نظرة على الاقتصادين المصري والتركي، وآفاق التعاوُن والتنافُس بينهما
2024-05-081603 مشاهدة
Download PDF
مقدمة:
بين تركيا ومصر كثير من الخصائص المشتركة، فالجغرافيا متقاربة نسبياً، وكِلتاهما تمتلك قناة نقل بحري ذات أهمية دولية، كما أن النظام السياسي في البلدين كان متشابهاً بشكل كبير عند نشأته حيث سيطر العسكر على الحكم لسنوات طويلة، ويمتلك المصريون والأتراك تاريخاً ثقافياً مشتركاً على خلفية الدين والحكم أيام الدولة العثمانية، إلا أن كل ذلك لم يكن كافياً لأن يتمتع البلدان بعلاقات اقتصادية أو سياسية تتناسب مع هذه المشتركات التي انقلبت لنقاط استفاد منها الطرفان لتعزيز التنافُس في المنطقة.
تبنّت مصر القومية العربية وتسلمت زمام العروبة خاصة في السبعينيات، في حين أن تركيا اتجهت نحو قومية تركية، وأصبحت تركيا بالنسبة للعرب هي الآخر المحتل الذي حرمها من قدرات تنموية وتقدُّمية، وصار العرب بالنسبة لتركيا هم الآخر الذي ساهم في إضعاف نفوذهم في المنطقة.
بقيت العلاقات الاقتصادية في حدودها الدنيا في تاريخ الدولتين الحديث، وخضعت لتحوُّلات عند الأزمات السياسية؛ كما هو الحال بعد الربيع العربي. مع تقدُّم العملية السياسية بين الطرفين في 2021 أصبحت القضايا الاقتصادية أحد المحاور المهمة في تسوية الخلافات، خاصة أن مصر اصطفَّت مع الدول التي تقف أمام رغبة تركيا في التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط، وصار التقدُّم في الملف السياسي رهناً بإيجاد حلول لملفات اقتصادية. في هذا السياق يمكن الحديث عن علاقات آخِذة بالتحسُّن، ولكن لحدود مرتبطة بتنافُسية النماذج الاقتصادية للبلدين من جهة، والظروف السياسية في المنطقة من جهة أخرى.
يسعى هذا التقرير لتحليل النموذج الاقتصادي للبلدين، ومعرفة نقاط التعاوُن والتنافُس في سبيل الإجابة على سؤال رئيسي يتبادر لذهن المتابعين، حول آفاق الشراكة البَيْنيّة وسقفها وحدودها.
أولاً: لمحة تاريخية عن العلاقات الاقتصادية "التركية-المصرية"
منذ القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن العشرين، كانت مصر تحت حكم الدولة العثمانية، ورغم أن الحكم الفعلي في مصر كان للمماليك إلا أن السلطان العثماني كان القائد المعلَن للبلاد، وكانت الدولة العثمانية ترى أن مصر تشكل ممرّ التجارة بين الشرق والغرب، وبالفعل أدركت الدولة العثمانية أن مصر هي إضافة عظيمة لها في مجال التجارة وكذلك السياسة[1].
بعد خروج مصر من يد الدولة العثمانية؛ استطاع الفرنسيون أن يُعظّموا الفائدة من مصر عن طريق شقّ قناة السويس[2]، مما جعل من مصر دولة تجارة عالمية، وبدأت تتوتر العلاقات مع الدولة العثمانية، خاصة بعد حضور البريطانيين إلى مصر التي باتت تحتضن معارضي الدولة العثمانية مثل أعضاء "جمعية الفتاة" وغيرهم، تراجعت العلاقات الاقتصادية بشكل كبير، وأصبح عنوان العمل في مصر هو التحرر الوطني، فيما تحولت الدولة العثمانية تدريجياً إلى جمهورية تركية تحاول النهوض وتأسيس دولة معاصرة تميل للغرب، في حين لم تكن مصر في علاقات جيدة مع الغرب في ذلك التوقيت. كان الضباط يحكمون كلاً من مصر وتركيا كما هو الحال مع أتاتورك وعبد الناصر وحركة الضباط الأحرار في مصر ومثيلتها في تركيا[3]، إلا أن تنافُساً واضحاً على السيطرة على المنطقة ولعب دور أكبر يُلاحَظ بين الدولتين؛ وهو ما دفع العلاقات الاقتصادية لأن تبقى في الحدود الدنيا.
