عامان على الانتخابات الرئاسية في الصومال: قراءة في الإنجازات والتحديات

عامان على الانتخابات الرئاسية في الصومال: قراءة في الإنجازات والتحديات

2024-05-14
603 مشاهدة
Download PDF

 

تمهيد

الصومال واحدة من الدول العربية والإفريقية التي تشهد انتخابات رئاسية دورية سلمية في معظمها منذ استقلالها في عام 1960م. وتُعَدُّ مسألة انعقاد الانتخابات العامة سِمة بارزة من سمات التاريخ السياسي لجمهورية الصومال المعاصرة رغم تمايُز نماذجها المعتمَدة من عهد إلى آخر، كما عرفت الصومال الانتقال السلمي للسلطة في فترة ما قبل الاستقلال وما بعدها في عهد الحكم المدني (1960م- 1969م)، ومن ثَمّ حققت البلاد تجربة ديمقراطية ريادية في المنطقة، وحظيت بأن تكون أول دولة في القارة الإفريقية تعرف التداول السلمي للسلطة، وطبقت مبدأ فصل السلطات[1]، ومصنفة من أكثر الدول المشهود لها بالانتقالات السلمية للسلطة على مستوى المنطقة[2].

يُلاحَظ تنامي المشاركة الشعبية في الانتخابات الحزبية في الولايات والإدارات الإقليمية أكثر من الانتخابات الرئاسية في مجالس الحكومات الانتقالية والسلطة الفيدرالية في مرحلة ما بعد انهيار الحكومة المركزية.

وحققت الحكومة الصومالية العديد من الإنجازات في ملفات عديدة تشمل الملفّ الأمني والاقتصادي والسياسي، ورغم ذلك تواجه تحديات جسيمة على مستوى الداخل والخارج.

نُلقي نظرة عامة في هذا التقرير على الواقع السياسي للصومال وأهم ما تم إنجازه بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

أولاً: واقع الانتخابات العامة في الصومال

يمكن تقسيم نموذج الانتخابات العامة التي جرت في الصومال حديثاً إلى ثلاثة أنواع رئيسية:

1. انتخابات عامة مباشِرة تميزت بالتعدُّدية الحزبية والمنافسة الصحية، وسادت في عهد ما قبل الاستقلال والحكم المدني للبلاد (1956م- 1969م)، سواء كان ذلك على مستوى الانتخابات الرئاسية أم الانتخابات البلدية أم البرلمانية.

2. انتخابات عامة مباشرة أخرى ساد فيها غياب التعدُّدية الحزبية والمنافسة الانتخابية في عهد حكم العسكر (1969م- 1991م)، وتميزت بمعرفة النتائج مسبقاً قبل إجرائها أو الانتهاء من التصويت فيها.

3. انتخابات غير مباشِرة تمثل نموذجاً هجيناً بين المُحاصَصة العشائرية الأساسية والحزبية الاسمية [3]، واختيار أعضاء غرفتَي البرلمان في مجلسَي الشعب والشيوخ من قِبل زعماء العشائر واللجان العشائرية، ومن ثَمّ اختيار هؤلاء الأعضاء لرئيس الجمهورية بالاقتراع السري في قاعة الانتخابات، وقد سادت تلك الانتخابات في عهد الفترة الانتقالية والحكم الفيدرالي (2000م- 2021م).

ومع اختلاف تلك الفترات التاريخية المتمايزة، اختلفت النماذج الانتخابية المتبعة والقوانين الناظمة المخرجة على تشكيل المجالس التمثيلية؛ حيث تمّ الاعتماد على صيغة نظام القائمة الموحَّدة (Closed List) في الانتخابات المحلية العامة، التي جرت في فترة ما قبل الاستقلال وما بعدها، وصولاً إلى فترة حكم العسكر. وبالطبع، كانت الانتخابات النيابية العامة تتمّ بالاقتراع المباشر لاختيار الأعضاء على مستوى المجالس الممثلة، وتمرّ على ثلاث مراحل متوالية تبدأ بالانتخابات البلدية ثمّ البرلمانية ثمّ الرئاسية، وغالباً ما كانت الانتخابات المحلية أو البلدية تسبق الانتخابات البرلمانية، وتتمّ عَبْر دوائر انتخابية محدّدة سلفاً في مواقعها الجغرافية وموزَّعة وَفْق التقسيمات الإدارية للدولة، ثمّ ينتخب أعضاء البرلمان رئيس الجمهورية في قاعة البرلمان.

وفي فترة حكم العسكر، كان النموذج المعتمَد يُعَدّ نوعاً نمطيّاً خاصّاً وغير معروف بعدُ في الأوساط الانتخابية العامة المعاصرة، وساد في عهده انتخاب الحزب الواحد الحكومي، وكان يأتي منه أعضاء الحزب والبرلمان معاً، وتمّت كتابة الدستور بعد مرور عشر سنوات من الحكم؛ أي في عام 1979م، كما تم إلغاء دستور الحكم المدني الأول الخاضع للاستفتاء الشعبي المباشر.

ولعل مما يبعث على السخرية أن الأمين العامّ -الذي هو أعلى منصب للحزب- هو نفسه الذي كان رئيساً للجمهورية وقائد الثورة مع أن اسم الدولة كان هو "جمهورية الصومال الديمقراطية"[4] في حينها، وبنظام حكم اشتراكي، بينما في فترة الحكم المدني كان اسم الدولة "جمهورية الصومال"[5]. وتميزت الانتخابات في ذلك العهد بانعدام المنافسة، وإلغاء التعدُّدية في الطرح والتقديم، وضمان الفوز المسبق في السباق، وارتفاع نسب الفوز المئوية في النتائج النهائية، وكذلك الفتور في المشاركة الشعبية.

ثانياً: نظام الحكم في الصومال

نظام الحكم في الصومال هو نظام برلماني فيدرالي. ويمثل البرلمان محور العمل السياسي في حكم البلاد؛ حيث ينتخب منه الرئيس، ويأتي منه معظم الأعضاء في التشكيلة الوزارية، ويتولى رئيسه صلاحيات رئيس الجمهورية في حالة غيابه عن البلاد وحدوث فراغ ناتج من حالات طارئة [6]. ووَفْق الدستور المؤقت الحالي، فإن نظام الدولة هو نظام جمهوري ديمقراطي قائم على التمثيل الشعبي الشامل والتعدُّدية الحزبية، وكذلك العدالة الاجتماعية.

