سياسة نتنياهو: الهروب إلى الأمام وتمديد الحرب وسط تضارُب الرُّؤَى حول مصير غزة
2023-12-181415 مشاهدة
Download PDF
ملخص
على الرغم من منحها فرصة لنتنياهو للهروب إلى الأمام، فقد أدت عملية "طوفان الأقصى" إلى تفاقم الأزمة السياسية في إسرائيل، مع تراجُع شعبية نتنياهو وائتلافه الحاكم، كما أثرت الحرب على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية نتيجة وجود خلافات بين الإدارة الأمريكية الحالية وإدارة نتنياهو بشأن أهداف العمليات في غزة ومستقبل القطاع.
تدفع تهديدات اليمين الإسرائيلي الديني بالانسحاب من الحكومة في حال إيقاف الحرب، نتنياهو إلى بذل كل جهده في الاستمرار في الحرب ومقاومة الضغوط الهادفة إلى إقرار هدنة أو تهدئة.
وترى العديد من الأوساط الإسرائيلية أن الدعم الأمريكي لإسرائيل يأتي مقابل شروط وتحفظات تضمن تمرير أجندات واشنطن، بما في ذلك فرض أجندات متعلقة بإعادة قطاع غزة ليكون تحت حكم السلطة الفلسطينية، بل وحتى التخلص من نتنياهو وحماس معاً، لكن إدراك اليمين الإسرائيلي ونتنياهو بدورهم لذلك، يجعلهم أكثر حذراً ومقاومة للضغوط، مما يُعقّد من أي عملية لتغيير نتنياهو وإدارته رغم تراجُع شعبيته.
تحاول هذه الورقة الإحاطة بالمشهد، وتقديم نبذة عن الوضع السياسي الداخلي الإسرائيلي، وتداخله مع السياسة الخارجية الأمريكية، وحتى الوضع الداخلي الأمريكي على اعتبار أن استمرار بايدن أو قدوم الجمهوريين يمكن أن يغير من طريقة التعامل مع نتنياهو.
تمهيد
أفرزت عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها حماس على مستوطنات غلاف غزة، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تداعيات حادّة على صورة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهوBenjamin Netanyahu، على مستويات عدة، لا يُستثنى منها تاريخه الشخصي، وخلقت دعوات لا تتوقف من جانب أحزاب المعارضة والشارع والكُتَّاب وأصحاب الرأي، وشخصيات محسوبة على حزب الليكود لاستقالته، هذا بخلاف مشكلات عدة، هدَّدت سلامة الائتلاف الحاكم بمكوناته اليمينية المتطرفة، ولا سيما حين بدأت باكورة المساعدات الإنسانية دخول قطاع غزة، بفعل ضغوط أمريكية وإقليمية. إخفاقات إسرائيل في "طوفان الأقصى"، وما أعقبها من أداء عسكري وسياسي خلال الحرب، والتي سُمِّيت "السيوف الحديدية"، لم يرتقِ إلى مستوى تطلعات الشارع والمراقبين الإسرائيليين، لكنها لم تكن وحدها سبباً في الأزمة التي تُهدِّد بقاء الائتلاف، فتلك الأزمة تمتد جذورها للأيام الأولى لإعلان نتنياهو نجاح تشكيل حكومته.
ومنذ انتخابات الكنيست الإسرائيلي، في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، والتي أدَّت إلى صعود حكومة "الليكود"، اليمينية، بمكونات تضم تيار "الصهيونية الدينية" اليميني القومي، والتيار "الحريدي" المتشدد دينياً، يواجه نتنياهو انتقادات جراء توافُقه مع تلك الأحزاب على تمرير أجندات سياسية اصطدمت بموقف الشارع الإسرائيلي ذاته، ولا سيما الأوساط اليسارية، وعلى رأسها ملف الإصلاح القضائي. هذا الملف المثير للجدل، أدى إلى تداعيات على الأرض ظاهرة للعيان، شملت تظاهرات ومسيرات احتجاجية لا تتوقف، بلغت ذروتها حين انضمت إليها وحدات عسكرية، واحدة تِلْو الأخرى.
وفي الجانب الآخر، لم تكن واشنطن بمعزل عن الأوضاع السياسية المتردية؛ إذ دعت حكومة إسرائيل إلى الكفّ عن سياسات إشعال الأرض، وعدم المضيّ قُدُماً في تطبيق أجندات الأحزاب الائتلافية الرامية لتوسيع الكتل الاستيطانية وتنفيذ اقتحامات ممنهجة لساحات الأقصى، وعمدت إلى طمأنة حلفائها بالشرق الأوسط بأنها لا تدعم السياسات التي تنتهجها تلك الحكومة، كما سيرد لاحقاً.
في غضون ذلك جاءت عملية "طوفان الأقصى" وما أعقبها لتكتب فصلاً جديداً في مسار العلاقات بين البلدين؛ إذ هبَّت أمريكا لدعم إسرائيل عسكرياً، ووفرت لها الغطاء السياسي لما قالت إنه حقها في الدفاع عن نفسها، إلا أن هذا الدعم اصطدم من جديد بأجندات يمينية متطرفة في إسرائيل، ترنو لإعادة احتلال قطاع غزة وترحيل السكان قسراً إلى سيناء، ويُضاف إلى ذلك، الأوضاع التي آلَ إليها سكان غزة وحجم الدمار الذي تسبب في ضغوط داخلية على واشنطن، ما أوجد أرضية لحديث عن تضارُب مصالح بين إسرائيل والولايات المتحدة، الأمر الذي دفع واشنطن لمحاولة تقييد سياسات نتنياهو في إطار محاولة ضبطها لإيقاع المنطقة عموماً بما يمنع توسُّع الصراع.
كلمات مفتاحية: بنيامين نتنياهو، طوفان الأقصى، حماس، إسرائيل، أمريكا، قطاع غزة، السيوف الحديدية
أولاً: المشهد السياسي الإسرائيلي ومدخَلات الأزمة
ما قبل "طوفان الأقصى"
شكَّل نتنياهو في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2022 حكومته بعدد نواب لم يتجاوز 64 نائباً من أصل 120، ينتمون لحزب "الليكود" اليميني، إضافة إلى حزبين حريديين (شاس ويهدوت هاتوراه) الأصوليَّيْنِ، فضلاً عن أحزاب تيار "الصهيونية الدينية" اليميني القومي، أحدهما كتلة تحمل الاسم ذاته، أي "الصهيونية الدينية" بزعامة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش Bezalel Smotrich، والثاني حزب "عوتسما يهوديت" الراديكالي المتطرف، بزعامة وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير Itamar Ben-Gvir، أُضيف إليهما حزب هامشي هو "نوعَام" الأصولي المتطرف، ومن ثم وُصِفت هذه الحكومة بالأكثر تطرُّفاً منذ عقود([1]).