لم تكن هناك محاولات توسُّع أو استفادة من جغرافيا متقاربة ونظام إنتاج متكامل، ورغم تاريخهما المشترك في مرحلة ما؛ إلا أن مصر وتركيا ظلتا متنافرتين بشكل واضح، وهو ما انعكس على العلاقات الاقتصادية عموماً.
ثانياً: مؤشرات الاقتصاد الكلي لكل من تركيا ومصر
تُعَدّ تركيا إحدى دول الاقتصادات العشرين الكبرى في العالم (G20)، ورغم أن مصر تتمتع بقوة اقتصادية نسبية إلا أنها لم تصل إلى المستوى المطلوب لدخولها في منتدى الكبار بعد، فالناتج المحلي الإجمالي لمصر وصل إلى 410 مليارات دولار أمريكي[4]، بينما يصل نظيره التركي إلى ضعف هذا الرقم[5]. يمكن إلقاء نظرة على أبرز المؤشرات الاقتصادية للبلدين من خلال الجدول الآتي:
المصدر: من إعداد الباحث بالاستناد لبيانات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والهيئات الإحصائية للبلدين.
باستعراض المؤشرات الكلية للبلدين نجد أن تركيا تتفوق نسبياً على مصر، ولكن الفرص المصرية المستقبلية في الإنتاج والتصدير لن تكون قليلة بالتأكيد، فالجهاز الإنتاجي المصري آخِذ بالتوسع، كذلك فإن موارد مصر تصبح أكبر يوماً بعد يوم خاصة في مجال الغاز.
تواجه مصر مشكلة حقيقية في مجال الأمن الغذائي، بينما على الجانب الآخر، نجد أن تركيا تمتلك صادرات زراعية كبيرة نسبياً.
ثالثاً: العلاقات التجارية "التركية – المصرية" منذ الربيع العربي وحتى التقارُب بين الطرفين
في عام 2011 كانت العلاقات التجارية المصرية التركية تصل إلى حجم تبادُل بحدود 4 مليارات دولار أمريكي[6]، وكان ميزان التجارة يميل لصالح تركيا التي كانت تسبق مصر تنموياً لأسباب متعددة، وفي عام 2012 ارتفع حجم التجارة إلى قُرابة 5 مليار دولار، وبقيت كذلك في 2013 لتنخفض بعدها بشكل ملاحظ مع اعتراض تركيا على التحوُّلات السياسية التي حصلت في مصر، والتي وصفها الرئيس التركي بأنها انقلاب عسكري[7]، حيث كان أردوغان يدرك تماماً التشابُه التاريخي بين مسيرة الضباط في مصر وتركيا، فهو نفسه واجه لاحقاً محاولة للانقلاب عسكرياً ضده في 2016[8].
ويمكن لنا تمثيل العلاقات التجارية البَيْنيّة على الشكل الآتي:
الشكل رقم (1) العلاقات التجارية البَيْنيّة من 2010 حتى 2023
من الملاحظ أن التجارة البَينيّة ظلت ترتفع بشكل عامّ، ولكنها تعرضت لانتكاسة في 2014 و2015، ولم تَعُدْ العلاقات للتطوُّر إلا بعد عام 2020، حيث نجد أنها وصلت إلى قُرابة 7 مليارات دولار في 2021 وما بعد.
ويُلاحَظ أن العلاقات التجارية تعكس طبيعة العلاقات السياسية التي كانت تسود بين الطرفين، حيث كان التأييد للرئيس مرسي في 2012، ثم معارضة وصول الرئيس السيسي للحكم، ثم بَدْء خطوات المصالَحة بين الطرفين في 2021.