وباعتبار أن الدولة فيدرالية في هيكلها البنائي المعتمَد منذ 2012م[7]، فإنها تتكون من خمس ولايات يمثلها أعضاء في الحكومة الفيدرالية، هذا بالإضافة إلى صومالاند ذات الوضع الخاص بسبب انفصالها الأحادي عن الصومال منذ انهيار الدولة المركزية عام 1991م، ومحافظة بنادر التي تحوي العاصمة، ولم تتخذ بعدُ طابعاً قانونيّاً يعطي لها الشخصية المستقلة المماثلة مع الولايات الأخرى القائمة، ومن ثَمّ فهي خاضعة للحكم المباشر من قِبل السلطة الفيدرالية، أو بمعنى آخر فإن جمهورية الصومال الحالية مكونة من سبع إدارات متباينة المستوى في أوضاعها السياسية والقانونية، وتبقى إدارتا صومالاند وبنادر متميزتين عن بقية المناطق والولايات الخمس الأعضاء في الدولة. ويحدّد الدستور المدة الزمنية للدورة الانتخابية بأربع سنوات قابلة للتجديد، وفي نهايتها يتمّ انتخاب أعضاء غرفتَي البرلمان ثمّ الرئيس، ومن ثَمّ يعين الرئيس الوزير الأول ورئيس جهاز القضاء، ويمارس صلاحياته الدائرة في إدارة المجالس التنفيذية والقضائية والتشريعية بالتوازي.

ويُشكّل الوزير الأول مجلسه الوزاري المكوَّن من 55 وزيراً في التشكيلات الأخيرة، ويقوم المجلس الوزاري بتعيين قيادات الجيش والأجهزة الأمنية والسفراء وكبار المسؤولين عموماً في الدولة باعتباره أعلى سلطة تنفيذية، ويعتمدها الرئيس أخيراً لإضفاء الطابع القانوني على تلك التعيينات.

ويتكون البرلمان من غرفتين، تتمثل الأولى في مجلس الشعب وعدد مقاعده 275 مقعداً، يتمّ انتخابهم مباشرة من اللجان العشائرية القبلية، بينما تتمثل الثانية في مجلس الشيوخ، وعدد مقاعده 54 مقعداً، ويتم انتخاب الأخير من قِبل البرلمانات التابعة للولايات حيث يصل عدد المقاعد المجتمعة إلى 329 مقعداً. وقد تمّ انتخاب تلك المقاعد الشعبية في الانتخابات الأخيرة عن طريق 11 مركز اقتراع موزَّعة على 7 دوائر انتخابية على مستوى الولايات الخمس [8]، وللمرأة حصة ثابتة في البرلمان تصل إلى 30%، وهناك لجان فيدرالية ومحلية معينة من قِبل الولايات تتعاون معاً في إعداد وإدارة الانتخابات البرلمانية، بدءاً من إعداد القوائم، وصولاً إلى حل النزاعات الناتجة منها، حتى تتولى اللجنة البرلمانية المخصصة لإدارة الانتخابات الرئاسية. وتعمل تلك اللجنة البرلمانية الخاضعة للإشراف المباشر لرئيس البرلمان المنتخب على إدارة العملية الانتخابية في المرحلة الانتقالية بين تشكيل البرلمان واختيار الرئيس، وتعطي كل مرشح رئاسي فرصة للتحدث المباشر مع أعضاء البرلمان بغرفتيه، وتقديم رؤية حكمه للبلاد قبل الدخول في فترة الصمت الانتخابي والذهاب إلى الجولات التصويتية.

ويعكس النظام الفيدرالي تطوُّراً جدليّاً في اختيار النظام الفيدرالي واللامركزي من المركزية التي سادت البلاد في فترة ما قبل انهيار الدولة عام 1991م، وتمثل سلطة الولايات الحالية بديلاً عن سلطة المحافظات في العلاقة القديمة بين العاصمة والمحافظات. وفي فترة ما قبل الانهيار ووجود الحكم المركزي، عانت المحافظات كثيراً من مركزية القرارات، وتركُّز الخدمات في العاصمة، وتجمُّع سلطة الحكم في يد مسؤول واحد غير منتخَب في كثير من الأحيان، وفي كثير من الأحيان كان يتخذ قرارات فردية غير رشيدة، ومن ثَم تريد الولايات وجود آليات دستورية تحوز بها السلطة، ويقسم الدستور الحالي تلك السلطات الحكومية إلى سلطات عامة للولايات وسلطات محددّة بخمسة محاور رئيسية للسلطات الفيدرالية، ويجعل الحوار وسيلة دستورية لحل الخلافات بينها [9].

ثالثاً: البرنامج الانتخابي وانتخاب حسن شيخ رئيساً للبلاد للمرة الثانية

فاز الرئيس حسن شيخ بـ 214 صوتاً مقابل 110 لمنافسه في الانتخابات التي جرت يوم 15 أيار- مايو 2022م بعد ثلاث جولات متتالية، تنافس في الجولة الأولى 34 مرشحاً، وفي الثانية 4 مرشحين، بتصويت 303 أعضاء برلمانيين من أصل 329 مقعداً [10]، وبذلك أصبح الرئيس العاشر للبلاد منذ الاستقلال، والسادس للدولة منذ إعادة تأسيس الجمهورية الثالثة في عام 2000، كما أنه أول رئيس تتم إعادة انتخابه في رئاسة الجمهورية، كما كان سابقاً أول رئيس انتُخب في داخل البلاد، وذلك في فترة ما بعد الانهيار وسقوط النظام المركزي. واستمرّ تأجيل تلك الانتخابات لأكثر من عام بسبب المشاحنات السياسية بين الشركاء الأساسيين في العمل السياسي الوطني، وساعد على انعقادها تكاتُف القُوى المعارِضة المنسجم مع ضغط المجتمع الدولي، وارتباط استمرار الدعم المالي الدولي بعقد الانتخابات [11]، وفرض الولايات المتحدة قيود سفر على المعرقِلين للعملية الانتخابية [12]. وبموجب النظام الانتخابي المعمول به، فإن الفائز بمقعد رئاسة البلاد هو مَن يحصل على ثلثَي الأصوات من البرلمان (219). وغالباً ما يرجع فوز مرشح رئاسي ما دون غيره إلى قدرته على حشد القاعدة العشائرية، وتحسين علاقته السياسية مع رؤساء الولايات، وبراعته في توظيف الموارد المتاحة عنده لحملته الانتخابية، واستطاعته كذلك طرح برنامج انتخابي يقدم رُؤى حول القضايا السياسية الرئيسية القائمة، واستجابته لهواجس المواطنين واهتمامات المجتمع الدولي بصفته داعماً رئيسيّاً للدولة لأكثر من طريقة وجِهة.

