لماذا يترقَّب الاقتصاد العالمي الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة؟
2024-06-241674 مشاهدة
لم نَعُدْ بعيدين عن انتخابات الرئاسة الأمريكية، فمع نهاية العام الجاري سيتم التصويت على مرشحي الرئاسة في الولايات المتحدة، ولا شك أن النظام الانتخابي الأمريكي يُعَدّ أحد أهم النظم الانتخابية وأوضحها في العالم وأكثرها شفافيةً، وهو ما يبعث على الارتياح والطمأنينة. الشفافية والارتياح هما كلمتا السر في الحياة الاقتصادية، فالاقتصاد يقوم في جوانبه الكبرى على الثقة، الثقة بالحكومة، والثقة بالنظام، والثقة بالبنوك، وكذلك الثقة بالأطراف التي يتم البيع والشراء معها، مع ذلك، وفي ظل أزمات اقتصادية عالمية امتدت عَبْر كورونا والتضخم، والتأثر بالحروب، وأزمة الملاحة الدولية في البحر الأحمر، يبدو أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة أحد العوامل المهمة التي يترقَّبها الاقتصاد العالمي.
لكي نفهم بشكل أكثر شمولية، لا بُدّ من بعض المقدِّمات النظرية:
يسعى الفكر الاقتصادي الرأسمالي إلى تحقيق الاستقرار من خلال النظريات الاقتصادية الكلاسيكية والنيوكلاسيكية التي ترتكز على مفهوم التوازُن، حيث تناقش هذه النظريات متحوِّلات اقتصادية متضادّة الأثر ومختلفة المكوِّنات وتراقب النقاط التي تستقر فيها هذه المتحوِّلات وتتوازن. لو أخذنا نظرية العرض والطلب على سبيل المثال لوجدنا أن السعر يتحدد عن نقطة التقاء العرض مع الطلب، وبالتالي فإن توازُن السوق يقوم على هذه النقطة، ولو ذهبنا إلى قضايا أكثر عمقاً، فإن الاقتصاد الجزئي يناقش مواضيع تتعلق بتوازُن المنتج بحسب نوع السوق التي يعمل بها المصنع، فهل هي سوق منافسة تامة أم سوق احتكار القلة، وكذلك توازُن المستهلِك الذي يتحقق بحالة إشباع محددة تُعرف بالمنفعة الاقتصادية، بتوسيع النظرة، نصل إلى توازُن الدخل القومي استناداً إلى متغيرات مثل الدخل والاستهلاك والادّخار، أو من خلال عناصر الإنفاق الحكومي والاستثمار والصادرات والواردات والأجور وغيرها، وفي المالية العامة لدينا توازُن الموازَنة الحكومية والموازين التجارية، وفي النقود لدينا التوازُن النقدي في الأسواق. إذاً كل هذه التوازُنات يتم مناقشتها من قِبل الاقتصاديين في سبيل تقديم دراسة لمفردات هذا التوازُن والسعي إلى نقطة محددة تُعرَف بنقطة التوازُن.
هكذا نجد أن التوازُن هو الغاية التي تسعى النظريات الاقتصادية إلى تحقيقها، مستخدِمة مفردات النظرية بطرق مختلفة تجعل من هذا التوازُن قائماً، وذلك من خلال أدوات السياسة الاقتصادية أو النقدية أو المالية. إذاً نحن أمام هدف ومكوِّنات لهذا الهدف وأدوات لتحقيقه، في إطار نظام يتأثَّر ويُؤثِّر بالبيئة المحيطة به أو التي يعمل بها؛ فيتشابك مع ما هو سياسي من خلال الواقع السياسي في البلاد كالتوجُّهات الحزبية والديمقراطية والحرب والسلم، وكذلك مع ما هو ديموغرافي من خلال عدد السكان وخصائصهم وطبيعة سلوكهم، ومع ما هو جغرافي من خلال موقع الدول واقتصاديات النقل، ومع ما هو بيئي من خلال التلوُّث والاستدامة، وهكذا يتشابك مع مختلف القطاعات الأخرى، ويتأثر بالبيئة المحيطة.