وانشغل نتنياهو طوال 10 أشهر بمحاولة إرضاء الأحزاب الائتلافية وتنفيذ أجنداتها، والتي أثارت احتقان الشارع الإسرائيلي، وتسببت في تظاهرات من جانب داعمي اليسار، انضم إليها ضباط من الجيش ووحدات عسكرية؛ للاحتجاج على قانون الإصلاحات القضائية، والذي هدَّد بسلب صلاحيات المحكمة العليا، ولمعارضة تدشين جهاز "الحرس الوطني"، الذي سعى الوزير بن غفير لتدشينه ([2]).
تلك المُلابسات تركت قناعة بأن الإخفاق الإسرائيلي إبان "طوفان الأقصى" بدأ يوم شكَّل نتنياهو حكومته. فالحكومة تخوض معارك ضد النظام الديمقراطي وضد المحتجين والمعارضة، وغير قادرة على مباشرة مهام عملها منذ تشكُّلها، في ظل حالة من التخوين والشقاق الداخلي والشَّرْذَمة، وكلها أمور يمكن رصد تسليط الضوء عليها في الإعلام الإسرائيلي، ومن ذلك صحيفة "معاريف"، التي سلطت الضوء في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الصلة بين إخفاقات "طوفان الأقصى"، وبين مواقف اليمين المتطرف الذي يقود المشهد السياسي، والتي قوضت الحريات بحسب الصحيفة، وبلغ تطرُّفها ذروة خطيرة، منها إقالة قائد شرطة تل أبيب، لرفضه كسر أيدي المتظاهرين الإسرائيليين. أمَّا زعيم كتلة "الصهيونية الدينية" الوزير سموتريتش، فتسبب بدوره في أضرار اقتصادية حادّة، قبل الحرب؛ ونجمت عن سياساته المالية أزمات منها: انخفاض قيمة العملة المحلية، وإهدار ملايين الشواكل على الأحزاب المتشدِّدة دينياً ([3]).
المسؤولية عن "طوفان الأقصى"
عُدَّ تحمُّل نتنياهو المسؤولية عن فشل منع "طوفان الأقصى" أو التصدي لها، على رأس الأسباب التي دفعت الإسرائيليين للاعتقاد بأن عليه الاستقالة، بعد أن اقتنع الشارع بأن الإخفاق الأمني والاستخباري والعسكري والسياسي، تسبب في نجاح حماس في اقتحام مستوطنات غلاف غزة، ومن ثَمّ العودة بعشرات الرهائن الإسرائيليين. وعكست استطلاعات رأي موقف الإسرائيليين المشار إليه، ومن ذلك استطلاع معهد "ديالوغ" الإسرائيلي للبحوث، في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، والذي وجد أن 84% من الإسرائيليين، على قناعة بأن تسلل حماس للمستوطنات يُعَدّ إخفاقاً يُنسب للقيادة السياسية، بينما رأى 79% ممن صوتوا لصالح أحزاب الائتلاف في آخِر انتخابات، أن نتنياهو يتحمل المسؤولية ([4]).
الأداء خلال "السيوف الحديدية"
- ملفّ الأسرى والمفقودين: حمَّلت عائلات الأسرى الإسرائيليين نتنياهو مسؤولية فشل إعادة ذويهم لفترة امتدت قرابة 45 يوماً منذ بَدْء الحرب (حدثت صفقات تبادُل بعد ذلك)، ومن ثَمّ بدؤوا حراكاً يتجاوز الحكومة، وتوجهوا إلى جهات خارجية، منها على سبيل المثال رئيسة اليونان، كاترينا ساكيلاروبولو Katerina Sakellaropoulou، وبابا الفاتيكان فرانسيس Pope Francis؛ لحثهما على التدخل لإعادة ذويهم، كما أن المئات من ذوي الأسرى نظموا أيضاً مسيرات احتجاجية لاستشعارهم أن الحكومة تعجز عن حلّ الأزمة ([5]).
- تصفية حماس (نظرياً): واجهت حكومة نتنياهو أزمة غير سهلة؛ إذ وضعت هدفاً للحرب البرية وهو تصفية حماس وسلطتها، على رأس أولويات حرب "السيوف الحديدية"، فضلاً عن استعادة الأسرى. تلك الأهداف لم تتسق مع رؤية مراقبين كُثر، منهم محلل شؤون الأمن القومي بصحيفة "يديعوت أحرونوت"، رونين بيرغمان Ronen Bergman، الذي رأى أن سياسات رئيس الوزراء الرامية لتحقيق الهدفين في آنٍ واحدٍ، هي سياسات غير متسقة، ولا يمكن تحقيق الهدفين معاً، لكن قد يتحقق هدف واحد فقط على حساب الآخر ([6]). أمَّا مستشار الأمن القومي الأسبق، مئير بن شابات Meir Ben-Shabbat، فقد حذَّر من فشل إسرائيل في استئصال حماس والقضاء على سلطتها، لأن الأمر سيعني خطراً وجودياً وخللاً في ميزان الردع العسكري في مواجهة دول تَعُدّها إسرائيل معادية ([7]).
- منظومة صناعة القرار: مع تقدُّم الحرب البرية، ولا سيما في شمال غزة، سادت انطباعات بأن نتنياهو فشل في تصفية حماس، ولم يستغل تفويض الشارع الإسرائيلي له لقيادة الحرب، رغم أن الشارع ذاته يحمله المسؤولية عن إخفاقات "طوفان الأقصى". ومن مؤشرات هذا الفشل هو بقاء زعيم حماس يحيى السنوار، قادراً على إدارة مفاوضات بشأن الأسرى، من موقف قوي، وكل ذلك يعني أن الحكومة الإسرائيلية لا تُبلغ الشارع بكل الحقائق، وتلك تساؤلات عكسها الإعلام العبري ([8]). كما تزامن قرار إدخال شحنات الوقود إلى غزة، بضغوط أمريكية، كما سيرد لاحقاً. مع جدال حادّ داخل الحكومة الإسرائيلية، بين الليكود، وبين الشركاء من اليمين المتطرف، أي جناح "الصهيونية الدينية"، والذي هُمِّش دوره واُستُبعد من قرارات الحرب، ومن ثَمّ رأى أن القرار كارثي، يتنافى مع أهداف الحرب، وبرَّر زعيم الكتلة سموتريتش رفضه للقرار بأنه يهدد حياة الجنود الإسرائيليين، وتعهَّد ألا يبقى بمعزل عن اتخاذ قرارات الحرب([9]).
