ما أبرز سيناريوهات الحرب في غزة؟
2024-01-191604 مشاهدة
Download PDF
تمهيد
يظهر الارتباك الواضح على حكومة نتنياهو ومجلس حربها في تقديرات المراقبين، فهي تُقدِّم صورة مشوشة ليست أقلَّ ضبابيةً وعشوائيةً من عمليات الجيش الإسرائيلي في غزة، فبعد 100 يوم من العمليات العسكرية المركَّزة في مدن وأحياء قطاع غزة، لم يتطور خطاب نتنياهو الحالم بالوصول إلى سَحْق حماس، وتحرير الأسرى. وهو ما يُبقي على معادلة استمرار العمليات العسكرية في غزة، وما يقابلها من استمرار معالم نكسة السابع من أكتوبر، وهو سيناريو لم يكن متوقَّعاً لدى أكثر العارفين بتفاصيل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لا يعني عدم محاكاة تقديرات المراقبين لسيناريو الحرب على غزة غيابهم عن مجريات الأحداث، وسوء تقدير الموقف، بقدر ما أن مسببات الحرب وتداعياتها الخطيرة غير معتادة في صَيْرُورة الصراع، فحينما يقول وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت، إننا بدون انتصار واضح لن نستطيع العيش في الشرق الأوسط، أو لن نستطيع العيش في إسرائيل دون تفكيك حماس، فتلك تصريحات تحمل معنًى كبيراً يدلل على مستوى التهديد الذي باتت إسرائيل تشعر به.
حرب مصيرية
إذا كان مشروع إسرائيل قد بُني على فكرة التوسُّع الاستيطاني الذي يستمدّ قوته وبقاءه من أسطورة أقوى جيش في المنطقة، فإن تصريحات قيادة اليمين الديني في إسرائيل بشأن ضرورة تهجير الشعب الفلسطيني، وإنشاء مستوطنات إسرائيلية بديلة في قطاع غزة، وما يُصاحبها من السلوك الانتقامي التدميري لجيش إسرائيل في غزة يفسر بشكل أكثر وضوحاً ما قصده غالانت؛ لأن معنى عدم القدرة على العيش في الشرق الأوسط لا يكمن في معضلة عودة نحو 70 ألف مستوطن إلى مستوطناتهم في غلاف غزة، وأكثر منهم قليلاً في مستوطنات شمال إسرائيل فحَسْبُ، فالمسألة تبدو أعقد من ذلك بكثير؛ لأن أمن إسرائيل لا يقتصر على أمنها الداخلي، بل يشمل أمنها القومي ومحيطها الإقليمي، وعلاقاتها ومصالحها الخارجية، وتلك القضايا تُشكِّل أولويات بالنسبة لصانع القرار في إسرائيل.
يظهر ذلك التخوُّف الإسرائيلي أيضاً في تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن خلال زيارته الأخيرة إلى المنطقة، حيث يؤكد بلينكن على أنه ناقش استئناف مسألة التطبيع بعد نهاية الحرب على غزة. وهنا تدرك الإدارة الأمريكية خطورة تراجُع حضور إسرائيل إقليمياً، حيث تعكس زيارات بلينكن إلى عدة دول عربية وإسلامية خشية إدارة الديمقراطي بايدن على مستقبل إسرائيل، بغضّ النظر عن الانتهاكات الكبيرة المستمرة في غزة[1].
لذلك يمكن القول: إن إسرائيل تواجه خطراً حقيقياً، يبدأ من إعادة القضية الفلسطينية إلى موقعها الحقيقي، وإرباك كافة المشاريع والعلاقات التي بنتها إسرائيل مع الأطراف الإقليمية خلال السنوات القليلة الماضية، وهذا ما يظهر جلياً في استعداد إسرائيل وجيشها إلى تحمل الكثير من الخسائر في غزة، أملاً في تفويت أي فرصة على الشعب الفلسطيني الساعي لإحياء شيء من الأمل المفقود.
الإبادة والتهجير كسياسة إسرائيلية غير مُعلَنة
تُعطي تطوُّرات المعركة في غزة الكثير من المؤشرات التي تؤكد فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها المُعلَنة، فكثافة النيران والدمار الهائل الذي طال نحو 70% من المظاهر الحضارية في غزة، لم تُعطِ إسرائيل شيئاً سوى أنها باتت متهمة بارتكاب الإبادة الجماعية بحق أكثر من 2 مليون و300 فلسطيني، حيث تم إجبار نحو 85% منهم على النزوح، وقد تجاوز عدد الضحايا المدنيين المُعلَن أكثر من 23 ألفاً، خلافاً لنحو 10 آلاف آخرين لم تستطع فِرَق الإنقاذ الوصول إليهم، وأكثر من 60 ألف جريح[2].