لكن ماذا لو اختلّ التوازُن الاقتصادي؟ تعتمد الإجابة على نوع الاختلال، هل هو اختلال في ميزان العرض والطلب، أم هو اختلال في كمية النقود أم في الموازَنة العامة وغيرها، ولكن طالما أن الاختلالات في التوازُن هي قضايا فنية بحتة أو مفردات تكنوقراطية بحتة، فإن السياسات الاقتصادية التي تناقشها النظريات الاقتصادية تستطيع التعامل مع هذا الخلل عَبْر سياسات الدعم أو الضرائب أو الفائدة، وكثير من أدوات السياسة الاقتصادية الفعّالة.
الانتخابات الرئاسية الأمريكية والتفاعُل مع الاقتصاد:
يُعَدّ الاقتصاد الأمريكي هو الأكبر حجماً في العالم، فالناتج المحلي الإجمالي يفوق 26 تريليوناً، وحجم التشابُكات الدولية للاقتصاد الأمريكي ضخم فعلياً، فهو يقوم بتجارة تزيد عن 8% من تجارة العالم، كما أن سعر الفائدة في البنك الفيدرالي الأمريكي يؤثر على مجمل الديون والفوائد في العالم. تدين الولايات المتحدة الأمريكية بأكثر من 34 تريليون دولار لدول العالم، وهو ما يجعل الجميع ينظر إلى ذلك التاجر والاقتصادي الكبير الذي يستدين ويقرض ويتاجر وينتج ويُصدِر قرارات مؤثرة؛ إن الولايات المتحدة تحكم الاقتصاد العالمي فعلياً، أو على أقل تقدير فهي تُعَدّ القائد الملهِم للجميع، والذي تُعتبر قراراته بمثابة أضواء إشارة للاقتصادات الأخرى.
تؤثر البيئة السياسية على التوازُن الاقتصادي، فالحزب له توجُّهات اقتصادية وبرنامج محدد قد يختلف عن الحزب المنافس، وتقبل الجمهور للنتيجة هو أمر مهم للاقتصاديين، كما أن أسلوب الحسم الانتخابي مهم للغاية. من ناحية تقليدية بحتة تُنشّط الانتخابات الحرة التي تجري في أي بلد من عدة أسواق كالدعاية مثلاً، ولكنها تجعل كبار المستثمرين والتجار في حالة من القلق عندما تحتدم التنافسات وتصبح لغة المرشحين عدائية، أو عندما يقل مستوى الشفافية في طروحات المرشحين.
نادراً ما تتسم الحالة الانتخابية في الولايات المتحدة بعدم الوضوح أو العدائية أو العنف، ولكنها شهدت في الانتخابات الماضية عام 2020 توتُّرات مُقلِقة أثرت على الاقتصاد والسياسة والمجتمع، ورغم خروج ترامب من الرئاسة في نهاية المطاف إلا أنه لم يتقبل الهزيمة بسهولة، وقد قال إنه بدأ حركة سياسية مُقلِقة للسياسيين والاقتصاديين الأمريكيين، وها هو ترامب يعود من جديد في مواجهة بايدن الذي يمثل هو الآخر نموذجاً من القلق وعدم اليقين، فالرجل القادم من أيام الحرب العالمية الثانية تدور شكوك كثيرة حول قدرته الصحية على الاستمرار في الرئاسة، وفي حال فاز بولاية جديدة فإن عمره وصحته ستبقى موضع شك دائم للجميع.