- صفقات التبادُل ذاتها: قادت الصفقة الأولى التي توسَّطت بها مصر وقطر برعاية أمريكية إلى تحرير 50 أسيرةً وطفلاً إسرائيلياً على دفعات، مقابل 4 أيام هدنة، مُدِّدت يومين، إلا أن فكرة الهدنة ذاتها أثارت قلق أوساط سياسية ذات صلة، منهم مَن أعرب عن امتعاضه ورأى أنها تشكل خطراً على الجنود. وعلى سبيل المثال، المحلل العسكري يوسي يهواشوع Yossi Yehoshua، قدَّر عَبْر صحيفة يديعوت أحرونوت في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر، أن الهدنة ستفقد الجنود الزخم القتالي، وستعني صعوبة عودتهم إلى الحرب من وضع السكون، وتعني أن يد حماس هي العليا ([10]). أمَّا المحلل السياسي أريئيل كاهانا Ariel Kahana، فأشار إلى أن مجلس الحرب الإسرائيلي يدرك جيداً خطورة الهدنة؛ لأنها تُمكّن حماس من تنظيم صفوفها، وربما التخطيط لهجوم مضاد ([11]).
ثانياً: حرب غزة ومآلات الدعم الأمريكي لإسرائيل
حددت واشنطن حزمة مساعدات لإسرائيل تقدر بقُرابة 14.3 مليار دولار، ليمكنها مواصلة الحرب دون أن تُستنزَف، أو للتحسب لتصعيد على جبهات أخرى، دون أن تعاني عجزاً في المعدات والذخائر ([12]). تلك المساعدات في المُجمَل لن تصل إسرائيل كسيولة مالية، إنما ستستفيد منها شركات بعينها سواء في إسرائيل أو أمريكا، فضلاً عن قسم سيذهب إلى مستشارين وخبراء عسكريين، حيث تركز على تعزيز أنظمة الدفاع الجوي، ويُضَخ قسم منها لتصنيع المزيد من راجمات "القبة الحديدية"، فضلاً عن الصواريخ الاعتراضية من طراز "تامير". ويمكن استخلاص عدد من الملاحظات المتعلقة بالمساعدات ([13]):
- تهدف المساعدات إلى نشر المزيد من وحدات نظام "القبة الحديدية" المضاد للصواريخ قصيرة المدى، فضلاً عن المُسيَّرات، بنسبة الضِّعْفين، على أن تدبر واشنطن مخصصات مالية لتصنيع 100 وحدة جديدة، وما لا يقل عن 14 ألف صاروخ اعتراضي جديد.
- كما تهدف إلى إدخال 25 بطارية صواريخ جديدة إلى الخدمة، ليبلغ إجمالي المخصصات المالية التي ستُضَخ لتعويض القسم المستهلك من وحدات "القبة الحديدية" وصواريخ "تامير"، إضافة إلى نظام "مقلاع داود" الدفاعي، بكلفة تُقدَّر بقُرابة 4 مليارات دولار.
- تُوجَّه 3 مليارات دولار لتدشين خط تصنيع الوحدات الجديدة من "القبة الحديدية"، ومليار دولار لنظام "مقلاع داود"، ولتمويل شراء 650 صاروخَ "Stunner"، والمعدات التي تحتاجها المنظومة، والتي تشارك في تصنيعها شركة RTX الأمريكية.
- حزمة المساعدات ستصبّ في النهاية في مصلحة شركتَيْ أنظمة رفائيل الدفاعية المتقدمة (في إسرائيل) وعملاق صناعة الدفاعات الجوية RTX Corp (في أمريكا)؛ إذ ستباشر الشركتان تصنيع أجزاء الصواريخ، وكذلك شركة "بوينغ" الأمريكية.
- تخصص 320 مليون دولار لشراء قنابل ذكية من طراز SPICE، ويُستقطَع قسم من القيمة الإجمالية للمستشارين العسكريين، كما تشمل المساعدات تسهيل استخدام مخزون الاحتياطي الإستراتيجي الأمريكي في إسرائيل.
غيرَ أن حزمة المساعدات الأمريكية والخُطوات الأخرى التي باشرتها واشنطن لدعم تل أبيب، لم تمرّ بهذه السهولة، كما أنها كانت في مقابل انخراطها بشكل فعّال في القرار السياسي والعسكري للحرب، ومن ثَم امتلاك القدرة على كبح جماح إسرائيل أو تصحيح مسارات العمليات العسكرية والسياسية والأبعاد الإستراتيجية التي تشهدها تلك الساحة، ومن ثَمّ يمكن رصد محددات الدعم الأمريكي في النقاط التالية:
الانتخابات الرئاسية
تُعَدّ الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة من المحدِّدات والعوامل الرئيسية التي شكلت موقف الرئيس جو بايدن Joe Biden من الحرب في غزة؛ إذ يعني دعم إسرائيل ورقة رابحة تُرضِي اللوبي اليهودي صاحب التأثير الكبير في صناعة السياسة الأمريكية، ومن ثَمّ جاء دعم بايدن الكبير والغطاء السياسي الذي منحه لإسرائيل تحت يافطة الدفاع عن النفس ([14]). لكن هذا المنظور لم يكن وحده هو المؤثر؛ إذ واجه بايدن ضغوطاً بشأن الدعم الأحادي لإسرائيل من داخل الحزب الديمقراطي ذاته، ومن ثَمّ وقفت مسألة خسارة الناخبين الديمقراطيين من بين أسباب التحول الأمريكي من الدعم غير المحدود إلى الموقف المتحفظ الراغب في تمرير أجندة بعينها، تشمل إعادة السلطة الفلسطينية لغزة ومنع احتلال القطاع وإدخال بعض المساعدات الإنسانية ([15]). أضف إلى ما سبق أن زعماء الجالية الإسلامية من عدة ولايات هدَّدوا بسحب دعمهم، وطالبوا بايدن بالدعوة إلى وقف الحرب، ومن ذلك زعماء ديمقراطيون مسلمون في ولاية ميشيغان ومينيسوتا وأريزونا وويسكونسن وفلوريدا وجورجيا ونيفادا وبنسلفانيا، وجميعهم طالبوه بوقف الحرب أو خسارة دعم المجتمع العربي الأمريكي ([16]).