وهنا لم يكن أمام الجيش الإسرائيلي بعد هذا الدمار الكبير إلا التراجع، أو البحث عن بدائل تُخفِّف ذلك الضغط الداخلي، والعالمي الذي يطارد حكومة نتنياهو، وقد نجح هذا الأخير جزئياً في عقد صفقة تبادُل أسرى مدنيين مع حماس، لكن تكرار ذلك النجاح الجزئي المتحقق بات أمراً غير ممكن بسبب تمسُّك حماس بوقف كامل لإطلاق النار، وخروج الجيش الإسرائيلي بشكل كامل من قطاع غزة، وهذا ما تسبب في فشل كافة المبادرات المصرية والقطرية، خاصةً أن نتنياهو يرى في أيّ تراجُع أو تجاوُب مع مطالب حماس هزيمة له شخصياً قبل أن تكون هزيمة لإسرائيل، وسيكون عليه الاستعداد لتقديم أثمان سياسية تضاهي حجم التضحيات الفلسطينية في غزة.
المرحلة الثالثة كخيار مؤقت
من جانبها حاولت الأطراف الإقليمية إنقاذ حكومة نتنياهو من أزمته الداخلية والغرق في رمال غزة، والتخفيف من حجم الكارثة الإنسانية القائمة في قطاع غزة، غير أن تلك المحاولات والمبادرات المطروحة لم تكن ذات تأثير على مجريات الصراع، وهو ما دفع إسرائيل إلى اتخاذ إجراءات تحدّ من مستوى الخسائر اليومية في صفوف الجيش، وكذلك الخسائر الاقتصادية، وتقلل من حجم الاتهامات الموجَّهة للجيش وحكومة نتنياهو، والرهان على تعميق الكارثة الإنسانية في قطاع غزة أملاً في دفع جزء كبير من السكان إلى الهجرة.
في هذه الأثناء أعلن وزير الحرب الإسرائيلي يواف غالانت في 8 كانون الثاني/ يناير 2024 عن بَدْء المرحلة الثالثة من الحرب على غزة، وهو إعلان طال انتظاره على مستوى القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، حيث شهد مجلس الحرب الكثير من النقاشات والخلافات بين رئيس الحكومة نتنياهو وغريمه السياسي رئيس ائتلاف معسكر الدولة بيني غانتس الذي انضم لمجلس الحرب بعد "طوفان الأقصى". لقد وصل هؤلاء الشركاء الأعداء إلى حلّ مؤقت من شأنه أن يحفظ شيئاً من هيبة إسرائيل، ويخفف من حجم الضغوط السياسية على الائتلاف الحكومي[3].
نجاح نتنياهو في الحفاظ على مجلس الحرب
نجح نتنياهو مجدداً في الإبقاء على مجلس الحرب، وإطالة أَمَد ائتلافه الحكومي، وهو ما عبَّر عنه بيني غانتس في 10 كانون الثاني/ يناير 2024، مؤكداً مواصلة إسرائيل حربها، وعدم السماح لحماس بالاستمرار في بناء قدراتها العسكرية، مع التلويح بتوسيع المعركة مع حزب الله اللبناني[4].
وعليه يُعَدّ توسيع الحرب خياراً مطروحاً أمام حكومة نتنياهو، فكلما استشعرت حكومة نتنياهو خطورةً في تراجُع الغطاء الأمريكي، أو نقص في الإمدادات العسكرية، أو تململ في إدارة بايدن، تلجأ لخيار توسيع الحرب إقليمياً، وهو ما تعتبره واشنطن تهديداً لمصالحها في المنطقة، وهذا ما أكد عليه وزير الخارجية الأمريكي خلال زيارته إلى المنطقة، مشدداً على عدم توسيع الحرب وإبقائها في قطاع غزة.