رابعاً: تركيبة التجارة البَيْنيّة بين تركيا ومصر
هيمنت تركيا على العلاقات التجارية بين الطرفين، حيث إن تركيا تمتلك جهازاً إنتاجياً متطوراً مقارنةً بمثيله المصري، ونستطيع أن نجد أن معظم الموادّ المصدرة من تركيا إلى مصر كانت سلعاً إلكترونية وحديداً وبلاستيك مصنَّعاً، إضافة لبعض الآلات والمنسوجات. في المقابل كانت المنتجات المصدَّرة إلى تركيا من مصر هي الأسمدة، والأقمشة، إضافة للزجاج.
وعند تحليل التركيب التجاري البَيْنيّ نستطيع أن نصل إلى ما يلي:
الشكل رقم (2) أبرز صادرات مصر إلى تركيا في 2013
المصدر: من إعداد الباحث بالاستناد لبيانات التجارة الخارجية، قاعدة بيانات مؤسسة الإحصاء التركية، 2024.
يُلاحظ أن صادرات مصر في 2013 كانت أبسط من ناحية التصنيع من صادراتها في 2023، حيث نجد حضوراً للبلاستيك والقطن، والسماد والأقمشة، بينما تتقدم منتجات النحاس ومصنوعاته والإكسسوارات والألياف الصناعية في 2023، ويتوقع أن تركيا ستكون أكثر اعتماداً على مصر في السلع التي تعتمد على العمل، حيث إن الأجور في مصر لا تزال أقل بكثير من الأجور في تركيا.
الشكل رقم (3) تركيبة الصادرات المصرية إلى تركيا في 2023
المصدر: من إعداد الباحث بالاستناد لبيانات التجارة الخارجية، قاعدة بيانات مؤسسة الإحصاء التركية، 2024.
ويُلاحَظ أن الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة إضافة لبعض الموادّ الصناعية دخلت بشكل أكبر في تركيبة الصادرات المصرية، كما تقدم الحديد والفولاذ بشكل واضح، وذلك على خلفية كثافة الإنتاج المصري وارتفاع الطلب التركي.
بالنسبة للصادرات التركية إلى مصر نجد أنه في عام 2013، سيطر الوقود المعدني على الصادرات لتتراجع في 2022 لصالح المركبات والدراجات التركية الصنع، ثم دخلت كذلك المنتجات الكهربائية التركية على رأس القائمة المصدَّرة لمصر.
ونستطيع أن نرى وزن السلع التركية المصدَّرة إلى مصر في 2013 من خلال الشكل الآتي:
الشكل رقم (4) تركيبة الصادرات التركية إلى مصر في 2013
المصدر: من إعداد الباحث بالاستناد لبيانات التجارة الخارجية، قاعدة بيانات مؤسسة الإحصاء التركية، 2024.
حيث نجد أن تركيا صارت تُصدِّر آلات وأدوات ومحركات إلى مصر أكثر من أي وقت سابق إضافة للمشغولات الحديدية والبلاستيكية، ورغم تشابه بعض البنود بين صادرات البلدين، إلا أنه من الملاحَظ أن المنتج المصري كان أقل قيمة مضافة مقابل المنتج التركي الذي أضيفت له عدة مراحل صناعية مما جعله أعلى من ناحية السعر.
الشكل رقم (5) تركيبة الصادرات التركية إلى مصر في 2023
المصدر: من إعداد الباحث بالاستناد لبيانات التجارة الخارجية، قاعدة بيانات مؤسسة الإحصاء التركية، 2024.
خامساً: الاستثمارات البَينِيّة
رغم وجود أسواق ضخمة في مصر وتركيا، حيث تمتلك مصر أكثر من 110 ملايين نسمة، وتمتلك تركيا أكثر من 85 مليوناً، إلا أن الثقافة قد تشكل عائقاً للتعاون والاستثمار بين البلدين. على سبيل المثال، في صناعة الألبسة، يُعتبر المنتج التركي الموجَّه للمحجبات مختلفاً عن المنتجات التي تحتاجها المرأة المصرية، بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر اللغة عاملاً إضافياً يُقلِّل فَهْم الثقافة والتواصُل بين الأطراف، حيث يجد المستثمرون الأتراك صعوبة في التحدث باللغة العربية أو الإنجليزية، والعكس صحيح بالنسبة للمستثمرين المصريين.
