كيف يمكن أن تُوظّف الولايات المتحدة رغبة موسكو في تحقيق الاستقلالية للتفوُّق على الصين؟

كيف يمكن أن تُوظّف الولايات المتحدة رغبة موسكو في تحقيق الاستقلالية للتفوُّق على الصين؟

2023-10-16
775 مشاهدة

في إصدارها الجديد، نشرت مجلة الـ"فورين أفيرز" النصف شهرية تحليلاً بعنوان "ما الذي تريده روسيا حقاً؟ كيف يمكن لرغبة موسكو في تحقيق الاستقلالية أن تمنح أمريكا ميزة على الصين؟" بقلم الباحث توماس غراهام تحدث فيه عن ظروف روسيا الاتحادية الصعبة التي مرّت بها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وعن علاقتها بالتنين الصيني المتسمة بالتحالف حيناً والتنافس أحياناً أخرى، وخاصة بعد عزلة موسكو عن الغرب، ومن ثَمّ يدلف الكاتب إلى الحديث عن التكتيكات الأمريكية المتوقع تنفيذها من أجل تحويل العدوان الروسي واحتمال انهزامها إلى فرصة يمكن من خلالها للولايات المتحدة أن تحقق تفوُّقاً على بكين.

نص الترجمة:

مع استمرار الحرب في أوكرانيا، يصعب تصوُّر وجود علاقة بنّاءة بين روسيا والغرب، ويزيد من صعوبة تحقيق هذا التصور العداء الذي لا يتوقف من قِبل الكرملين تجاه الغرب. وحتى إذا تم إفشال الخطط الإستراتيجية لروسيا –وهو أمر غير مؤكد، خاصةً مع التطور البطيء وغير المؤكد للهجوم المضاد المنتظر في أوكرانيا- فإن روسيا لن تختفي من المشهد العالمي كلّياً؛ لأنه حتى روسيا المهزومة ستحتفظ بأراضٍ واسعة في قلب أوراسيا، وأغنى موارد طبيعية في العالم، وترسانة نووية هائلة، بالإضافة إلى مقعد دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مع حق النقض. سواء أعجبنا ذلك أم لا، يجب على الولايات المتحدة أن تجد طريقة للعيش مع روسيا.

تميل واشنطن إلى رؤية سلوك موسكو على أنه تهديد مستمر وضارّ لمصالح الولايات المتحدة، تطول قائمة انتهاكات روسيا وتؤكد صورة العدو الذي لا يمكن التسوية معه، ومن أهم تلك الانتهاكات: الحرب في أوكرانيا، والتدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة، والهجمات السيبرانية على البنية التحتية الحيوية، والحملات العالمية لترويج المعلومات المضللة المعادية لأمريكا، والغش في اتفاقيات الحدّ من انتشار الأسلحة، وبناء ترسانة الأسلحة في المنطقة القطبية، بالإضافة إلى التقارب الإستراتيجي المتزايد مع الصين وإيران، ودعم الديكتاتور السوري الوحشي، بشار الأسد، ومع ذلك، هناك عنصر أساسي في هوية روسيا يمكن أن تستخدمه الولايات المتحدة لمصلحتها، ألا وهو رؤية روسيا لنفسها كقوة عظمى تمارس سياسة خارجية مستقلة بغية تحقيق مصالحها الوطنية، فلطالما رأت روسيا نفسها كدولة ذات استقلال إستراتيجي، بمعنى أن لديها الحرية في تكوين التحالفات للدفاع عن مصالحها وتعزيزها. وهذا كان مبدأً أساسياً في السياسة الخارجية الروسية منذ القرن الثامن عشر، وبقي كذلك سواء خلال فترة روسيا القيصرية أو الاتحاد السوفيتي، وحتى بعد نهاية الحرب الباردة، ظلت روسيا تسعى لهذه الاستقلالية، وتوجهت إلى الصين كوزن إستراتيجي لمواجهة الولايات المتحدة وهي تسعى لإعادة بناء نفوذها في الإمبراطورية السوفيتية السابقة.