الصراع الجيوسياسي
وقف موقف موسكو من الحرب، في ظل صراعها الجيوسياسي مع واشنطن، من بين أسباب الدعم الأمريكي السريع لإسرائيل؛ بُغيةَ احتواء الأزمة في مهدها قبل انخراط أطراف أخرى. ويمكن رصد أوجُه شَبَه بين الموقف الأمريكي الضاغط على إسرائيل؛ لقبول وقف إطلاق النار خلال "السيوف الحديدية"، وبين موقفها في عام 1973، حين تسببت ضغوط الاتحاد السوفياتي في تحوُّلات بالموقف الأمريكي. ومن ثَمّ يمكن النظر إلى إرسال حاملة الطائرات الأكثر تطوُّراً في أسطول البحرية الأمريكية "غيرالد فورد" إلى إسرائيل بأنه ليس بالمجان، إذ تريد واشنطن توجيه الدفّة استباقاً لتفاقُم الأمور مع موسكو، التي ستبحث عن منفذ تتسلل منه إلى ما يحقق مصالحها بالمنطقة ([17]).
وتخطَّى الأمرُ مسألةَ دعم إسرائيل ذاتها إلى سعي واشنطن لحماية مصالحها الإستراتيجية، وهو ما حذَّر منه على سبيل، المحلل العسكري يوسي يهوشواع، الذي رأى أن إرسال حاملتَيْ طائرات ومشاركة وزير الخارجية الأمريكية في اجتماع "الكابينيت" الإسرائيلي وتصريحات بايدن الداعمة ليست بالمجان، فالوزير الأمريكي يشارك ليصادق على الخطط، ويراجع أساليب العمل، ويعطي تأكيداته وتعليماته الخاصة. مشاركة بلينكن جاءت كمؤشر على أن الأمريكيين أخذوا على عاتقهم قيادة الحرب بما يتوافق مع مصالحهم الإستراتيجية ([18]).
وفي المجمل، تنتمي إسرائيل للمحور "الأمريكي-الغربي"، وهذا المحور يواجه محوراً آخر يضم روسيا وإيران والصين، في وقت يتسابق المحوران على امتلاك أكبر قدر ممكن من النفوذ حول العالم. ومن ثَمّ سيمكن وضع الدعم الأمريكي في إطار دولي، وحرب محاور تهدف إلى تحجيم نفوذ محور إيران وروسيا والصين ([19]).
الخبير الإسرائيلي عامي روحكيس دومبي Ami Rojkes Dombe، قدَّر أن إرسال حاملات الطائرات والسفن الحربية الأخرى لم يأتِ من أجل حماية إسرائيل فحَسْبُ، إنما جاء ضِمن حرب على الساحة الجيوسياسية؛ من منطلق أن هجوم حماس على إسرائيل، إلى جانب الغزو الروسي لأوكرانيا بمثابة الأحداث المجتمِعة التي تكدَّست لتصنع كتلة حَرِجة تُهدِّد المحور الغربي، وبعد أن تبين أن إسرائيل ستصبح حلقة ضعيفة في المحور الغربي بأسره ([20]). كما عدَّ وصول حاملة الطائرات الأمريكية والقوة القتالية المصاحبة لها، رسالة أمريكية لمنظمة حزب الله ولإيران، بأنه في حال اتساع دائرة المعارك بين الجيش الإسرائيلي، فإن واشنطن ستتدخل في الحرب، ولم تُخْفِ العديد من التقارير الإسرائيلية وغيرها أن الوجود الأمريكي بالمنطقة إنما جاء لردع إيران وحزب الله ومنعهما من الانخراط في الحرب ([21]).
خارطة طريق ما بعد الحرب
وقفت مسألة عدم امتلاك إسرائيل لخارطة طريق أو إستراتيجية خروج من غزة على رأس أسباب الخلاف الأمريكي الإسرائيلي، فواشنطن تخشى أن بقاء الجيش الإسرائيلي لسنوات طويلة سيُترجَم إلى خسائر فادحة، كما أنه في حال نجحت إسرائيل في تدمير سلطة حماس، ستواجه انتفاضة شعبية فلسطينية، وبناءً على ذلك، طالبت الولايات المتحدة إسرائيل بوضع خطط استباقية للخروج بالقوات العسكرية من القطاع، لكن إسرائيل لم تحدد لها أهدافاً واقعيةً للحرب، أو معايير إعلان نجاح هذه الحرب وتحقيق أهدافها، ومن ثَمّ زاد انخراط واشنطن لفرض المعايير التي تحددها هي وليست إسرائيل([22]). واشنطن أبدت أيضاً تأييدها لإعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة، في وقت تعارض إسرائيل ذلك، وترى أن السلطة بوضعها الراهن عاجزة عن حكم غزة، وتدريجياً غدت اللهجة الأمريكية أكثر حِدَّة، وعلّق بايدن بقوله: إن احتلال قطاع غزة "خطأ كبير"([23]).
هذا الموقف عكسه المؤرخ آفي بارئيلي Avi Bareli، رئيس معهد بن غوريون للدراسات الإسرائيلية الصهيونية؛ إذ رأى أن إمكانية موافقة نتنياهو، على إعادة السلطة إلى غزة عقب الحرب، يعني استبدال خطر بآخر ([24]). كما هُرِع منسق شؤون الشرق الأوسط بالبيت الأبيض، بريت ماكغورك Brett McGurk، إلى إسرائيل، في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر، لتلقي إفادات حول فرضية احتلال غزة عوضاً عن المقترَح الأمريكي، فأبلغه نتنياهو أنه بالإمكان مثلاً قبول فكرة أخرى وهي نشر قوات دولية ([25]).
العديد من التقارير والتحليلات رصدت رؤية أمريكية بحتمية فرض حلّ الدولتين، الأمر الذي عكسه خبراء كُثر، من بينهم خبيرة شؤون الشرق الأوسط، أورلي أزولاي Orly Azoulay، التي وجدت أن سياسات بايدن إزاء الحرب، وسعيه لإنقاذ إسرائيل تأتي مقابل توجيه أمريكا لبوصلة السياسة الإسرائيلية، وقدرت أن واشنطن لن تتردد في فرض حل الدولتين ([26]). في المقابل تتحفظ واشنطن على فكرة عودة إسرائيل لاحتلال غزة، أو ترحيل السكان قسراً، وتضغط باتجاه عودة السلطة الفلسطينية، وحل الدولتين خلال ولاية بايدن الحالية؛ لأن سقوطه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وفي حالة عودة الجمهوريين، سيعني فشل هذا الطرح ([27]).