الوعود الانتخابية وتحديد الأولويات

وعد الرئيس حسن في حملته الانتخابية بتوطيد الأمن، وإصلاح جهاز القضاء، وتعميق المصالحة، وتكريس الفيدرالية، وإنعاش الاقتصاد في البلاد، واتباع سياسة خارجية مستقرة تحت شعار "صومال متصالح مع نفسه ومتعايش مع العالم"[13]. وتحولت تلك الوعود بعد انتخابه إلى أولويات حكمه المتمثلة في تحقيق الأمن الداخلي، والعمل على الترتيبات الآمنة لخروج القوات الإفريقية المتمركزة في البلاد منذ قُرابة 20 سنة، والحفاظ على الاستقرار السياسي الذي يؤدي بدوره إلى إحراز التقدُّم في التحديات التي تواجهها الدولة على المستوى العامّ، والعمل على استكمال بناء مؤسسات الدولة غير المكتملة، مثل: الدستور. وتجسدت تلك المعالم في برنامج الحكومة برئاسة حمزة عبدي بري، والتي وافق عليها البرلمان بأغلبية مريحة (220 صوتاً) في آب- أغسطس عام 2022، ومن ثَم فهي باقية كعقد سياسي دائم بين المجلسين: التنفيذي والتشريعي [14]، وتمثل مصدر الشرعية للحكومة الحالية.

رابعاً: الإنجازات والتحديات الحكومية

الملفّ الأمني

يمكن وصف الملفّ الأمني بأنه من أكثر الملفات التي حققت فيها الحكومة إنجازات ميدانية، واستطاعت الحكومة في أول مئة يوم من حكمها شنّ 46 حملة عسكرية متمركزة في المناطق الوسطى والمحيطة القريبة بالعاصمة [15]، وسيطرت كذلك على 215 موقعاً كانت تمثل مقرات كبيرة تستخدمها حركة الشباب كنقطة انطلاق لتنفيذ الأهداف في العاصمة وفي المرافق الحيوية للدولة بشكل عامّ.

وتركز الحكومة على الحلّ العسكري للتعامل مع ملفّ الإرهاب المتمثل بحركة الشباب بالدرجة الأولى، وذلك عن طريق تكثيف القصف الجوي، والتحكُّم في الطرق البرية التي تربط المدن بالقرى، وتعطيل طرق إمداداتهم، واستهداف قياداتهم الأمنية، فضلاً عن حجب المواقع والصفحات الإلكترونية الدعائية [16]. وتؤكد الحكومة على الترابُط الوثيق بين دَحْر الإرهاب وتحقيق التنمية الاقتصادية وتحسين الخدمات الاجتماعية. ونجحت الحكومة نسبياً في حسر سيطرة حركة الشباب، حيث انحصرت مساحة سيطرتها في حدود 15% في المحافظات الوسطى، وخسرت قُرابة 50 بلدة رئيسية [17].

وأطلقت الحكومة حملة واسعة اشتملت على التشديد في مراقبة التحويلات المالية وتجميد الحسابات البنكية التابعة، وتأسيس منصات خاصة وطواقم مخصصة لمكافحة غسل الأموال والاستقصاء على المرافق التجارية التابعة لحركة الشباب أو المتعاونة معهم بطريقة أو بأخرى بالإضافة إلى إطلاق حملات تَوْعوِيّة مجتمعية وعقد مؤتمرات شعبية.

والوجه الآخر من الخطة الحربية هو الاستمرار في تقوية القدرة الذاتية للأجهزة الأمنية والجيش وتحسين مجالات التنسيق والتعاون فيما بينهم، وذلك بهدف التأكد من قدرتها الجهوزية على تولي المسؤولية الأمنية في المناطق المحرّرة مؤخراً وتوسيع نقاط وجودها في مختلف المناطق التي ستنسحب منها القوات الإفريقية مع نهاية العام الجاري، وذلك عن طريق تكثيف البرامج التدريبية، وتوفير المعدات القتالية لهم، وتعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي مع الدول الحليفة، وإيجاد آليات محددّة للاستفادة من قرار رفع حظر السلاح الصادر من مجلس الأمن الدولي [قرار رقم 2714 (2023)] بداية شهر كانون الأول- ديسمبر الماضي[18].

وبالتوازي مع ذلك، تعمل الدولة على رفع جهود تقديم الخدمات الاجتماعية والإغاثية الأساسية للمناطق المحرَّرة، وتشجيع سياسات التعاضُد بين قُوى الجيش وعناصر الميليشيات الشعبية العشائرية، ونجحت في عقد الاتفاق الأمني الثنائي المباشر مع الدول المتعاونة معها في بناء قدرات الجيش الوطني، وتنفيذ تلك الخطة ذات المراحل المتوالية، مثل: الولايات المتحدة، وتركيا، والإمارات، وإريتريا، ومصر، ودولتَيْ جيبوتي وإثيوبيا في فترة ما قبل التوتر الأخير بين الدولتين، وكذلك بريطانيا التي قدمت مؤخراً 6.2 مليون دولار بهدف المساعدة في بناء قدرات القوات الأمنية واستمرار دعم العمليات العسكرية ضد الإرهاب[19].