على مدى عقود، عارضت الولايات المتحدة جهود موسكو لدعم الاستقلال الإستراتيجي الروسي، ونظراً للعداء بين البلدين، والذي تزايد في أعقاب الغزو الروسي الوحشي والواسع النطاق لأوكرانيا، فقد يكون من الصعب تصوُّر حدوث تحوُّل في موقف واشنطن، بكل الأحوال، يبدو أن سعي روسيا إلى الاستقلالية يوفر للولايات المتحدة ميزة محتملة للاستفادة منها في منافستها مع الصين، ومن خلال التخلّي عن الجهود الرامية إلى تحويل روسيا إلى دولة منبوذة دولياً واستعادة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية، يمكن لواشنطن استخدام موسكو للمساعدة في خلق توازنات قوى إقليمية عبر أوراسيا لصالح المصالح الأمريكية، وبالتالي بينما تعمل الولايات المتحدة مع حلفائها وشركائها لإحباط روسيا في أوكرانيا، يجب عليها مع ذلك البدء في النظر في الخطوات التي يمكن أن تحافظ على استقلال روسيا الإستراتيجي في المستقبل، خاصة تلك التي من شأنها أن تُقلِّل من اعتماد موسكو المتزايد على بكين.

ثلاثة عقود صعبة:

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، واجهت موسكو صعوبة في استعادة استقلاليتها الإستراتيجية، وفي ظل أزمة اقتصادية عميقة، كان الغرب هو الوحيد القادر على توفير الاستثمار والمهارات الإدارية والتكنولوجيا التي كانت روسيا بحاجة إليها، ولذا لم تكن موسكو في موقع يسمح لها بمقاومة واشنطن -من وجهة نظر الروس- عندما تدخلت في مصالح روسيا في البلقان، ووسعت حلف الناتو شرقاً نحو حدودها، أو تدخلت في امتيازاتها في الإمبراطورية السوفيتية السابقة من خلال دعم القوى السياسية، خاصة في جورجيا وأوكرانيا، التي اعتبرتها روسيا معادية، انزعجت موسكو من تصرفات الولايات المتحدة، وفي بعض الأحيان اشتكت بشكل كبير منها، ولكن في النهاية، وبدون أي خيار إستراتيجي آخر، قبلت بالواقع، من المؤكد أن روسيا واصلت تحسين علاقاتها مع الصين، وهي سياسة بدأت في الفترة السوفيتية الأخيرة لمنع بكين وواشنطن من التحالف ضد موسكو. لكن في التسعينيات، كانت الصين لا تزال في المراحل الأولى من صعودها وكانت تعتمد على حسن نيّة الولايات المتحدة، لم تكن بكين لديها الوسائل أو الميل لتكون وزناً إستراتيجياً موثوقاً لصالح موسكو.

تحسنت الوضعية الروسية في العقد الأول من هذا القرن، وازدادت قوة روسيا حيث أعاد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ترتيب أوراقه، وساهمت أسعار النفط المرتفعة في تحفيز الانتعاش الاقتصادي، كما ظهرت تصدُّعات في تحالف الغرب، حيث قاومت كل من فرنسا وألمانيا النهج المتعدد الأوجه الذي اتخذته الولايات المتحدة تجاه العراق، في الوقت نفسه، زاد نمو الصين القوي من تأثيرها الاقتصادي العالمي، وبدأت طموحاتها الجيوسياسية تتجاوز المحيط الهادئ الغربي، عبر قارة أوراسيا، وصولاً إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية.

أدى التقارب المتزايد مع فرنسا وألمانيا والصين إلى تشجيع روسيا على الردّ بقوة أكبر على ما اعتبرته سياسات ومبادرات عدائية من الولايات المتحدة، في عام 2008، شنّت موسكو حرباً محدودة ضد جورجيا لإفشال طموحات هذه الدولة نحو الانضمام للناتو، وأظهر النزاع بوضوح عزم روسيا على مقاومة التجاوزات الأمريكية، كما فعلت عندما ضمت شِبه جزيرة القرم في عام 2014. حتى أثناء تقدُّم قواتها في جورجيا، استمرت موسكو في الحفاظ على علاقات اقتصادية واسعة مع الدول الأوروبية، والتي شكلت تقريباً نصف التجارة الثنائية لروسيا وثلاثة أرباع الاستثمار المباشر الأجنبي فيها، كما استمر التعاون المتوتر مع واشنطن في مجال مكافحة الإرهاب وعدم الانتشار النووي، مكنت هذه الوضعية موسكو من الحفاظ على علاقات متوازنة مع بكين على الرغم من الفجوة الاقتصادية المتسعة بسرعة التي كانت تميّز الأخيرة، وكانت روسيا تحصد فوائد استعادة استقلالها الإستراتيجي.