ثالثاً: نتنياهو وتصدُّع الائتلاف الحاكم (مخرَجات الأزمة)
في مهد إنشاء حكومة نتنياهو، وبالتحديد في 7 كانون الثاني/ يناير 2023، قام وزير الأمن القومي بن غفير بأول اقتحاماته لساحات الأقصى، ما خلق بوادر أزمة بين واشنطن وتل أبيب تنضم إلى المشكلات الناجمة عن إعلان حكومة نتنياهو بشأن توسعات في مستوطنات الضفة، أضف إلى ذلك انسداد الأُفق السياسي بشأن حل الدولتين. في تلك الفترة تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً، يطالب محكمة العدل الدولية بالنظر في مسألة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومن ثَمّ قررت إسرائيل إجراءات عقابية بحق السلطة الفلسطينية في رام الله، وكل ذلك تسبب في انزعاج البيت الأبيض ([28]).
في هذه الأثناء، قاد مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي، جاك سوليفان Jake Sullivan اتصالات ضِمن محاولة لحل الخلافات مع حكومة نتنياهو مبكراً. كما قاد وزير الخارجية أنتوني بلينكن Antony Blinken اتصالات مع الأردن لاحتواء الموقف وتثبيت تعهُّد البيت الأبيض بالحفاظ على الوضع الراهن بالقدس. وهنا ظهرت أصوات إسرائيلية حادّة، ومنها الدبلوماسي السابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية، ألون ليئيل Alone Leal، الذي فسَّر الموقف الأمريكي على أنه بادرة تقارُب البيت الأبيض مع السلطة الفلسطينية، كأداة أمريكية للضغط على نتنياهو ([29]).
أمَّا المرحلة الثانية من الأزمة، فظهرت مع أول تحفُّظ أمريكي على الحرب الإسرائيلية على غزة، بعد تضارُب مصالح واضح بين أهداف تل أبيب وبين سياسات واشنطن، وبالأخص قضية مصير غزة عقب الحرب وقضايا أخرى تخصّ الوضع الميداني والإنساني في غزة. وانعكست تلك الخلافات على الائتلاف الإسرائيلي، فتيار "الصهيونية الدينية" بمعزل عن قرارات مجلس الحرب، وهذا المجلس لا يضم أياً من ممثليه، يجد في كل مرة قرارات لم يتفِقْ عليها مع هذا المجلس، وقد مرت بفعل الضغط الأمريكي، ومن ذلك على سبيل المثال: قرار إدخال الوقود إلى غزة أو كل أنواع المساعدات الأخرى، وكذلك الهدنة وصفقة تبادُل الأسرى إضافة إلى مصير قطاع غزة عقب الحرب ([30])، ويمكن رصد التحولات التي شهدتها العلاقة بين الأحزاب الائتلافية في ظل الحرب على غزة كالتالي:
1- الصهيونية الدينية
طالب زعيم كتلة "الصهيونية الدينية"، بتغيير تشكيلة مجلس الوزراء المصغر لإدارة قرارات الحرب، وضم ممثلين عن الكتل الداعمة لاحتلال غزة، عَبْر خطاب أرسله إلى نتنياهو في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر، طالب بوقف تنفيذ قرار إدخال الوقود الذي وصفه بـ "الفضيحة". أضف إلى ذلك تحذير الوزير ذاته من أنه وكتلته لن يقبلوا بعد الآن باستبعادهم من وضع السياسات التي تتعلق بالحرب، ودعوته لتعيين ممثلين من كل الأحزاب الائتلافية، وتقديره بأن القرار لا يُعَدّ قانونياً، ويحول دون الانتصار في الحرب([31]).
2- الجناح الراديكالي
وزير الأمن القومي لم يتورع عن انتقاد نتنياهو والجيش الإسرائيلي في نفس الإطار، إذ طالب بالوقف الفوري لما عدها تسهيلات مُنحت لسكان غزة، وهاجم مندوبي المؤسسة العسكرية، وعبَّر خلال اجتماع الحكومة في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر عن موقفه بأن كل تسهيل سيتبعه تسهيلات أخرى([32]).
3- تجاذُبات احتلال غزة
عضو الكنيست سموتريتش أرسل خطاباً لوزير الدفاع يوآف غالانت Yoav Gallan، يوم 20 تشرين الثاني/ نوفمبر، بشأن خُطط ما بعد الحرب، بعد أن اكتشف أن الوزارة استعانت بجهات بحثية لوضع توصيات بشأن ما بعد الحرب، وتكليف أودي ديكل Udi Dekel (عميد بالاحتياط) مستشاراً للتخطيط بملفّ "اليوم الذي سيعقب الحرب"، وهو شخص يؤمن بضرورة دمج السلطة الفلسطينية تدريجياً في قطاع غزة. سموتريتش رأى أن ما يحدث يعني استعدادات بالوزارة لاستبدال حماس بالسلطة الفلسطينية، في وقت تقوم فيه أجندة الكتلة التي يترأسها على الاستيطان في القطاع ([33]).
4- رؤساء المجالس من الليكود
حدثت قطيعة بين نتنياهو وأحد أبرز الكيانات الداعمة له انتخابياً، وهم رؤساء المجالس البلدية المنتمون لحزب الليكود، وهؤلاء يتولون مسؤولية تمهيد الأرض في كل مرة لفوزه. وفي أعقاب ما رأوا أنها إخفاقات كبيرة قبل الحرب وأثناءها، بدأت حالة القطيعة، ومن ذلك انقطاع صلته برئيس بلدية نتيفوت، يحيئيل زوهار Yehiel Zohar، أحد أقرب المقربين منه، والذي اتهمه بالتخلي عن مستوطني المدينة التي يرأسها، كذلك حاييم بيباس Haim Bibas، رئيس مدينة موديعين، الذي أبدى مواقف حادة ضد نتنياهو، وذكرت تقارير إعلامية أن 22 من رؤساء المجالس البلدية في إسرائيل وجّهوا انتقادات لنتنياهو خلال اجتماع عقده معهم في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر ([34]).
