ما. علاوة على ذلك، من المتوقع بشكل كبير أن تستمر أحزاب يمين الوسط في لعب أدوار مهمة في الحكومات، إما من خلال العمل كقوة معتدلة ضمن الائتلافات مع اليمين المتطرف، أو من خلال الحفاظ على مبدأ (cordon sanitaire) وذلك من خلال التحالفات مع أحزاب معتدلة أخرى من الطيف الأيديولوجي لإبقاء الأحزاب اليمينية المتطرفة خارج السلطة.
النظرة إلى المستقبل
ومع ذلك، حتى لو لم تسيطر الأحزاب اليمينية المتطرفة بالكامل على أوروبا، فإن صعودها سيؤثر -لا محالة- على السياسة الأوروبية وسياسات الاتحاد الأوروبي. بينما ستستدعي الضرورةُ للتوافق مع الأحزاب المعتدلة لتشكيل أغلبيات حاكمة إجبارَ الأحزاب اليمينية المتطرفة على التخلي عن بعض أكثر مقترحات سياساتها تطرفاً - بما في ذلك الخروج من الاتحاد الأوروبي، وإنهاء اللجوء للاجئين أو التخلي التام عن سياسات التخفيف من تغير المناخ - سيساهم نجاحها الانتخابي في دفع القضايا الملحة، مثل الهجرة وتغير المناخ، إلى أن تكون أقرب إلى الفكر اليميني، ومن أجل منافسة أفكار اليمين المتطرف الشعبية، ستتبنى الأحزاب السياسية السائدة بشكل متزايد بعض البنود التي ينادي بها اليمين المتطرف، وهذا يعني أن الحكومات في جميع أنحاء أوروبا من المحتمل أن تتخذ موقفاً أكثر صرامة تجاه الهجرة، مما قد يؤدي إلى تشديد إجراءات اللجوء وتقليص الدعم المالي للاجئين، فضلاً عن تنفيذ قوانين هجرة أكثر صرامة وتعزيز الرقابة الحدودية. قد تسعى الحكومات الأوروبية أيضاً لتحقيق أهداف مناخية أقل طموحاً، مما قد يؤدي إلى تأخير أو تقليص استثمارات الطاقة المتجددة، وكذلك تخفيف أهداف خفض الانبعاثات. علاوة على ذلك، قد تدمج الأحزاب السياسية السائدة الخطاب القومي في سياستها الاقتصادية، ربما من خلال تنفيذ برامج رعاية تستهدف فئات ناخبة معينة من شأنها زيادة التفاوتات الاجتماعية، أو من خلال ترويج سياسات صناعية حمائية ستجعل من الصعب على الحكومات الأوروبية التوصل إلى تسويات بشأن مشاريع الاتحاد الأوروبي المشتركة.
إلى حد ما، ينطبق الأمر نفسه على مستوى الاتحاد الأوروبي، فمن المحتمل أن تنتج انتخابات حزيران/ يونيو برلماناً أوروبياً أكثر محافظة، ولكنه لا يزال إلى حد كبير معتدلاً، وكذلك لجنة أوروبية ذات تفكير مماثل. وفقاً لاستطلاعات الرأي، من المتوقع أن تحقق القوى اليمينية المتطرفة المشككة في الاتحاد الأوروبي مكاسب كبيرة، لكنها لن تتمكن من السيطرة على المؤسسات الرئيسية للاتحاد الأوروبي. وبينما لن تختلف اللجنة الأوروبية الجديدة بشكل كبير من حيث النهج وأولويات السياسات، سيتعين عليها التعامل مع برلمان أوروبي من المرجح أن يكون أكثر حماية وأقل طموحاً بيئياً، والذي سيكون أكثر تشككاً في تشريعات المناخ وأي مقترحات سياسية قد تؤثر سلباً على القطاعات الصناعية والتصنيعية والزراعية التقليدية. وفوق هذا كله، فإن تزايُد تأثير الأحزاب اليمينية المتطرفة في حكومات بعض الدول الأعضاء سيُعقّد إيجاد توافُق في الآراء داخل الاتحاد الأوروبي بشأن قضايا مثل التوسُّع، والهجرة، وتغيُّر المناخ، والدعم لأوكرانيا.
ترجمة: عبد الحميد فحام
المصدر: (ستراتفور)