لذا يستخدم نتنياهو خيار توسيع الحرب لكسب المزيد من الوقت، فكل الأنظار كانت موجَّهة إلى خطاب بيني غانتس عضو مجلس الحرب في 10 كانون الثاني/ يناير 2024، حيث راهن الكثير من المراقبين على إعلان الاستقالة من مجلس الحرب، استجابة لخطاب المعارضة، ومطالب الكثير من العسكريين السابقين الذين طالبوه بالاستقالة من أجل حلّ مجلس الحرب، وإبعاد نتنياهو عن منصب رئاسة الحكومة في محاولة لتجاوُز تلك الظروف الصعبة التي تمر بها إسرائيل.
لكن نجاح نتنياهو المؤقت وكسب المزيد من الوقت يكمن في إجبار غانتس على البقاء؛ لأن احتمالية فتح جبهة مع حزب الله يجعل غانتس أمام مسؤولية أكبر أمام مناصريه، خاصةً أنه يمتلك خبرة عسكرية طويلة مع لبنان، فقد عُيِّن سابقاً قائداً لوحدة الارتباط مع لبنان، وكان آخِر جندي ينسحب من الأراضي اللبنانية في عام 2000، وقد شارك في الحرب على لبنان في عام 2006 [5]، وحسب ما يُقال إنه يدير المواجهة على الجبهة اللبنانية من داخل مجلس الحرب، لهذا فضَّل عدم الانسحاب من المجلس.
الحراك السياسي الفلسطيني ليس بمستوى الحدث
مقابل صعود وهبوط الاختلافات الداخلية على مستوى الحكومة الإسرائيلية، لم يرتقِ الحراك الفصائلي الفلسطيني إلى مستوى الكارثة الإنسانية التي حلت بقطاع غزة، ومحاولات إسرائيل تصفية القضية الفلسطينية، حيث تستمر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والفصائل الأخرى في إطار ردّ الفعل على الضغوط الإسرائيلية والخارجية، ورغم مرور 100 يوم على حرب غزة، إلا أن العجز عن تشكيل جسم سياسي فلسطيني يبقى قائماً، وهو ما يُعطي الفرصة لكافة الأطراف الأخرى بما فيها إسرائيل للحديث عن مستقبل غزة والقضية الفلسطينية بعيداً عن رغبة الشعب الفلسطيني وتطلُّعاته[6].
ويقابل هذا العجزَ السياسيَّ أداءٌ شعبيٌّ وعسكريٌّ عالي المستوى في غزة، واستنزاف للجيش الإسرائيلي، وهو ما يُبقي الاحتمالات مفتوحة على مختلف السيناريوهات.
سيناريوهات الحرب على غزة
مع استمرار العمليات العسكرية في قطاع غزة، وعدم ظهور مؤشرات في الأُفُق تُغيِّر من ذلك الوضع المأساوي القائم، وتُوفر بعض مؤشرات توسيع الحرب إقليمياً، يمكن الحديث عن ثلاثة من السيناريوهات التي من شأنها أن تستشرف المرحلة المُقبلة.
سيناريو استمرار الحرب على غزة
يفترض هذا السيناريو استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لأسابيع أو أشهر قادمة، وهو ما تحمله بشكل متكرر تصريحات القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، خاصةً أن الفصائل الفلسطينية في غزة لا تُبدي أي تراجُع أمام ضغط الميدان، والضغوط الإقليمية التي تظهر من وقت لآخر على شكل مبادرات، كما يفترض هذا السيناريو أن الحرب سوف تستمر في قطاع غزة، بعيداً عن بعض الهجمات الإقليمية الطفيفة التي لا ترتقي لمستوى حرب إقليمية.
شروط تحقُّق السيناريو
يمثل سيناريو استمرار الحرب على غزة، سيناريو الوضع الراهن، إذ لا يحتاج إلى الكثير من الشروط؛ لأنه متحقق فعلاً، لكن استمراره على هذا النحو يحتاج إلى استمرار الأداء ذاته للفصائل في غزة، وبقاء ردود حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن عند مستوى المشاغلة، وعدم الانتقال إلى المواجهة الموسعة.
كما أن استمرار الغطاء الأمريكي السياسي والعسكري المرتبط بعدم التأثير على المصالح الأمريكية في المنطقة يُعَدّ شرطاً مهماً، وهو ما يتضح جلياً في مستوى المواقف الإقليمية، إضافةً إلى احتمالية فشل دعوة دولة جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية الساعية لإدانة إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
احتمالية السيناريو
يستحوذ سيناريو استمرار الحرب على غزة على الوزن النسبي الأكبر، مقارنةً مع تلك السيناريوهات الأخرى؛ لأن الأطراف الإقليمية تشكل عاملاً مساعداً للإدارة الأمريكية على عدم توسيع الحرب، وتسعى لاستيعاب الهجمات الإسرائيلية المتكررة.