وتُعتبر الولايات المتحدة من أقوى الحلفاء في برنامج مكافحة الإرهاب، ومن الشركاء الأساسيين للصومال في عملية بناء الجيش الوطني، وهي تعمل مع الصومال في بناء القواعد العسكرية للجيش وتوفير المعدات القتالية والتدريبات العسكرية لبعض الوحدات الخاصة في الجيش بالإضافة إلى تقديم الدعم الإنساني (1.7 مليار دولار عام 2022) من أجل تخفيف أزمة الجفاف والفيضانات الدورية [20]، ومنح مساعدات مالية مباشرة للأجهزة الأمنية؛ وذلك بهدف بناء القدرات وتوفير بعض المعدات اللازمة. وفي فترة ما بين 2010 و2020 قدمت الولايات المتحدة في حدود 3 مليارات دولار إلى الصومال موزَّعة بين المساعدات الأمنية المباشرة إلى القطاع الأمني ودعم القوات الإفريقية (أمنصوم) الموجودة في الصومال منذ 2007. وأرجعت إدارة بايدن الحالية القوات الأمريكية التي سحبتها إدارة ترامب عام 2019 إلى قواعدها في الصومال، ورفعت مستوى التنسيق والتواصل مع الحكومة الحالية، وتوفر إسناداً جويّاً مباشراً إلى الجيش في عملياته القتالية ضد الإرهاب ومعنية بتقديم الدعم الدبلوماسي في قضايا حماية السيادة الوطنية والوحدة الترابية للدولة وتماسُك مفاصل الدولة [21].

 الملفّ الاقتصادي

مع بداية تولِّي الحكومة الحالية مسؤولية الحكم في البلاد، كان اقتصاد البلاد يمرّ بمرحلة صعبة نتيجة تأثُّره بجائحة كورونا والجفاف المؤثر بشدة على الإنتاج الزراعي والصادرات. وكانت مضاعفات الجفاف الأخير الأشد من نوعها في البلاد منذ العقود الأربعة الأخيرة؛ حيث أثر الجفاف على حياة سبعة ملايين مواطن، وأودى بحياة أكثر من 40 ألفاً [22]، كما أنه أدى إلى نزوح أكثر من مليون مواطن، وتراجُع الناتج المحلي إلى 2.4% في عام 2021 مقارنةً بـ 3.3% [23] في 2022. وقد ربطت الحكومة بين محاربة الفساد ومحاربة الإرهاب، وأعلنت أن النجاح في الأول سيؤثر إيجاباً على الثاني، وسيساهم على استعادة الثقة غير المتينة بين الشارع والحكومة. وأدت تلك السياسات إلى قصقصة بعض أجنحة الفساد الإداري ومحاكمة بعض كبار المسؤولين في الدولة وهروب البعض الآخر منهم إلى خارج البلاد والحكم عليهم غيابيّاً بسبب تلك التهم الجنائية.

وإلى جانب ذلك، قامت الحكومة بإعادة تأسيس المجلس الاقتصادي الوطني، الذي يقع على عاتقه مساعدة الدولة في تطوير السياسات الاقتصادية للدولة، والعمل مع المؤسسات الأخرى المالية الحكومية على تسريع الخطوات اللازمة لوضع الخطة التنموية للبلاد، والمساهمة في إنجاز قضايا إعفاء الديون. ونتيجة لذلك تمّ إعفاء البلاد من 4.5 مليار دولار من أصل 5.2 مليار كانت مستحَقة عليها منذ عقود في شهر كانون الأول- ديسمبر الماضي، وذلك بموجب مبادرة لمساعدة الدول الفقيرة المثقلة بالديون التي يشرف عليها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي [24]، وهو ما يعني تمكُّن الصومال من التوجُّه نحو التنمية الاقتصادية وجذب الاستثمار الخارجي والعمل على زيادة الإيرادات المحلية [25].

وبسبب تلك الجهود التراكمية الدائرة في بناء الثقة بين الحكومة والمؤسسات الدولية المالية من جهة، وبين مؤسسات الدولة فيما بينها من جهة أخرى، اعتمدت الصومال في نهاية العام الماضي أضخم ميزانية للدولة الصومالية منذ بداية الفترة الانتقالية، وهي أكثر من مليار دولار، وحققت زيادة لإيراداتها الداخلية بنسبة 20% [26]؛ وذلك نتيجة محاربة الفساد، وتقوية التعاون والتنسيق بين القطاعين العامّ والخاصّ مع توقُّعات بارتفاع نمو الناتج المحلي بنسبة 3.7% في نهاية العام الجاري و3.8% في العام المقبل رغم التحديات المحيطة.

وقد تكون عملية استخراج النفط في أحواض المياه الإقليمية الصومالية المرخَّصة من قِبل الدولة عاملاً إضافيّاً في تنمية اقتصاد البلاد في المرحلة المقبلة. ووَفْق البيانات الصادرة من الشركات الدولية التي قامت على المسح الجيولوجي الزلزالي في تلك المربعات البحرية غير الشاملة على البرية، فإن المورد النفطي الاحتياطي في الصومال يُقدَّر بأكثر من 30 مليار برميل [27]. وتوجد شركات أمريكية وتركية متعاقدة مع الصومال بهذا الخصوص، وتضع تلك التوقُّعات الصومال في الموقع الثالث من حيث الترتيب بعد الجزائر ونيجيريا على مستوى قارة إفريقيا [28]، وفي صدارة قائمة الدول التي تمتلك احتياطات كبيرة في موارد الطاقة بالعالم. ومن المتوقَّع أن تنجح تلك الشركات في استخراج النفط خلال العامين المقبلين أو في نهاية العام الجاري وَفْق الرواية الحكومية [29]، وعندئذٍ سيكون لدى الحكومة فرصة كبيرة لتعزيز اقتصاد البلاد، وتوليد مصادر جديدة ومتنوعة للدخل، واستخدام تلك العوائد المالية لتمويل المشاريع الإنمائية ورفع مستوى الخدمات الاجتماعية، وخلق الوظائف، وتوفير فرص العمل للمواطنين، والتوجُّه نحو التنمية المستدامة، فضلاً عن الاستغناء عن المساعدات الخارجية في كثير من المجالات الحيوية.

الملفّ السياسي

الملفّ السياسي له جانبان: سياسة داخلية توافُقية، وسياسة خارجية مبنية على التعايش السلمي مع العالم والابتعاد عن خلق العداوات الخارجية مع الآخرين. والأولى تقوم على ركيزتين أساسيتين، هما:

تحقيق الاستقرار السياسي، وإنشاء دولة ديمقراطية [30]، وأكد الرئيس منذ بداية فترة حكمه حرصه على استقرار الجبهة الداخلية، والعمل على نبذ الأحقاد السياسية والابتعاد عن سياسة الانتقام، وقد أعلن عفوه عن خصومه في العمل السياسي المشترك، ووقف سياسة المطاردة الأمنية التي تبنتها الحكومة السابقة. واستهلت الحكومة عملها بزيارة إلى الولايات المحلية، ومدّ جسور التواصل مع رؤسائها، والتي كانت شِبه متجمّدة قبل الانتخابات، والتوافُق معهم بالعمل البنّاء على تحقيق أولويات الحكومة المختزلة في تحقيق الأمن العامّ (محاربة الإرهاب وبناء التحالفات الأمنية مع الدول القادرة)، وإنشاء دولة ديمقراطية (استكمال الدستور، وبناء المؤسسات الوطنية). وأصبحت نقطة الالتقاء بين الولايات والسلطات الفيدرالية هي تبديد المخاوف المتبادَلة الناتجة من السباق الانتخابي، وتوحيد مدة الانتخابات في البلاد، سواء كان ذلك على مستوى الولايات أم المستوى الفيدرالي؛ وهو ما أعطى لهم فترة زمنية مديدة للبقاء في مكاتبهم أو الاحتفاظ بمناصبهم وامتيازاتهم الحكومية.