منذ أن بدأ التضخم في تركيا يتجه نحو مستويات مرتفعة في نهاية 2019 بدأت الشركات التركية تفكر بنقل جزء من نشاطها إلى أماكن توفر فيها كلفة العمل والنقل، وكانت شركات الألبسة هي المستفيد الأكبر من الوضع في مصر، حيث المنسوجات والقطن والعمال مقومات متوفرة بأسعار رخيصة، ونجد أن شركات تركية مثل ديكتاش وياشيم ساتيش، إلسي واكيكي، وكي سي جي تيتكسل وغيرهم كثير بنوا معامل في مصر لإنتاج الملابس، كما أن الماركة الشهيرة بيكو بنت لها مصنع في مصر لإنتاج الأجهزة الكهربائية المنزلية، ويُتوقَّع أن عدد الشركات التركية في مصر وصل إلى قُرابة 800 شركة[9]، ويمكن أن يتم توقُّع الرقم الاستثماري بأنه لا يزيد عن 3 مليارات دولار أمريكي حتى اللحظة، ولكنه -بلا شك- آخِذ في الزيادة بشكل ملاحَظ.
على الجانب الآخر نجد أن الشركات المصرية هاجرت إلى تركيا على شكل رجال أعمال وأفراد فارِّين من الصراع السياسي أو محسوبين على المعارضة المصرية، ولكنها شركات صغيرة بالمجمل، حيث غالباً ما تركزت الاستثمارات المصرية في قطاع العقارات التركي، إضافة لمحالّ تجارية ومؤسسات بيع الألبسة والمؤسسات السياحية[10].
ويمكن القول إن الاستثمارات التي يتم الحديث عنها حالياً لا ترقى لمستوى كبير، ولكنها قابلة للزيادة بشكل مستمر حتى عام 2025 على أقل تقدير، حيث يُتوقَّع أن تنقل عدد من الشركات التركية جزءاً من أعمالها إلى مصر، كما يمكن أن يتم تأسيس شركات "تركية-مصرية" في تركيا.
سادساً: ملفّ الطاقة في العلاقات الاقتصادية "المصرية – التركية"
تستورد تركيا ما يزيد عن 50 مليار دولار أمريكي من النفط والغاز سنوياً[11]، وهو مبلغ كبير يرفع من تكلفة الكهرباء والنقل والتشغيل داخل الاقتصاد التركي، في حين كانت مصر بلداً مستورداً للطاقة ما لبث أن تخلى عن استيراد الغاز ليصبح مصدراً عالمياً يحتلّ مراكز متقدمة فيه.
كان التنقيب عن الغاز في المنطقة عنواناً إضافياً لخلاف واضح بين كل من مصر وتركيا، حيث قامت تركيا بإنشاء تحالف للتنقيب عن الغاز مع ليبيا في إطار دعم سياسي وعسكري، فيما وقفت مصر مع تحالف غاز شرق المتوسط الذي يضم اليونان وقبرص المنافسيْنِ لتركيا في المنطقة، وبنفس الوقت دعمت مصر الطرف الليبي المعادي لمحور تركيا، مما جعل الأمور تتعقد.
اعترضت مصر على اتفاق ترسيم الحدود البحرية "التركية-الليبية" ووجدته أنه غير شرعي، كما قامت مصر بترسيم الحدود مع قبرص دون إشراك تركيا في المفاوضات، ولكن تركيا ردت بإصدار مصطلح الوطن الأزرق لتعبيرها عن أن البحر كما البر هو أرض تركية ستدافع عنها تركيا بكل ما لديها من إمكانات.
لقد انقسمت دول شرق المتوسط إلى ثلاث كتل رئيسية: الأولى تضمّ تركيا وقبرص التركية وليبيا، الثانية تجمع مصر واليونان وقبرص وإسرائيل، والثالثة كانت دولاً لا حول لها ولا قوة كلبنان وسورية وفلسطين، وجرى الصراع الرئيسي لعدة سنوات بين المحور الأول والثاني، وتم وضع مصر في مقدمة الصراع، حيث تم إقرار مقر منتدى غاز شرق المتوسط في العاصمة القاهرة[12].