وهنا يؤكد حزب الله على لسان أمينه العامّ حسن نصر الله في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أن حرب غزة كانت بقرار فلسطيني %100 على حدّ وصفه، معتبِراً تدخُّل حزبه المحدود من أجل التضامن مع غزة، وهو ما فهمته إسرائيل جيداً، وأدركت تماماً أن حزب الله لن يكون معنياً بتوسيع الحرب، فهذا الخطاب كان مزعجاً لحركة حماس، حيث اعتبره الكثير من أنصارها ضوءاً أخضر لإسرائيل للاستفراد بغزة.
لقد تأكد ذلك عملياً بعد اكتفاء حزب الله اللبناني بالردود الإعلامية على اغتيال الرجل الثاني في حركة حماس صالح العاروري، الذي اغتالته إسرائيل في الضاحية الجنوبية في 2 كانون الثاني/ يناير 2024، وقد كرر الجانب الإسرائيلي الاختبار، باغتيال القيادي الميداني في حزب الله وسام حسين طويل في 8 كانون الثاني/ يناير 2024، دون أن يرتقي ردّ حزب الله العسكري لمستوى هذين الحدثين.
من ناحية أخرى، فإن استمرار فشل الجيش الإسرائيلي في الوصول إلى أَسْراه لدى حماس في غزة، وقدرة هذه الأخيرة على الاستنزاف في صفوف الجيش الإسرائيلي، دون أن يستطيع نتنياهو ومجلس حربه تقديم إنجاز حقيقي أمام الحكومة الإسرائيلي، يدفع نتنياهو لإطالة أمد الحرب خشيةً على موقعة الحالي، وتجنُّباً لمثوله أمام المحاكم بتهم الفساد مستقبلاً، وهذا ما يجعله في مواجهة مزدوجة، حيث يربط نتنياهو أزماته الداخلية باستمرار حربه على غزة.
كما يرتبط هذا السيناريو بما سوف تُسفر عنه محكمة العدل الدولية من نتائج؛ لأن احتمالية فشل دعوى جنوب إفريقيا ضد دولة الاحتلال واردة، وفي حال فشل الدعوة، أو عدم قبولها، فإن القيادة السياسية في إسرائيل سوف تعتبر ذلك بمثابة ضوء أخضر لاستمرار الحرب على غزة، خاصةً أن السلوك الأمريكي والغربي عموماً أظهر استعداداً كبيراً للتضحية بالنظام الدولي، والكثير من المبادئ والأخلاقيات التي بُنيت عليها الدول الديمقراطية، حتى أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يكاد يذهب نحو التضحية بنفسه في معركة الانتخابات الأمريكية القادمة، حيث تكشف استطلاعات الرأي أن مستوى التأييد لـ "بايدن" وصل إلى أدنى مستوياته خلال آخر الـ 15 عاماً الأخيرة، وهي عوامل تشكل دافعاً لإسرائيل، وتجعل من احتمالية سيناريو استمرار الحرب في غزة الأقرب للواقع.
تداعيات السيناريو
تسعى إسرائيل من خلال استمرار الحرب على غزة لإجبار حماس على التراجع، ودفع أكبر عدد من سكان غزة إلى الهجرة، خاصةً أن أكثر من 70% من الوحدات السكنية والمؤسسات الرسمية والخاصة تعرضت للدمار الكلي أو الجزئي، وهو ما جعلها غير صالحة للعيش، فضلاً عن انهيار القطاعات الأساسية المختلفة، كـالمستشفيات والدفاع المدني والمدارس والجامعات والبني التحتية، وهو ما يجعل عودة الحياة إلى ما كانت قبل السابع من أكتوبر مستحيلة.
بالموازاة مع مساعي تهجير سكان قطاع غزة، وتأمين ما تُعرف بمستوطنات غزة، وضمان إعادة 70 ألفاً من النازحين إليها، تحاول إسرائيل الإفلات من دفع أي أثمان سياسية للشعب الفلسطيني، مراهِنة على إطالة أَمَد الحرب في غزة لتحقيق أيّ نتائج حقيقية.