لكن موسكو عرّضت هذا التقدم للخطر، وأدى عدوانها المتزايد على أوكرانيا، بدءاً من عام 2014 وبلغ ذروته بغزو شباط/ فبراير 2022، إلى قطع العلاقات مع الغرب. وانهارت حصة أوروبا من إجمالي التجارة الروسية، وانخفضت الاتصالات الدبلوماسية إلى حدها الأدنى، ورغم أن العقوبات لم تغير السلوك الروسي أو تشل الاقتصاد الروسي، فإن الغرب يواصل فرضها بينما يزيد مساعداته العسكرية والمالية والإنسانية لأوكرانيا.

أصدقاء ومنافسون

بعد أن تم عزلها من قِبل الغرب، ازداد التجاء موسكو أكثر فأكثر إلى الحضن الصيني. لكن على الرغم من ترويج الكرملين لتحالفه الإستراتيجي الوثيق و"الصداقة بدون حدود" مع الصين، إلا أن الواقع ليس بهذه الوردية، لقد قدمت بكين دعماً دبلوماسياً لموسكو، ولكنها امتنعت حتى الآن عن تقديم المساعدات العسكرية القاتلة، على الرغم من زيادة الصين لحجم التجارة مع روسيا واستبدال سلعها بالسلع الاستهلاكية من الشركات الغربية التي غادرت موسكو، إلا أنها ترددت في إجراء استثمارات كبيرة في روسيا خوفاً من العقوبات الغربية، في الوقت نفسه، استغلت بكين عزلة موسكو عن الغرب لإبرام صفقات تجارية بناء على شروط تُفضل مصالحها بشكل غير معقول، كما وسعت الصين روابطها التجارية في آسيا الوسطى على حساب روسيا.

لدى الصين وروسيا تاريخ طويل من العلاقات المضطربة، الأمر الذي تم التغاضي عنه بعد انتهاء الحرب الباردة. تستمر الصين في تفوقها على روسيا اقتصادياً وعسكرياً: ففي أوائل التسعينيات، كان اقتصادَا البلدين تقريباً متساوييْنِ، لكن الاقتصاد الصيني الآن أكبر بعشر مرات ولا يزال ينمو، لذا يحتاج الكرملين إلى وزن مكافئ للصين للحفاظ على استقلالية روسيا الإستراتيجية، وبسبب العزلة عن الغرب، تتطلع روسيا إلى أوراسيا الكبرى والجنوب العالمي. تأمل موسكو في إعادة توجيه المؤسسات التي لعبت دوراً رئيسياً في إنشائها بعد الحرب الباردة لمواجهة الغرب، وخاصةً منظمة التعاون في شنغهاي ومجموعة دول البريكس، لإقامة شبكة من العلاقات لكبح جماح الصين، حيث تقوم موسكو بتوسيع علاقاتها الدبلوماسية والتجارية والأمنية مع الدول غير الغربية، خاصة في إفريقيا والشرق الأوسط، وتسعى للحفاظ على علاقاتها التقليدية المقربة مع الهند. لكن الواقع القاسي هو أنه لا يمكن تكوين وزن مضاد إستراتيجي موثوق من أي مجموعة من الدول في تلك المناطق، التي تفتقر إلى الوزن الاقتصادي والقدرة التكنولوجية والقوة العسكرية. إذا أرادت روسيا تجنب التبعية الإستراتيجية للصين، فلا يمكنها الاعتماد على التجمعات متعددة الأطراف التي ليس لها فرصة في مواجهة المؤسسات العالمية التي يهيمن عليها الغرب، ولا يمكن لروسيا الاعتماد على العلاقات الثنائية مع الدول الأضعف منها. الخيار الحقيقي الوحيد، إذاً، هو الغرب، وبشكل أساسي، الولايات المتحدة، فقط واشنطن وشركاؤها يمكنهم توفير الفرص التجارية والتعاون التكنولوجي والخيارات الجغرافية السياسية التي تحتاجها روسيا للحفاظ على استقلاليتها الإستراتيجية وتجنب أن تصبح شريكاً دائماً للصين.