مع مطلع عام 2023 بدأت الأمور أكثر هدوءاً في ملف الطاقة، ويبدو أن إرادة كل من مصر وتركيا كانت تميل للتهدئة بشكل أكبر من بقية الأطراف، ومع زيارة الرئيس أردوغان لمصر مطلع عام 2024 بات الحديث عن ترسيم الحدود المصرية التركية ممكناً في شرق المتوسط، ويتوقع أن يصبح ملف الطاقة على رأس أولويات البلدين ليشكل محل تعاوُن جديد في المرحلة المقبلة.
سابعاً: تنافُسية النماذج الاقتصادية لكل من مصر وتركيا
تمتلك كل من تركيا ومصر اقتصادين كبيرين وواعدين مقارنةً باقتصادات المنطقة خاصة مع وجود قدرات إنتاجية تنافسية.
في الحالة "المصرية – التركية" التنافس الاقتصادي بات واضحاً بشكل كبير، ولتحليل هذا التنافس لا بد لنا أن نحلل النماذج الاقتصادية لكل من البلدين:
1. النموذج الاقتصادي التركي
يقوم الاقتصاد التركي على ثلاثة معالم رئيسية تجعل منه نموذجاً تنافُسياً في إطار إقليمي ودولي، وهذه المعالم هي:
· المنتَج الحلال: تُصدر تركيا عدداً كبيراً من المنتجات الزراعية والغذائية المصنعة، وتمتلك تركيا وصولاً إلى معظم الأسواق العالمية، ويتميز المنتج التركي بوسم "حلال" الذي استطاع من خلاله أن ينافس المنتجات الأجنبية المحلية في كل من أوروبا وأمريكا، هذا الوسم الذي ارتبط بالمنتج التركي استطاع أن يحقق نفاذاً جيداً للأسواق العالمية، على جانب آخر تمتلك تركيا قطاع صناعات نسيجية متطوراً، وقد عملت تركيا على تصدير المنتَج الخاص بها مع نموذج (الحجاب التركي) والنموذج التركي في اللبس خاصة للمرأة المحجبة، وهذا كله أكسب النموذج التركي أدوات تنافسية جعلته يتميز دولياً[13].
· موطن لرأس المال الهارب من الحروب: استطاعت تركيا أن تستقبل الأموال الهاربة من الدول التي اندلعت فيها صراعات بعد 2011، فاستقبلت أموال السوريين والعراقيين وبعض الأموال الخليجية والمصرية وكثيراً من أموال الليبيين واللبنانيين وغيرهم، وهو ما أكسبها إنشاء شبكة علاقات كبيرة انتقلت مع هذه الأموال إلى بلادها، فأصبحت تركيا مركزاً لجذب رأس المال، وهي تجربة استفادت منها بشكل جيد في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث جذبت كثيراً من رؤوس الأموال الهاربة من الحرب.
· الترويج للموقع: تمتلك تركيا موقعاً مميزاً يمتدّ بين آسيا وأوروبا بقناة بحرية وبنى تحتية واسعة ومتطورة، واستطاعت من خلال هذا الموقع أن توصل منتجاتها إلى قلب السوق الأوروبية والشرق أوسطية بسهولة ويسر.
2. النموذج المصري
يُعَدّ النموذج الاقتصادي المصري نموذجاً في إطار التكوين، فرغم ما تمتلكه مصر من خبرات اقتصادية عميقة متمثلة بمؤسسات وأفراد، فإن النموذج المصري لم يتشكل بعد لأسباب مختلفة، ولكن معالم هذا النموذج يمكن أن يتم رسمها بالنقاط الآتية:
· الاعتماد على الموقع: تتموضع مصر في موقع إستراتيجي بين ثلاث قارات، وتستطيع السفن أن تختصر أياماً من الإبحار وكثيراً من الكلفة عَبْر المرور في قناة السويس. حيث تدرّ القناة على مصر عائدات ضخمة، إضافة لرغبة عالمية في استقرار مصر الذي يؤدي حتماً لاستقرار التجارة.