قد تكون انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2024 الأكثر قلقاً للمتابعين لجهة خصائص المتنافسين، وحقبتها الزمنية المتموضعة في وسط أزمات عالمية مؤثرة، وهو ما يجعل المؤسسة والتاجر والبنك والمصنع متردداً في التقدم في خططه الاقتصادية لصعوبة التنبؤ من جهة، ولضبابية المشهد من جهة أخرى، هكذا يمكن أن نشير إلى مفاصل معينة لتبادل التأثير بين الانتخابات الأمريكية والظرف الاقتصادي العالمي:
1. القلق وعدم اليقين: إن الانتخابات الأمريكية الراهنة تزيد من حال عدم اليقين والقلق لدى كل من المستثمرين الأفراد والدول، وهو ما يجعل الجميعَ متحفِّظاً على ممارسة مزيد من الاستثمارات، ويحدّ من عمليات الإنفاق الواسع، وهو أمر يجعله يحصر أعماله في حدود معينة، ويضيق من هوامش المخاطر ليساهم في حالة ركود ضِمن الاقتصاد العالمي.
2. البرنامج الحزبي: في وسط منافسة محتدمة، يُتوقَّع أن تُقدّم الأحزاب الأمريكية مقترَحات جديدة لكسب الأصوات. في حالات تاريخية يتبنَّى الحزب الجمهوري برنامجاً اقتصادياً يخفض من خلاله الضرائب والنفقات الحكومية، ويقلل من التدخُّل في الأسواق، ويعطي الأهمية للتاجر والمستثمر، ولكن نظيره الديمقراطي يهتم بالإنفاق على التعليم والصحة والبطالة، ويريد أن يمول هذه العمليات من ضرائب الشركات والأفراد التي يجب أن تدفع لتنشط الأسواق. وبالتالي ستسعد الشركات والأفراد لأربع سنوات من سياسة اقتصادية عامة تتناسب مع الحزب، وعَبْرها يمكن للشركات أن تقرر زيادة الاستثمار في الولايات المتحدة أو تخفيضه، والمساهمة بمزيد من الديون أم التراجع عنها.
3. التجارة الخارجية: تُعَدّ الحمائية إحدى الأدوات التي يمكن أن تستخدمها الولايات المتحدة لكسب الناخبين، فحماية المنتج الأمريكي، ومحاربة الصين عَبْر رفع الرسوم الجمركية، أو الدخول في فرض عقوبات على بعض الاقتصادات الكبرى قد تجعل المزاج العالمي قَلِقاً حالياً، ومصاباً بالصميم مستقبلاً في شكل التجارة الدولية وحجمها.
4. تكاليف النقل والشحن: يمر الاقتصاد العالمي بواقع صعب، فالحرب في أوكرانيا، وفلسطين، وتوتُّرات الشرق الأوسط كلها مسائل مهمة للاقتصاد العالمي، فالجمهوريون غالباً ما يميلون لتوسيع انخراطهم في مثل هذه المعارك، التي يُعَدّ توسُّعها تهديداً للشحن الدولي وزيادة في كلفته، وبالتالي ارتفاعاً في أسعار السلع والخدمات العامة في مختلف دول العالم.
قد لا نبالغ إذا ما قلنا إن الانتخابات في الولايات المتحدة هي انتخابات لتحديد شكل العلاقات الاقتصادية الدولية والتجارة العالمية ومستقبلها، وأسعار الفائدة المحلية. كما ستؤثر على تحويلات المهاجرين وأسعار الطاقة والشحن وسعر الفائدة الرسمي وغيرها من المتحوِّلات الاقتصادية، ولكن كل ذلك يهون أمام حالة عدم اليقين والتخوُّف من الانتخابات الأمريكية عام 2024، التي يمكن أن تدخل في حالة صعبة تشبه ما حصل في 2020 أو أكثر صعوبة، مما يؤثر على حالة الاقتصاد العامة داخل الولايات المتحدة وخارجها، فضرب عملية الاستقرار هو أحد أكبر مخاوف الاقتصاديين والشركات والمستثمرين.