من ناحية أخرى ترفض حماس كل المبادرات التي تنطلق من مبدأ الهدن المؤقتة، وتراهن على استنزاف إسرائيل عسكرياً واقتصادياً، خاصةً وأن استمرار الحرب له انعكاسات سلبية على كافة القطاعات الاقتصادية، حيث يقدر محافظ البنك المركزي الإسرائيلي خسائر إسرائيل بعد 100 يوم من الحرب بنحو 56 مليار دولار[7]. خلافاً للقطاعات الخدماتية المختلفة التي تشهد شللاً شبه كامل منذ بدء العدوان على غزة.
سيناريو توسُّع الحرب إقليمياً
ينطلق هذا السيناريو من توسيع إسرائيل لهجماتها في لبنان عَبْر اغتيال القيادي الحمساوي صالح العاروري، إضافة لأحد قيادات حزب الله، وكذلك انتقال المواجهة في البحر الأحمر من تعطيل الحوثيين للسفن التجارية القادمة إلى إسرائيل، إلى مرحلة جديدة من الهجمات الجوية والبحرية الأمريكية البريطانية على قواعد وأهداف مختلفة تتبع الحوثي في اليمن، وهو مؤشر على إمكانية تطوُّر المواجهة لحرب إقليمية.
شروط تحقُّق السيناريو
بالرغم من اعتبار الجبهة اللبنانية كـ "جبهة إسناد" لغزة كما يقول حزب الله، إلا أن تبادُل الضربات بين حزب الله وإسرائيل لم يتجاوز تلك القواعد المتفَق عليها ضمنياً بين الجانبين، كما أن حكومة نتنياهو بحاجة لقرار سياسي ليس من السهل اتخاذه في ظل الخلافات الداخلية التي تعصف بالأطراف السياسية والعسكرية الحاكمة، فضلاً عن أن هذا القرار بحاجة لدعم الجبهة الداخلية التي بدأت تتململ من الحرب في غزة، علاوة على أن هذا القرار بحاجة لغطاء سياسي وعسكري أمريكي.
احتمالية السيناريو
يتخذ نتنياهو من سيناريو توسُّع الحرب إقليميا خياراً بديلاً في سبيل استمرار الحرب، وتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية التي تواجه الحكومة الإسرائيلية وسط مساعي أمريكية وإيرانية لعدم الانجرار لتوسُّع الصراع، وهذا ما يعطي السيناريو وزناً نسبياً أقلَّ من السيناريو الأول، ويدعم ذلك سلوك حزب الله اللبناني بعد تنفيذ إسرائيل اغتيالات داخل الأراضي اللبنانية دون أي رد حقيقي على تلك الضربات الإسرائيلية، وهذا يؤكد على أن حزب الله لم يغير كثيراً من موقفه، وما زال يراهن على فشل أهداف إسرائيل في غزة.
تداعيات السيناريو
ثَمة العديد من التداعيات المهمة التي يمكن أن تترتب على هذا السيناريو، ولعل أبرزها انشغال الجيش الإسرائيلي على عدة جبهات، وهذا ما يحاول الجيش الإسرائيلي تجنُّبه خاصة مع مواجهته مقاومة شرسة في غزة بعد السابع من أكتوبر، الأمر الذي قد يسبب تشتيت التركيز على جبهات مختلفة، وهذا ما سيخفف الضغط على حماس في غزة.
يُضاف إلى ذلك، أن الحرب الإقليمية من شأنها أن تعزز من تلك المخاوف الأمريكية على مصالحها في المنطقة، وإذا كانت هجمات 7 أكتوبر قد عطلت اتفاقيات التطبيع ومشاريع نقل الغاز، فإن الحرب الإقليمية يمكن أن تهدد الممرات المائية، والمصالح الغربية في المنطقة، حينها يمكن أن تتجه إدارة بايدن إلى الضغط على الحكومة الإسرائيلية، ومن ثَمّ الذهاب نحو التسوية السياسية، وهذا ما يقود إلى السيناريو التالي.