وترتكز السياسة الداخلية للحكومة على المحاور الآتية:

الحفاظ على الوحدة السياسية للدولة

شددّت الحكومة على الحفاظ على الوحدة السياسية للبلاد وحماية السيادة الوطنية للدولة ومنع المساس بها، خصوصاً بعد توقيع مذكرة التفاهم التي جرت بين إدارة صومالاند ودولة إثيوبيا في بداية العام الحالي [31]، وبموجبها استصدرت الحكومة من المنظمات الدولية والتجمعات الإقليمية، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي ومنظمة إيغاد، قرارات مؤيدة متسقة مع دستور البلاد المنصوص على الوحدة الترابية في جمهورية الصومال الفيدرالية [32]. ودعت تلك القرارات -بما في ذلك مشروع إعلان الدوحة الأخير الصادر يوم 30 من نيسان/ إبريل- إلى ضرورة احترام السيادة الصومالية على أراضيها، واعتبار الخطوة الإثيوبية انتهاكاً صارخاً للصومال، وقضية صومالاند شأناً صوماليّاً داخليّاً [33].

وما زال موضوع تلك المذكرة يُشكل مصدر توتُّر دبلوماسي بين الصومال وإثيوبيا، وسبباً مساهماً في استعجال الاتفاق الدفاعي العسكري المبرَم بين الصومال وتركيا [34]. وتطوّر هذا التوتُّر الدبلوماسي بين الصومال وإثيوبيا الجارة إلى مرحلة القطيعة الدبلوماسية بين البلدين بعد إصدار الصومال قرار إغلاق القنصليات الأخيرة المفتوحة في البلاد في اليوم الرابع من نيسان- إبريل، ومطالبة سفيرها بالعودة إلى بلاده، ودعوة سفيرها للعودة إلى البلاد للتشاور [35]. وقد اتخذت الصومال هذا القرار نتيجة تلكُّؤ الأخيرة في الانقياد إلى الدعوات الدولية والقرارات الإقليمية الداعية إلى احترام سيادة الصومال ووحدة أراضيها، وتجاهُلها لموقف الحكومة الصومالية الذي يدعوها إلى التوقُّف عن التعامل المباشر مع الولايات دون المرور عَبْر السلطة الفيدرالية، والامتناع عن الانتهاك الفجّ للسيادة الصومالية.

استكمال بناء مؤسسات الدولة- التعديلات الدستورية

تشمل التعديلات الدستورية تلك التعديلات المعتمدة على الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي؛ حيث سيتم انتخاب الرئيس في المرحلة المقبلة بالاقتراع العامّ، وتحديد عدد الأحزاب الوطنية بثلاثة أحزاب وطنية، والحدّ من الصراعات الدورية المتجدّدة بين الرئيس ورئيس وزرائه عن طريق منح الرئيس سلطة التعيين والإعفاء لرئيس الوزراء من منصبه، والقضاء على الخلافات الفقهية أو المذهبية؛ وذلك عن طريق اعتماد المذهب الشافعي مصدراً للتشريعات الفقهية للدولة. والتعديلات الدستورية الأخيرة المعتمدة هي أربعة فصول من أصل 14 فصلاً تم التوافُق عليها من قِبل اللجان البرلمانية والمستقلة، وتهدف إلى توسيع المشاركة الشعبية، وضبط نقل المحاصصة القبلية إلى الأحزاب الوطنية في الانتخابات المقبلة في عام 2025م، ومعالجة ضعف شرعية المؤسسات السيادية، وخلق وحدة الانسجام بين مؤسسات الدولة، وتعزيز التحوُّل الديمقراطي[36]، وكذلك تقليل مصادر الخلاف المتكرر بين الوحدات الرئيسية لمؤسسات الدولة، سواء كان بين المركز والولايات أم فيما بين المؤسسات المركزية ذاتها، وهي كلها أمور تدخل ضِمن تعزيز التحوُّل الديمقراطي، وتستهدف عمليّاً استكمال بناء الدولة الموحَّدة أو الواحدة.

وبالنسبة للسياسة الخارجية، فإن الحكومة تعمل على تحسين العلاقات مع الدول في العالم، خصوصاً الدول المستعدة لبناء تحالُفات تساعدها في تحقيق أولويات الحكومة المذكورة سابقاً، وتعزيز حضور الصومال في المحافل الدولية، فضلاً عن دفع الصومال إلى الاندماج في المنظومة الإقليمية من أجل التأكيد عمليّاً على هُوِيّة الصومال الثنائية (العربية- الإفريقية)؛ وهو ما انتهى إلى قبول الصومال عضواً ثامناً كاملاً في منظومة مجتمع شرق إفريقيا في شهر تشرين الثاني- نوفمبر من العام الماضي، ورفع علمها في مقر المنظمة في 4 آذار-مارس 2024م[37]. وتسعى السياسة الخارجية الصومالية أيضاً إلى الحفاظ على السيادة في الدولة، وخفض التوتُّر مع دول الجوار، وعدم الانخراط في الأزمات السائدة عند بعض الدول مثل القائمة في إثيوبيا [38]، وعدم الاصطفاف إلى جانب أي تكتُّلات سياسية غير معروفة في غاياتها السياسية، والنأي بنفسها عن سياسة المحاور الإقليمية المنزفة لطاقات الدول النامية. وإلى جانب ذلك تشجع الحكومة على الاستثمار الأجنبي في البلاد، والإسراع في العمل على استخراج النفط، وإيجاد شراكة دولية في الاستغلال الأمثل للموارد البرية والبحرية الأخرى المنتشرة في البلاد وغير المستغَلّة بما يكفي، في غضون ذلك تُواجه الحكومة الكثير من التحديات أبرزها:

1- مواجهة إرهاب شرس

ووَفْق الشهادة الأمريكية، فإن حركة الشباب تُعَدّ أقوى فروع القاعدة وأغناها على المستوى الدولي [39]؛ حيث وصل عدد مقاتليها إلى 12 ألف مقاتل، وكانت تحصل على أكثر من 10 ملايين دولار في الشهر [40] في عام 2022. واستطاعت الحكومة نقل المعركة إلى أماكن تواجُد الحركة، وتعطيل حرية حركتهم من مكان إلى آخر، ولكنها لم تتمكن بعد من كسر شوكته ومنعه من القدرة على إعادة تجميع نفسه وعمل اختراقات عملياتية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة [41].