بوتين لن يعترف بهذه الواقعية أبداً ففكره المعادي لأمريكا متجذر بعمق، وقد ربط مصيره بإحكام مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، مما يجعله لا يسعى لفتح قناة تواصُل مع الولايات المتحدة، حتى لو كان ذلك مفيداً إستراتيجياً إلا أن القادة الروس في المستقبل لن يكونوا مثقلين بنفس القيود النفسية والسياسية. التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة هو إقناع هؤلاء القادة بأن الغرب يمكنه مساعدة الكرملين في الحفاظ على استقلاليته الإستراتيجية. يجب على واشنطن أن تقدم عرضاً لاستعادة الاتصالات الدبلوماسية العادية وإعادة فتح الأسواق الغربية أمام التجارة والاستثمار الروسي. في الوقت نفسه، يجب أن تتبنى نهجاً بنّاءً تجاه مخاوف الأمن الروسي وتوفير مكان محترم لروسيا ضِمن هيكلية الأمن الأوروبي - كل ذلك بشرط أن توقف موسكو عدوانها على أوكرانيا -على الأقل- من خلال وقف قصف المدن والبلدات، والموافقة على وقف إطلاق النار، والمساعدة في التحضير للمفاوضات من أجل تسوية دائمة، ستكون هذه الصفقة مفيدة لروسيا على الساحة العالمية، لمنحها استقلالاً إستراتيجياً حقيقياً، ومن جهتها ستحقق واشنطن ميزة على بكين من خلال حرمان الصين من شريك إستراتيجي يمكنها استخدامه كإسفين تدقّه بين الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في الغرب.

الترتيبات التكتيكية:

قد يعترض البعض قائلاً: إن الولايات المتحدة ليس لديها سبب وجيه لمساعدة روسيا المعادية في الخروج من مأزق من صنع يدها، لكن الاستقلال الإستراتيجي الذي تتمتع به روسيا من شأنه أن يجلب أيضاً فوائد إستراتيجية كبيرة للولايات المتحدة. ومن الواضح أن ذلك من شأنه أن يخفف، وإن لم يكن بالضرورة، من التحالف الإستراتيجي الوثيق بين روسيا والصين، وقد سمح هذا التقارب للصين باستغلال عزلة روسيا عن الغرب لتعزيز قدراتها، وقد تمكنت بكين من الوصول بأسعار مخفضة للغاية إلى الموارد الطبيعية الحيوية البعيدة عن متناول البحرية الأمريكية، وقد حصلت على معدات عسكرية متطورة ليست قادرة بعدُ على إنتاجها بنفسها، بما في ذلك نظام إنذار متطور للصواريخ الباليستية، وهو قَيْد الإنشاء حالياً، وعندما يكتمل المشروع، فإن الصين وروسيا والولايات المتحدة فقط هي التي ستمتلك مثل هذه الأنظمة، ومع استقرار الحدود في الشمال وعدم وجود حاجة ملحّة للقلق بشأن نوايا روسيا الإستراتيجية، تستطيع الصين التركيز على التنافس ضد الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

كحدّ أدنى، من شأن المزيد من الاستقلال الإستراتيجي أن يساعد في ضمان أن أي صفقات - جيوسياسية، أو سياسية، أو تجارية، أو تكنولوجية – ستقوم بإتمامها روسيا مع الصين بشكل أكثر توازناً وأقل ترجيحاً لصالح الصين، وتقلل من التفوّق الذي قد تكتسبه بكين في تنافسها مع واشنطن، علاوة على ذلك، فإن استقلال روسيا بشكل أكبر على المستوى الإستراتيجي من شأنه أيضاً أن يفتح المجال أمام ترتيبات دبلوماسية وتجارية جديدة في آسيا الوسطى، وشمال شرق آسيا، والقطب الشمالي، وعلى الرغم من أن هذه الترتيبات من شأنها أن تعقد حسابات الصين، إلا أنها لا تحتاج إلى أن تكون موجهة ضد بكين، وبدلاً من ذلك، يمكن إدراج الصين في العديد من التحالفات المخصصة التي يتم إنشاؤها للتعامل مع مسائل بما في ذلك منع الانتشار النووي، ومكافحة الإرهاب، والأمن الإقليمي، لكنها ستساعد في ضمان عدم قدرة الصين على استغلال ضعف روسيا للسيطرة على هذه المناطق على حساب الولايات المتحدة.