سيناريو التسوية السياسية
اتخذت حماس في السابع من أكتوبر قرار الهجوم على مستوطنات غلاف غزة، أملاً في إجبار إسرائيل على تسوية سياسية أكدت عليها العديد من قيادات حماس، وقد حاول الخطاب السياسي الإسرائيلي استبعادها، حينما أكد نتنياهو في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2023 على رفضه وجود حكومة فلسطينية موحَّدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، مستخدِماً عبارة "غزة لن تكون حماسِسْتان ولا فَتْحستان" ولن أسمح لإسرائيل بتكرار خطأ أوسلو، وهذا ظاهرياً يتعارض مع الموقف الأمريكي الذي يتحدث عن ضرورة قيام دولة فلسطينية [8].
شروط تحقُّق السيناريو
يُلاحَظ على الخطاب السياسي والعسكري الإسرائيلي تركيزه على استمرار الحرب لأشهر، وربط العدّ العكسي للحرب بتحقُّق أهداف إسرائيل المتعلقة بالتخلص من وجود حماس والفصائل في غزة، وتحرير الأسرى أو الرهائن الإسرائيليين، كما لم تتضح الرؤية الإسرائيلية لمستقبل قطاع غزة، فـبعض التصريحات تتحدث عن تهجير السكان، وأخرى تتحدث عن نزع السلاح، مع الرهان على التهجير الطوعي لسكان غزة، وهذا الخطاب غالباً ما يكون موجَّهاً للجمهور الإسرائيلي الداخلي الداعم بشكل غير مسبوق لقرار الحرب، خاصةً أن تشكيل الرأي العامّ في إسرائيل يقوم على تعزيز خطاب مهدِّدات الكيان، حيث تصرّ وسائل الإعلام الإسرائيلية على أن الفصائل المسلحة في غزة تشكل تهديداً حقيقياً لمستقبل إسرائيل، وهذا ما يُعطي دعماً داخلياً لقرار الحرب، لكن ذلك يصطدم بعدم تحقيق الجيش الإسرائيلي لتلك الأهداف المرجوّة في غزة.
ومن جانبها، تحاول الفصائل الصمود وإدارة المعركة، وتحاول عدم إعطاء الجيش الإسرائيلي أي فرصة لتحقيق أي إنجاز عسكري على حسابها، كما ترفض بشكل قاطع تلك المحاولات الإقليمية الساعية للوصول إلى تهدئة إنسانية تخدم حكومة نتنياهو بالدرجة الأولى.
لذا فإن معادلة صمود الفصائل الفلسطينية أمام الجيش الإسرائيلي بحاجة لتغيُّرات مهمة على مستويات عدة، أبرزها انهيار الائتلاف الحكومي في إسرائيل، وبالتالي فقدان الإجماع الإسرائيلي على استمرار الحرب؛ لأن الخسائر التي تُقدَّم لا يُقابلها أيّ نتائج حقيقية، إلى جانب وصول الإدارة الأمريكية إلى نتيجة مفادها أن استمرار الحرب يمكن أن يُلحِق الضرر بالمكانة والمصالح الأمريكية، بحيث يصبح الضرر أكبر من العائد عليها، فالإدارة الأمريكية تبدأ دائماً بتوفير الغطاء السياسي لإسرائيل، ثم تتحول إلى توجيه النصائح، وصولاً إلى الضغط. وحتى هذه اللحظة ما يزال الموقف الأمريكي ضعيفاً في مستوى الضغط على إسرائيل.
احتمالية السيناريو
يبقى هذا السيناريو الأقل من حيث الوزن النسبي؛ لأن وقف الحرب والذهاب نحو التسوية السياسية تعتبره إسرائيل هزيمة لها، وهو ما ترفضه إدارة بايدن أيضاً، وتؤكد دائماً على أنها مع استمرار الحرب، لهذا تبحث إسرائيل عن الحلول الأمنية كبديل عن أي تسوية سياسية، وهذا ما يظهر على سلوك جيشها في غزة، فالمرحلة الثالثة من الحرب يُفترض أن تستمر لأشهر، ويترتب عليها إنشاء منطقة آمنة حول قطاع غزة من شأنها أن تعيد مستوطني غلاف غزة إلى بيوتهم، لكن ذلك الخيار يبقى محل شك؛ لأن إنشاء منطقة آمنة ليس خياراً عملياً ولا سهلاً، ويُبقي على أسباب الاشتباك الدائم مع الفصائل في غزة.