وبشكل عامّ، فإن التنظيمات الإرهابية المسلحة معروفة بقدرتها على السرعة في تعبئة الذات وتحمُّل الصدمات القتالية واستجماع القُوى الحربية عند تعرُّضها للانتكاسات الميدانية مقارنة بالجيوش النظامية التي توجد لديها بيروقراطية جامدة في بعض الدول، وتتطلب أخذ موافقات حلزونية في تحرُّكاتها الميدانية واعتمادات مبنية على حسابات سياسية، وبالذات الجيش الوطني الذي يتكوّن من وحدات قتالية غير منسجمة في بنائها التنظيمي ومنقسمة إلى فِرَق نظامية وغير نظامية جمعها الميدان، كما يعاني الجيش من صعوبات لوجستية معقَّدة للغاية، ويمرّ بمرحلة انتقالية من جيش غير نظامي إلى جيش محترف موحَّد البِنْية.

2- توتُّرات متجدّدة بين المركز والولايات

توجد توتُّرات سياسية شِبه دائمة بين السلطة الفيدرالية والولايات، وهي بطبيعتها متكررة بين الجانبين منذ التحوُّل إلى النظام الفيدرالي في عام 2004 رغم تغيُّر القيادات السياسية في كل من المستويين، كما توجد توتُّرات أخرى منكشفة من حينٍ لآخر فيما بين الوحدات الرئيسية للولايات ذاتها إلى درجة إعلان انشقاق بعض المحافظات عن الولاية الواحدة، مثل الوضع القائم في ولايتَيْ هرشبيلي (هيران) وجوبالاند (جدو). والقاسم المشترك بين تلك التوتُّرات جميعاً هو تنازُع القوة والتجاذُب في الحكم بين النُّخَب السياسية والتدافُع القَبَليّ في الحكم، ويتصل معظمها بوجود مظالم سياسية قديمة لم تَجِد بعدُ معالجات شافية، وتطفو على السطح من حين لآخر عند الشروع في إجراء الانتخابات أو تقاسُم السلطة والموارد [42].

بالإضافة إلى ذلك، تبرز الصراعات السياسية أكثر عند تناقُض مصلحة الدولة مع مصالح الدول غير الصديقة واتخاذ أحد المجالس في السلطة الفيدرالية قراراً عامّاً، وتتهم السلطات الفيدرالية الولايات بالتمنُّع عن التعاون معها في توحيد نظام جمع الإيرادات والجمارك ودمج عمل أجهزة القضاء والجيش والأمن وضبط الحدود وحماية سيادة الدولة، أو بمعنى آخر عدم مساعدتها في ممارسة صلاحياتها الدستورية بما يتماشى مع مصلحة الدولة الوطنية، بينما تتهم الولايات السلطات الفيدرالية بالاستفراد بالقرارات المصيرية أو اتخاذ خُطوات تؤثر في حياتها المباشرة دون التشاوُر في مفرداتها.

وتُعَدّ التعديلات الأخيرة بمنزلة معالجات سياسية هادفة إلى تقليل مساحة الخلاف المتكرر بين السلطات الفيدرالية والولايات، وإيجاد مخارج قانونية يمكن الاحتكام إليها عند الحاجة. والتوتُّر المستجدّ الأخير بين ولاية بونتلاند ومقديشو هو مثال عملي على طبيعة الأزمة السياسية الدورية بين الولايات والسلطة الفيدرالية، ومن الممكن أن يشتدّ عودها مع الاقتراب من نهاية الفترة الدستورية للنظام الحالي (2026)، وغياب حلول وسطية وتسويات قانونية. وهناك احتمال كبير أن نشهد غيرها في المرحلة التالية بين مقديشو وبعض الولايات الأخرى، وذلك مع اقتراب موعد الانتخابات العامة في الولايات والسلطات الفيدرالية المجدوَلة في نهاية العام الحالي ودوامة الأزمة الدبلوماسية بين إثيوبيا والصومال.

وهناك نقطتان يجب التوقُّف عندهما في تناول العلاقات غير المستقرة دائماً بين السلطة الفيدرالية والولايات. النقطة الأولى: هي أن بعضاً من الولايات الأعضاء في السلطة الفيدرالية، مثل: ولاية بونتلاند، تمّ تأسيسها في عام 1998 قبل إعادة تأسيس الجمهورية الثالثة في عام 2000 القائمة في البلاد منذ تلك الفترة، ويوجد عندها دستور غير متوائم بعدُ مع دستور الدولة الفيدرالية، وبُني تأسيسها ذلك على ذاكرة نظام مركزي استبدادي تميز باتخاذ قرارات سياسية غير رشيدة في بعض الأحيان، ومن ثَمّ فهي متخوفة من عودة أي سلطة مركزية في حكم البلاد[43]، بينما تم تأسيس بعض الولايات الأخرى كحلول سياسية مؤقتة تعكس رغبة غياب أو تغييب دور السلطة الفيدرالية وإرادة دول تبحث عن شريك محلي يكون بالنسبة لها حاجزاً منيعاً يساعدها في الحدّ من انتقال عدوى الإرهاب إليها[44]، ومن ثَمّ توجد حالة من رخاوة المفاصل في البِنْية الهيكلية للدولة. والنقطة الثانية: هي أنه لا توجد مرجعية قانونية، مثل المحكمة الدستورية في البلاد، والتي من الممكن أن تحتكم إليها السلطة الفيدرالية والولايات معاً في حالة نشوب خلافات دستورية بينهما، ومن ثَمّ يكون الخيار المتاح هو الدخول في حوار سياسي يغيب عنه في الغالب مبدأ حسن النوايا المسبقة، وقد يمكن أن يمتد ذلك الحوار إلى آماد طويلة، ولا يترتب عليه أي مخارج قانونية يمكن أن تكون ملزِمة لأحد الأطراف المتحاورة.