5- تراجُع شعبية نتنياهو وائتلافه
أظهرت العديد من استطلاعات الرأي لقياس شعبية نتنياهو -منها استطلاع أجرته شركة لازار للبحوث والاستشارات لصالح صحيفة "معاريف" في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023- تدنِّيَ شعبيته واتساع الفارق بينه وبين أكبر منافسيه، وزير الدفاع السابق بيني غانتس Beni Gantz ، زعيم حزب "معسكر الدولة"، ليحصل نتنياهو على 29% من أصوات المشاركين بالاستطلاع مقابل 50% حققها غانتس بشأن سؤال: مَن الأجدر برئاسة الحكومة؟ وجاءت النتائج وَفْق الشكل (1) ([35]).
الشكل 1: استطلاع حول سؤال: مَن الأجدر برئاسة الحكومة؟
المصدر: صحيفة "معاريف"
الاستطلاع أظهر تراجُع شعبية نتنياهو داخل "الليكود" ذاته، وأصبح من الواضح أن أسماء عديدة تُطرح لخلافته على رئاسة الحزب في أقرب انتخابات تمهيدية يمكن أن يشهدها حزب السلطة، وجاءت النتائج كما يوضحها الشكل (2).
استطلاع آخر لقياس مدى شعبية الأحزاب الائتلافية مجتمِعةً، مقارنةً بشعبية أحزاب المعارضة الإسرائيلية، أجرته الشركة ذاتها لصالح معاريف في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر، أظهر تدنِّي موقف الأحزاب التي تُشكِّل الائتلاف بزعامة نتنياهو، حيث منح المشاركون في الاستطلاع 41 مقعداً بالكنيست بواقع 34% لأحزاب الائتلاف، في مقابل 79 مقعداً لصالح أحزاب المعارضة بنسبة 66%، كما يوضح الشكل (3) ([36]).
الشكل 2: استطلاع حول سؤال: مَن ترشح لرئاسة الليكود بعد رحيل نتنياهو؟
المصدر السابق
الشكل 3: استطلاع حول الموقف الانتخابي المفترض للأحزاب الائتلافية والمعارضة
المصدر: "معاريف"
الخاتمة
فاقمت عملية "طوفان الأقصى" الأزمة السياسية في إسرائيل، والتي ظهرت بوادرها في مستهلّ ولاية الحكومة قبل عام، في صورة رفض شعبي لأجنداتٍ أراد شركاء الائتلاف تمريرها، لتضيف إلى تلك الأزمة أبعاداً أخرى أكثر خطورة، ربما صرفت حتى الأنظار عن الأزمة الأصلية. كما فرضت الحرب واقعاً جديداً في منظومة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، على الرغم من بقاء الدعم التقليدي الذي تقدمه واشنطن، إلا أن خلافات طفت على السطح، ولا سيما بشأن أهداف العمليات العسكرية في غزة، وأسئلة بشأن مستقبل القطاع والخطط التي حددتها إسرائيل لما بعد سقوط سلطة حماس. ويمكن رصد عدد من النقاط التالية التي ترصد الموقف:
1- باتت الأزمة السياسية الأساسية في إسرائيل بين تيارات اليمين واليمين القومي المتطرف وبين تيارات اليسار، والتي كانت تتمحور حول قضايا داخلية على رأسها ملف الإصلاحات القضائية المثير للجدل، باتت قضية هامشية في مقابل الكارثة الكبرى التي تعرضت لها إسرائيل يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لتترك الائتلاف الحاكم بزعامة نتنياهو أمام إشكالية لا تُقارَن بأية أزمة سياسية أخرى، وأصبح العنوان السائد في الشارع الإسرائيلي والأوساط الإعلامية ومراكز الفكر وغير ذلك هو حتمية إعلان نتنياهو مسؤوليته عن الإخفاق بشتى صوره، ومن ثَمّ تحمُّل مسؤولية هذا الإخفاق، وما يعنيه الأمر من تداعيات على مستقبله السياسي واستقرار حكومته، فضلاً عن انضمام قضايا أخرى أخطر إلى ملفات الفساد التي يُحاكَم فيها، والتي نجَّاه منها مؤقتاً وجوده على رأس الهرم السياسي.
2- شهد الائتلاف الإسرائيلي ذاته إجماعاً ملحوظاً -وبلا تحفُّظ- على حتمية شنّ الحرب على حماس، ومن ثَمّ تحقيق أهداف الحرب والتي تتلخص في تصفية الحركة عسكرياً وإنهاء حكمها للقطاع، حتى ولو كان الثمن آلاف الضحايا المدنيين، وحتى ولو فقدت الحكومة الإسرائيلية زخم الدعم الغربي تدريجياً في ظل تفاقُم الوضع الإنساني في غزة، وكل ذلك أدى إلى تأجيل الطرح الخلافي في إسرائيل بين مكونات هذا الائتلاف، بما في ذلك ظهور مؤشرات على قبول فكرة تجميد مشروع قانون الإصلاحات القضائية.
3- تختلف الصورة كلياً إذا جرى الحديث عن خُطوات أفرزتها الضغوط الأمريكية والإقليمية، ولا سيما تلك المتعلقة بإدخال المساعدات وشحنات الوقود إلى القطاع، حيث جلبت معها خلافات أكثر عمقاً بين نتنياهو وبين قادة تيارات "الصهيونية الدينية"، والذين يحملون تأثيراً كبيراً، سواء كوزراء أو نواب بالكنيست، ويعد بقاء نتنياهو رهينة لوجودهم بالحكومة. وعارض هذا التيار بشدة إدخال المساعدات أو الفصل بين المدنيين وبين القوات التابعة لحماس، ويرون أنه طالما أن الجيش الإسرائيلي في حرب، فإن تلك الحرب يتعين أن تحقق أهدافها بأي ثمن، وأن إدخال مساعدات نوعية، مثل الوقود، يعني إعطاء دفعة للقوات العسكرية المعادية التي تقود الحرب ضد الجيش الإسرائيلي، ما يعني تهديد حياة الجنود.
4- بلغت الأزمة السياسية الائتلافية ذروتها حين جرى الحديث عن إمكانية تمديد الهدنة، والتي أدت إلى تحرير قسم من الأسرى من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ليعلن الوزير بن غفير أنه وضع خطّاً أحمر أمام نتنياهو، بأنه سينسحب من الحكومة هو ونواب حزبه "عوتسما يهوديت"، إذا أفرزت الهدنة هدنة ثم أخرى، ومن ثَمّ أدَّت إلى نهاية العمليات العسكرية كليةً.