تداعيات السيناريو
استنفد الجيش الإسرائيلي بنك أهدافه في القسم الشمالي من قطاع غزة دون الوصول إلى النتائج المرجوَّة، وهو ما شكَّل عبئاً إضافياً على حكومة نتنياهو، فقد كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 14 كانون الثاني/ يناير 2024 عن خلاف جديد بين أطراف مجلس الحرب؛ لأن عضو المجلس غادي أيزنكوت، اعتبر استمرار العمليات العسكرية في غزة بلا فائدة، مؤكداً على أن إسرائيل بحاجة لإبرام صفقة تبادُل أسرى مع المقاومة، وهذا ما يتفق مع طرح العضو الآخر بيني غانتس، حيث تستند تلك الرؤية على الفشل في شمال غزة، والخشية من تكراره جنوب قطاع غزة، حينها سيُظهر الجيش مزيداً من الضعف، ويكون الائتلاف الحاكم في إسرائيل مضطراً للتفاوُض مع حماس، وهذا ما يفسر غياب الرؤية، وعدم قدرة حكومة نتنياهو على إعطاء مدى زمني للحرب.
وعليه فإن التسوية السياسية بكافة أشكالها غالباً ستُنهي ذلك الائتلافَ الحاكمَ في إسرائيل، وسوف تُعيد إسرائيل لأزمات تتجاوز تلك التي سبقت السابع من أكتوبر؛ لأن مستوى الشك في قُدُرات الجيش يتضاعف، كما تعود التيارات السياسية في إسرائيل إلى دوامة الصراع السياسي؛ لأن اليمين الحاكم سيكون مضطراً لعَقْد تسوية مُكلفة مع الجانب الفلسطيني، وهو ما يهدد بِنْية النظام السياسي القائم أصلاً على تحالُف اليمين.
يُضاف إلى ذلك، أن الصراع الداخلي في إسرائيل سوف يصاحبه أزمات اقتصادية غير مسبوقة، علاوة على توفُّر فرص تراجُع علاقات إسرائيل إقليمياً، حيث ينطلق تحرُّكها ودَوْرها الإقليمي أصلاً من قُدُراتها التكنولوجية "العسكرية والأمنية" التي فشلت في اختبار غزة.
إنّ وقف الحرب على هذا النحو، يمكن أن يُجبر إسرائيل على التسوية السياسية؛ لأن خروج حماس محتفظة بما تملكه من أوراق يُشكِّل عامل ضغط غير مسبوق في تاريخ الصراع، حيث تحاول إسرائيل تفادي ذلك الأمر بالعمل على فرض مخطط تهجير سكان غزة بكافة الوسائل.
خاتمة
على الرغم من بقاء مختلف الاحتمالات والسيناريوهات المفتوحة بالنسبة للحرب في غزة، إلا أن سيناريو استمرار الوضع الحالي (الحرب وَفْق الصورة الحالية) هو الأكثر احتمالًا لتضافُر عدة عوامل، أبرزها خيار الائتلاف الحاكم في إسرائيل باستمرار الحرب، وتوافُقه مع رغبة كل من إيران والولايات المتحدة في منع توسُّع الصراع، وهو ما يعني صراعاً استنزافياً طويل الأمد.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)
الهوامش:
[1] بلينكن يناقش في السعودية التطبيع مع إسرائيل ومرحلة ما بعد حرب غزة، "فرانس 24"، 8 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط.
[2] إياد جبر، أزمة النزوح في غزة.. كيف يمكن قراءتها سياسياً؟ "تي آر تي عربية"، 26 كانون الأول/ ديسمبر 2023، الرابط.
[3] غالانت: إسرائيل ستنتقل لمرحلة ثالثة "طويلة" من الحرب على غزة، "وكالة الأناضول"، 8 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط.
[4] غانتس: اتهامنا بارتكاب إبادة وجرائم حرب خط أحمر، "الجزيرة نت"، 10 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط.
[5] بيني غانتس.. ضابط إسرائيلي خاض حربين على غزة وقاد الانسحاب من لبنان، "الجزيرة نت"، 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023،الرابط.
[6] هاني المصري، السلطة وطوفان الأقصى، "سما الإخبارية"، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2023، الرابط.
[7] إسرائيل تُحصي خسائرها الاقتصادية بعد 100 يوم من حرب غزة، "الجزيرة نت"، 14 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط.
[8]JEREMY SHARON and TOI STAFF, pointing to Hamas’s ‘little state,’ Netanyahu touts his role blocking 2-state solution, THE TIME OF ISRAEL, link.