اللغز الذي تواجهه واشنطن هو كيفية جعل الخيار الغربي جذّاباً لموسكو دون مكافأة عدوانها أو تعريض المصالح الأمريكية في أوروبا للخطر، وبعبارة أخرى، فإن التحدي يكمن في الموازنة بين حاجة الولايات المتحدة لدعم روسيا وتعزيز استقلال أوكرانيا وأمن أوروبا، ومن غير المرجَّح أن تتصالح روسيا مع الغرب إذا استمرت الولايات المتحدة في إصرارها على ضرورة تخلّي موسكو عن الأراضي الأوكرانية التي استولت عليها، وتقديم مساهمة كبيرة في إعادة إعمار أوكرانيا، وقبول توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً.

لن يتسنَّى تحقيق ذلك إلا إذا ظلّ الغرب متّحداً خلف أوكرانيا، وإذا أحرزت قوات كييف تقدماً على ساحة المعركة، في هذه الحالة، بدلاً من الضغط من أجل هزيمة روسيا الكاملة والمذلّة، يجب على الولايات المتحدة أن توضح للكرملين أنها مستعدة للتعامل بشكل بنّاء مع مخاوفها الأمنية، ورفع العقوبات، وتشجيع استعادة العلاقات التجارية لروسيا مع الغرب، ومن الممكن إحياء تدابير الحدّ من الأسلحة التي تخلّت عنها روسيا أو الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة - بما في ذلك معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، ومعاهدة القوات النووية متوسطة المدى، ومعاهدة الأجواء المفتوحة - وتكييفها مع الحقائق الحالية، في هذا السيناريو، يجب على واشنطن وشركائها أن يظلّوا منفتحين على إعادة بناء علاقات الطاقة بين أوروبا وروسيا، ولكن دون السماح لأوروبا بالعودة إلى حالة الاعتماد المُفرط على روسيا، ويتعين على زعماء روسيا أن يجدوا عرضاً بمكانة محترمة في أوروبا يصب في مصلحتهم إلى حد كبير، وخاصة إذا كان البديل هو الهزيمة المؤلمة.

مما لا شك فيه أن كثيرين سوف ينتقدون أي جهد من هذا القبيل لتحقيق المصالحة، وخاصة دول البلطيق، والبولنديين، والأوكرانيين، وسوف تعترض أيضاً شرائح من الجمهور الأمريكي الذين أصبحوا ينظرون إلى روسيا على أنها "تهديد مستمر"، كما تسميها إستراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن، وسوف يرفضون أي جهد أمريكي لمساعدة روسيا في الحفاظ على استقلالها الإستراتيجي باعتباره مكافأة لعدوانها عندما يكون الهدف هو هزيمة روسيا وإضعافها، بحيث لا تعود قادرة على تهديد أوروبا، ولتخفيف هذه المخاوف، ينبغي على واشنطن أن تُظهر -بالأقوال والأفعال- التزامها بحلف شمال الأطلسي باعتباره أساس الأمن الأوروبي ضد أي عدوان روسي في المستقبل.

لا تستطيع الولايات المتحدة أن تنظر إلى روسيا من خلال المنظور الأوروبي فحسب، ويتعين عليها أن تُقدِّر الأدوار المتنوعة التي تلعبها روسيا في مختلف أنحاء أوراسيا، إن النصر الكامل في أوكرانيا من خلال الهزيمة الساحقة لروسيا من شأنه أن يخلق مشاكل إستراتيجية للولايات المتحدة في أماكن أخرى، وعلى الرغم من اشمئزازها من سلوك موسكو، ستظل واشنطن بحاجة إلى روسيا قوية بما يكفي للسيطرة بشكل فعّال على أراضيها وإنشاء توازُنات قوى إقليمية في آسيا لصالح واشنطن، ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تخشى القوة الروسية، بل يتعين عليها بدلاً من ذلك أن تفكّر بشكل خلّاق في كيفية تسخير نقاط القوة والمصالح والطموحات الروسية لتعزيز مصالحها وطموحاتها، وباعتبارها القوة المتفوِّقة، لا ينبغي للولايات المتحدة أن ترى أن هذه مهمة مستحيلة.

 

ترجمة: عبد الحميد فحام

المصدر: (مجلة فورين أفيرز)