5- من غير المستبعَد أن تكون النقطة السابقة -أي تهديدات "الصهيونية الدينية" بإسقاط الحكومة- من بين أسباب عدم تعاطي نتنياهو، الذي يقود مجلس الحرب، مع مناشدات دول إقليمية لتمديد الهدنة مراراً وتكراراً وصولاً إلى نهاية الحرب، حيث يستطيع نتنياهو تحمل خسائر الحرب والضغوط الدولية، بَيْدَ أنه لن يتمكن من الصمود أمام سيناريو إسقاطه ومن ثَمّ محاكمته ونهاية حكمه التاريخي، الذي امتد لخمس ولايات متفرقة، ليقبع في النهاية في السجون، بِتُهَم تَفُوق قضايا الفساد التي تلاحقه.
6- يُعَدّ مخرج نتنياهو شِبه الوحيد للإفلات بشكل محتمَل من المحاكمات هو مواصلة الحرب وتحقيق الأهداف المعلنة منها، ومن ثَمّ العودة إلى الجمهور الإسرائيلي بما سيدعي أنها إنجازات، منها نجاحه في إعادة الأسرى، وتصفية حركة حماس، والحديث عن استعادة الردع، وربما السير بعدها إلى مغامرة أخرى مع حزب الله أو غيره، وكل ذلك بُغية كسب الوقت ولتحقيق هدف أبعد، وهو تجنُّب المحاكمات واستعادة سمعته، ما يعني أن فكرة وقف العمليات العسكرية والعودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر أمر بعيد المنال في الظروف العادية.
7- هنالك شِبه توافُق إسرائيلي داخلي على أن الدعم الأمريكي لإسرائيل ليس دعماً عشوائياً بلا تحفُّظات، ولا يُعَدّ شِيكاً مفتوحاً تستطيع إسرائيل أن تُدوِّن عليه ما تريد من متطلبات مالية؛ إذ يصبّ هذا الدعم في النهاية لصالح شركات السلاح، وغالبيتها أمريكية، أو "أمريكية-إسرائيلية"، وهو أمر يخدم إسرائيل أيضاً، ولكنه كما يعتقد الكثير من المراقبين في إسرائيل يعني استمرار بقاء السياسات الإسرائيلية رهينة للمواقف الأمريكية، وبعضها يتأثر بالوضع الداخلي وبالانتخابات الأمريكية وبتركيبة الناخبين الأمريكيين وميولهم وانحيازهم.
8- يتضح من خلال دروس الحرب الحالية أن واشنطن ضالعة بشدة في القرار الإسرائيلي، وقادرة على فرض سياسات على الصعيد السياسي والإستراتيجي، وهو ما يتجلى في مشاركة مسؤولين أمريكيين، ومنهم وزير الخارجية بلينكن في اجتماعات مجلس الحرب، ومطالبته بإجابات على الأسئلة التي تؤرق واشنطن، ومنها مصير القطاع بعد الحرب، وخارطة الطريق التي وضعتها إسرائيل للمرحلة التالية، دون أن تجد واشنطن إجابات كافية ومقنعة ومن ثَمّ هناك تشكُّك في إمكانية إطالة أَمَد الحرب.
9- وفق مراقبين إسرائيليين كُثُر، تسعى الإدارة الأمريكية لفرض واقع جديد يتمثل في حتمية إقامة دولة فلسطينية كحل نهائي للأزمة السياسية العالقة منذ عقود، على أن تتولى السلطة الفلسطينية شؤون قطاع غزة مجدداً، على غرار الوضع السائد قبل عام 2007. كما تريد أن تُمرِّر تلك الرؤى ضِمن مستقبل يخلو من حماس ومن نتنياهو على حدٍّ سواء، ومن ثَمّ من التيار اليميني القومي الذي يستحوذ على الائتلاف حالياً. وفي هذه الظروف سيعمل البيت الأبيض حتى حلول موعد انتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 على محاولة وضع البِنْية التحتية لهذا الحلّ، وسيحاول نتنياهو المماطلة قَدْر الإمكان بزعم تعرُّضه لضغوط داخلية، وفي حال خسر الرئيس بايدن الانتخابات وعاد الجمهوريون إلى البيت الأبيض، سيكون نتنياهو قد نجح في تجميد هذا الحل مرة أخرى.
10- طُرحت فكرة حتمية رحيل نتنياهو عن الحكم مراراً وتكراراً في غالبية الأوساط الإسرائيلية، كما ورد آنِفاً، وجرى الحديث عن إفساح المجال لاستمرار حكمه فقط حتى نهاية الحرب، وسط توجُّه لإبعاده عن المشهد سواء حقق أهداف الحرب أم لا. لكن يبقى السؤال هو كيفية إبعاد نتنياهو عن المشهد؛ إذ ما زال يحظى بدعم الائتلاف اليميني القومي، الذي يمتلك بدوره مصلحة في البقاء، وكذلك دعم الأحزاب المتشددة دينياً التي تحقق مآربها المالية على وجه التحديد من وجودها في هذا الائتلاف، ومن ثَمّ يصعب الحديث عن سحب ثقة عن الحكومة، أو عن تظاهُرات تقود إلى إسقاطه هذه المرة؛ إذ فشل هذا الحراك مراراً في تنحيته عن المشهد، ومنذ عام 2015 وليس قبل عام فقط، ما يعني أن انهيار حكومة نتنياهو أيضاً رهينة لانسحاب الأحزاب المحسوبة على الصهيونية الدينية، كما كان الوضع خلال تشكيلها، ومسألة الانسحاب تلك أمر وارد وَفْق الخط الأحمر الذي حدده وزير الأمن القومي كما ورد آنِفاً (إذا تتالت الهدن وأدت لإيقاف الحرب)، ولكنه يبقى نظرياً.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)
الهوامش:
[1] مهند توتنجي، "بنيامين نتنياهو: هل شكّل فعلاً الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل؟"، بي بي سي نيوز عربية (لندن)، 29 كانون الأول/ ديسمبر 2022، على الرابط.
[2] "إسرائيل: أكثر من 100 ضابط يعلنون التوقف عن الخدمة"، سكاي نيوز عربية (أبو ظبي) 18 تموز/ يوليو 2023، على الرابط.
[3]. صوفي رون موريا، "منذ يناير لا توجد هنا حكومة تؤدي عملها، والنتيجة حلت بنا يوم السبت الأسود"، صحيفة معاريف (بالعبرية) 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[4] بن كسبيت، "أغلبية كاسحة بين الجمهور: القيادة مسؤولة عن الإخفاق، أكثر من النصف يطالبون نتنياهو بالرحيل"، موقع واللا (بالعبرية) 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، على الرابط.