3- عجز في ميزانية الدولة

تُعَدّ دولة الصومال من ضِمن الدول الأكثر فقراً في العالم. وميزانية الحكومة فيها مدعومة دوليّاً في أكثر من 50% من قِبل شركائها الدوليين، وهو دعم ازداد مع زيادة حجم الإيرادات السنوية للحكومة بنسبة قياسية في العام الأخير [45]، وهي في الأساس منقسمة إلى مخصَّصات الخدمات الاجتماعية والدفاع والأمن والتنمية الاقتصادية للمؤسسات الحكومية. ويُعَدّ العجز المالي في الميزانية الحكومية السنوية أحد التحديات الثابتة المشتركة التي تواجهها الحكومات الصومالية المتعاقبة، وخاصة الحكومات الانتقالية منها.

ويصل العجز في الميزانية السنوية الحالية إلى نحو 38 مليون دولار مع أن الميزانية الأخيرة هي الأضخم في البلاد منذ عقود. وغالباً ما تكون الهُوَّة بين الموارد المالية المتاحة للحكومة وأولويات الحكومة متسعة، وتوجد شروط معينة من قِبل الداعمين الدوليين للاستخدام المشروط للدعم الممنوح للحكومة، والتي قد لا تلتقي في بعض المرّات مع اهتمامات الحكومة الضرورية، وتُقيِّد خطة الحكومة العملياتية وتُؤخِّر استجابة الحكومة في بعض التحديات العاجلة. ويزداد العجز المالي مع زيادة الكثافة في عمليات مكافحة الإرهاب، وتعدُّد بُؤَر الأزمات السياسية وجبهات اشتعال النار، ومحدودية تنوُّع مصادر الدخل والإيرادات بشكل عامّ المحصورة حالياً في العاصمة، ومن ثَمّ تسعى الحكومة إلى إيجاد حلول تساعدها في سدّ العجز في الميزانية الحكومية السنوية، وتخطط الحكومة لتأمين مصادر دخل متنوعة والقدرة على جمع الإيرادات من جميع أنحاء البلاد للعمل بها بما هو مشترك بين جميع المكونات السياسية للدولة.

خاتمة

تمرّ الصومال بمنعطف تاريخي يمكن وصفه بأنه خطير ومهم للغاية لأكثر من سبب، وتُعَدّ السنتان الماضيتان من السنوات الفاصلة في تاريخها السياسي الطويل والمتقلِّب بين أكثر من نظام سياسي متمايز في هُوِيّته السياسية. وقد حققت الحكومة بعض الإنجازات السياسية والإستراتيجية التي من المأمول أن تؤدي إلى مسار جديد يكون بداية لدولة مستقرة مترابطة الأجزاء في مكوِّناتها السياسية ومتماسكة في مفاصلها البَيْنِيّة في مؤسساتها الفيدرالية الدستورية، ونهاية لحِقْبة سياسية تميزت بترقيع الحلول من خارج حدود البلاد وفرضها في الداخل. وفي حال نجحت الحكومة في التغلب على التحديات التي تواجهها في المرحلة الحالية، وتحويل الإنجازات من الواقع النظري إلى الواقع العملي، فإن ذلك سيكون بداية لتأسيس جمهورية خامسة للصومال الجديدة بعد الجمهوريات الأربع التي مرّت بها البلاد، وستتحوّل من دولة متداعية الأركان إلى دولة مؤسساتية مستقرة متماسكة البِنْية. وبناءً على التعديلات الدستورية الجديدة، ستكون الصومال مع نهاية الفترة الدستورية جمهورية جديدة يكون نظام حكمها رئاسياً لأول مرة في تاريخ حياتها السياسية بدلاً من النظام البرلماني الذي عاشته البلاد طوال العقود الستة الماضية؛ وهو ما يمثل حلماً مشتركاً بين أبناء البلاد بشكل عامّ، وتؤكد الحكومة الحالية مجدَّداً برئاسة رئيس وزرائها التزامها الثابت بالعمل على ذلك، وسعيها الدائم إلى تحقيقه.

 

يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)

الهوامش: 

[1] د. عبد القادر معلم محمد جيدي، الفيدرالية في الصومال: دراسة تقييمية، متابعات إفريقية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، العدد 3، حزيران- يونيو 2020، الرابط.  

[2] محمد مصطفى جامع، قراءة في الانتقال السلمي للسلطة، نون بوست، 27 أيار- مايو، 2022، الرابط.

[3] مصدر سابق، Afyare Elmi.

 [4] دستور جمهورية الصومال الديمقراطية، المادة الأولى، النسخة الإنجليزية الرابط. ، ويُعرف هذا الدستور بدستور79، وهو ثاني دستور في البلاد بعد الأول الذي تمّ إصداره عام 1960م، وهو الوحيد الذي خضع للاستفتاء الشعبي العامّ من بين الدساتير الستة للبلاد.

[5] دستور جمهورية الصومال 1960م، المادة الأولى، النسخة الإنجليزية ، الرابط.   

[6] جمهورية الصومال الفيدرالية 2012، المادة الأولى، النسخة الإنجليزية ، الرابط.

[7] الصفحة الرسمية لمنظمة الأمم المتحدة، الرابط.  

[8] نور جيدي، الصومال.. نظام انتخابي معقد وفريد من نوعه. (إطار)، الأناضول، 1 كانون الثاني- يناير 2022، الرابط.

[9] د. عبد القادر محمد شيخ شيء لله، نظرات على التغييرات الدستورية في الصومال، 18 أيلول- سبتمبر 2016، شبكة صومال اليوم، الرابط.

[10] انتخاب الرئيس السابق حسن شيخ محمود رئيساً للصومال، الجزيرة نت، 16 أيار- مايو 2022 ، الرابط.

[11] صهيب محمود، الانتخابات الصومالية: 2022م قراءة في نتائجها وتحديات الحكومة الجديدة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 13 حزيران- يونيو 2022م، الدوحة- قطر، الرابط.