[5] موشي كوهين، "نضال عائلات المخطوفين يصعد مرحلة في الداخل والعالم"، صحيفة معاريف (بالعبرية) 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[6] رونين بيرغمان، "إسرائيل في مفترق خطير: إما صفقة لإعادة جميع المخطوفين، أو تصفية حماس/ لا يمكن تحقيق الهدفين"، صحيفة يديعوت أحرونوت (بالعبرية)، 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، على الرابط.
[7] أريئيل فيتمان، "المسؤول الكبير الذي يشرح: هذا ما حققته حماس من صفقة الأسرى، وهكذا يتعين أن تتعامل إسرائيل"، صحيفة غلوبس (بالعبرية)، 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[8] عيران تيفنبرون، "ضعيف أمام حماس، ضعيف أمام حزب الله، هكذا لا يمكن لنتنياهو البقاء"، صحيفة معاريف (بالعبرية)، 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[9] شيريت أفيتان كوهين، "سياسات الحرب في أيدي مَن كانوا جزءاً من مفهوم انفجر في وجوهنا"، سموتريتش يطالب بتغيير تشكيلة كابينت الحرب"، صحيفة يسرائيل هايوم (بالعبرية)، 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[10] يوسي يهوشواع، "خطة الخداع التي يتبعها السنوار تعمل كما خطط لها- تحليل"، صحيفة يديعوت أحرونوت (بالعبرية)، 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[11] أريئيل كاهانا، "في مجلس الحرب يدركون مدى المخاطرة: حتى الآن نحن نسير في المسار الذي حدده السنوار"، صحيفة يسرائيل هايوم (بالعبرية)، 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[12]"النواب الأميركي يوافق على مشروع قانون لتقديم مساعدات بقيمة 14.3 مليار دولار لإسرائيل"، العربية (الرياض)، 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[13] "مساعدات عسكرية بقيمة 14 مليار دولار، تلك حزمة الأسلحة الفتاكة التي تشق طريقها إلى إسرائيل"، صحيفة معاريف (بالعبرية)، 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 20213، على الرابط.
[14] أحمد سيد أحمد، "حرب غزة والانتخابات الأمريكية"، المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية: القاهرة، 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[15] أورلي أزولاي، "المطرقة بيد بايدن وهو مصمم على الطرق بها"، صحيفة يديعوت أحرونوت (بالعبرية)، 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[16] "تداعيات الحرب في غزة: قادة مسلمون أمريكيون يتخلون عن دعمهم لبايدن في انتخابات 2024"، يورونيوز (ليون، فرنسا)، 4 كانون الأول/ ديسمبر 2023، على الرابط.
[17]عميحاي شتاين، "إسرائيل تخشى وقوف الكرملين إلى جوار حماس"، صحيفة ماكور ريشون (بالعبرية)، 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، على الرابط.
[18] يوسي يهوشواع، "أمريكا تتولى قيادة الحرب وفق مصالحها بالمنطقة"، صحيفة يديعوت أحرونوت (بالعبرية)، 17 تشرين الأول/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[19] عامي روحكس دومبي، "حاملات الطائرات الأمريكية لم تأتِ بالمجان"، موقع إسرائيل ديفينس (بالعبرية)، 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[20] المصدر السابق ذاته.
[21] نيتسان سادان، "هكذا يستطيع الأسطول الأمريكي تحقيق الحسم ضد حزب الله"، صحيفة كالكاليست (بالعبرية)، 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، على الرابط.
[22] "أمريكا تحذر: من دون خطة خروج من غزة، ستواجه إسرائيل حرباً وإرهاباً يمتدّ سنوات"، صحيفة يديعوت أحرونوت (بالعبرية)، 17 تسرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[23] المصدر السابق.
[24] آفي بارئيلي، "يحظر تشكيل جيش عربي جديد في الوطن"، صحيفة إسرائيل اليوم (بالعبرية)، 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، على الرابط.
[25] "إسرائيل تبلغ أمريكا: مستعدون لنشر قوات دولية في غزة"، القناة السابعة الإسرائيلية (بالعبرية)، 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[26] أورلي أزولاي، "المطرقة بيد بايدن وهو مصمم على الطرق بها"، صحيفة يديعوت أحرونوت (بالعبرية)، 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[27] عامي روحكس دومبي، "حاملات الطائرات الأمريكية لم تأتِ بالمجان"، موقع إسرائيل ديفينس (بالعبرية)، 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، مصدر سبق ذكره.
[28] انظر:
Lazar Berman, "A week in, Netanyahu government already at odds with Biden administration", The Times of Israel, (Tel- AVIV), January 7, 2023, Link.
[29] انظر:
"Blinken speaks with Jordanian counterpart, emphasizes status quo in Jerusalem", Ynet (Tel -Aviv), January 7, 2023, Link.
[30] ران إديليست، "نتنياهو عضو اليمين المشيحاني في صراع ضد الولايات المتحدة والمؤسسة العسكرية"، صحيفة معاريف (بالعبرية)، 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[31] شيريت أفيتان كوهين، "سياسات الحرب في أيدي مَن كانوا جزءاً من مفهوم انفجر في وجوهنا، سموتريتش يطالب بتغيير تشكيلة كابينت الحرب"، صحيفة يسرائيل هايوم (بالعبرية)، 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[32] شيريت أفيتان كوهين، "غضب بن غفير في الكابينت: في البداية قدمتهم لهم الماء بعدها الغذاء ثم الوقود، وفي المرحلة التالية كرة القدم"، صحيفة يسرائيل هايوم (بالعبرية)، 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[33] يهودا شلزينغر، "سموتريتش في خطاب إلى غالانت: على نقيض المتفَق عليه في المستوى السياسي تستعدّ المؤسسة العسكرية لليوم الذي سيلي الحرب"، صحيفة يسرائيل هايوم (بالعبرية)، 19 تشرين الثاني/ نوفمبر، على الرابط.
[34] موران أزولاي، "رؤساء البلديات من الليكود يتباعدون عن نتنياهو: لن يستمر في منصبه بعد الحرب"، صحيفة يديعوت أحرونوت (بالعبرية)، 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[35] موشي كوهين، "استطلاع معاريف يكشف: الليكود يواصل التراجع، وكتلة اليمين في أزمة"، صحيفة معاريف (بالعبرية)، 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.
[36] موشي كوهين، "استطلاع معاريف: هذا هو الحزب الذي هبط للمرة الأولى تحت نسبة الحسم"، صحيفة معاريف (بالعبرية)، 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، على الرابط.