[12]US Restricts Visas for Somali Officials Accused of Undermining Democracy Link  

[13] عبد الرحمن عيسى، الرئيس الصومالي الجديد: وعود انتخابية وملفات غير متماسكة، مركز الصومال للبحوث ودراسة السياسيات، 30 أيار- مايو 2022، الرابط.

[14] بعد نَيْله ثقة مجلس الشعب: رئيس وزراء الصومال يكشف عن برنامج حكومته، صفحة الصومال الجديد، 26 حزيران- يونيو 2022، الرابط.

[15] معاوية فارح، بوصلة "الانتقال الأمني".. الصومال ينشد دعماً دوليّاً لبناء جيشه، جريدة العين الإخبارية، 13 كانون الأول- ديسمبر 2023 ، الرابط.

[16] عبد القادر محمد علي، حرب الصومال الشاملة على حركة الشباب.. الإنجازات والتحديات، الجزيرة نت، 28 آذار- مارس 2024، الرابط.

[17] حرب بلا هوادة، مكافحة الإرهاب في الصومال في ظل رئاسة شيخ محمود، مركز الإمارات للسياسات، وحدة دراسات القرن الإفريقي، 3 كانون الثاني- يناير2023 ، الرابط.

[18] قرار مجلس الأمن رقم 2714 المتعلق برفع حظر السلاح عن الصومال الصادر في 1 كانون الأول- ديسمبر 2023، الرابط.

[19] محمد ديسان، بريطانيا تقدم 6.2 مليون دولار لدعم الصومال في مكافحة الإرهاب، الأناضول، 20 كانون الأول- ديسمبر 2023 ، الرابط.

[20] US. Embassy In Somalia: United States Remain Committed to Defeating Al-shabab and Supporting a more Stable Somalia , February 17 , 2024, Link.

[21] Elias Yousif: US Security Assistance to Somali , Understanding the long history of US. Military Aid to Somali amidst in surge of fighting, March 2023 , Stimon , Link.

[22] صفحة منظمة الأمم المتحدة، 20 آذار- مارس 2023، الرابط.

[23] البنك الدولي يتوقع أن ينمو اقتصاد الصومال بنسبة 3.8 بحلول عام 2025م، موقع الصومال الجديد، صفحة الأخبار، 4 كانون الأول- ديسمبر 2023 ، الرابط.

[24] رزان سلمان، إلغاء 99% من ديون الصومال يعزز آمال التعافي الاقتصادي، الصفحة العربية لـ CNN الاقتصادية، 15 آذار/ مارس 2024، الرابط.

[25]  صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يوافقان على إعفاء الصومال من ديون بقيمة 4.5 مليار دولار، الصومال الجديد، 14 كانون الأول- ديسمبر 2023، الرابط.

[26] الحكومة الصومالية توافق على ميزانية البلاد، صفحة الأخبار، موقع الصومال الجديد، 29 تشرين الأول- أكتوبر 2023، الرابط.

[27] قاسم سهل، استخراج النفط بالصومال لأول مرة نهاية العام.. موعد تاريخي، الجزيرة نت، 21 آذار- مارس 2024، الرابط.

[28] بعد الاتفاق الدفاعي: تركيا تضع يدها على نفط الصومال، صحيفة العرب- لندن، 18 آذار- مارس 2024 ، الرابط.

[29] وزير البترول يكشف موعد أول إنتاج نفطي من حقول بحرية في البلاد، الصومال الجديد، 17 شباط- فبراير 2024م ، الرابط.

[30] محمد عبده حسنين، حسن شيخ محمود.. "رجل المفاجآت: أمام اختبار "الفرصة الثانية"، جريدة الشرق الأوسط، 27 أيار- مايو 2022، الرابط.

[31] سيد عمر معلم عبد الله، مذكرة التفاهم الموقَّعة بين صومالاند، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- أفروبوليسي، 8 كانون الثاني- يناير 2024، الرابط.

[32] البيان الصادر من القمة الـ 42 غير العادية لمنظمة إيغاد المنعقدة في كمبالا- أوغندا، 18 كانون الثاني- يناير 2024، النسخة الإنجليزية، الرابط.

[33] خطاب مبعوث الولايات المتحدة في شؤون القرن الإفريقي في قمة إيغاد، السفير مايك همبر في القمة غير العادية لمنظمة إيغاد الأخيرة، 18 كانون الثاني- يناير 2024م، الصفحة الرسمية لبعثة الولايات المتحدة في السودان، الرابط.

[34] الصومال تُوقّع اتفاقاً مع تركيا لحماية مياهها الإقليمية وبناء قوة بحرية، الجزيرة نت، صفحة الخبر، 21 شباط- فبراير 2024، الرابط.

[35] Somalia Expels Ethiopian Ambassador, orders closure of two Consulates , Voa news , O4th April , 2024 Link.

[36] أحمد صديق، التعديلات الدستورية وتداعياتها على الاستقرار في الصومال، أفروبوليسي، 3 آذار- مارس 2024.

[37] Luke Anami: Somalia Gains Full Membership of East Africa Community, East African Journal, March 4 2024. Link.

[38] البيان الإنجليزي الصادر من مقر مجتمع شرق إفريقيا في مدينة أروسا- تنزانيا، 4 آذار- مارس 2024.

[39] قائد القوات الأمريكية في إفريقيا يكشف عن أسباب تصاعُد تهديدات حركة الشباب في الصومال، الصومال اليوم، 23 كانون الثاني- يناير 2022، الرابط.

 [40]  Ido Levy: Return of Old Leader Presents New Opportunities in Somali ,The Washington Institute for Near East Policy, May 26, 2022 Link.

 [41] Somali:Making the most of the Eu-Somalia Joint Roadmap, International Crisis Group, 30 January , 2024 Link.

[42]  Somali: Making the most of the Eu-Somalia Joint Roadmap, International Crisis Group, 30 January , 2024 Link.

[43] الخلاف مع بونتلاند عثرة جديدة أمام بسط الهيمنة الاتحادية في الصومال، صحيفة العرب- لندن، 1 نيسان- إبريل 2024.

[44]  Jubaland in jeopardy: The Uneasy path to state-building in Somalia, 21 May 2013, International Crisis Group (ICG) Link.

[45]  Farhia Mahamud: Review of the Federal Government of Somalia's First Billion-dollar Budget for 2024, Somali Governance Brief 29, Somali Public Agenda, April 2024 Link.