· العمالة الرخيصة: تمتلك مصر قوة عمالة تتألف من حوالَيْ 45 مليون نسمة، وهو رقم ضخم جداً يمكن أن يشغل عشرات آلاف المعامل، وبكلفة رخيصة لا تتجاوز 200 دولار أمريكي، يمكن للعامل المصري أن يعمل لمدة شهر كامل، وتُعَدّ العمالة المصرية مؤهلة مقارَنةً بغيرها، وعند النظر للجيل الشابّ فإننا نجد شباباً مثقفاً متعلماً يتحدث لغات عالمية، ويمتلك أدوات تقنية عالية، وكل هذا بسعر منخفض جداً مقارنةً بالعمالة في الدول الأخرى.
· مركز عالمي لتصدير الغاز: قبل عدة سنوات فقط كانت مصر مستورِداً للغاز الطبيعي، واليوم نحن نتحدث عن صادرات مصرية من الغاز للدول الأوروبية، حيث تنتج مصر حوالَيْ 6 مليارات قدم مكعب من الغاز يومياً[14]، ويتوقع أن هذا الإنتاج سيتطور بشكل ملاحَظ، كما أن مصر ستكون منصة لتصدير الغاز القادم من إسرائيل، وفي مرحلة لاحقة من دول أخرى، وهو ما يجعل من مصر ذات أهمية عالمية في السنوات الخمس المقبلة.
بناءً على هذا التحليل الأوليّ للنموذج الاقتصادي التركي ونظيره المصري، يمكن أن نستخلص أوجُه الشَّبَه والتنافُس عَبْر وضعها في الشكل الآتي:
- نقاط التنافُس بين النموذجين: نستطيع أن نرى أن تركيا ومصر لديهما خمسة عناصر رئيسية متماثلة، ولكنها تشكل عوامل تنافُس على مستوى المنطقة والعالم، مثل الموقع الجغرافي والقناة المائية، وكذلك القدرة على الإنتاج الزراعي، وامتلاكهما لقطاع نسيج متطور، وهو ما يعزز التنافُس بين النموذجين.
- نقاط التكامل بين النموذجين: تمتلك مصر قوة عمالة كبيرة بأسعار منخفضة، وهو ما تحتاجه اليوم تركيا أكثر من أي وقت بعد أن ارتفعت أسعار عنصر العمل بشكل كبير في السنوات الثلاث السابقة، وكذلك تمتلك مصر منتجات أولية أكثر من تركيا، حيث تستطيع تركيا أن تصنع قيمة مضافة لهذه المنتجات بشكل مبتكر وفعّال أكثر بكثير مما تجيده مصر، وهو أيضاً ما يضمن لهما التعاون في العمل المشترك، إضافة إلى أن حجم السوق الكبير في كِلا البلدين يشجع على التعاون لكسب حصص في هذه الأسواق لكِلا الطرفين.
- نقاط التنافُر بين النموذجين: يمكن للنموذجين الاقتصادييْنِ أن يتنافسا بشكل واضح في بعض القضايا ويلتقيا في قضايا أخرى، ولكن التنافر يمكن أن يحصل في قضايا محورية، مثل موضوع الأموال الهاربة من أماكن الصراع، وكذلك مسألة الطاقة في البحر المتوسط. هاتان نقطتان حساستان لدى كل من تركيا ومصر، ويتوقع أن عدم التوصُّل لاتفاق ما في إطار هذه النقاط سيشكل عامل تنافُر مستقبلي بين النموذج الاقتصادي التركي ومثيله المصري.
خاتمة
يصل الناتج المحلي الإجمالي لتركيا لأكثر من 800 مليار دولار أمريكي، في حين أن المحلي المصري يصل إلى نصف هذا المبلغ فقط، ويمتلك الاقتصادان أسواقاً ضخمةً لجهة التصريف والقدرة على الإنتاج، ولكن مصر تُعَدّ ذات إمكانيات صناعة وتصدير أقل نظراً لعدم نضج النموذج الاقتصادي المصري حتى الآن، ويبدو أن تركيا قطعت أشواطاً عديدة تتفوق فيها على مصر من جهة التصنيع والتصدير، ويُعَدّ النموذج الاقتصادي التركي أكثر نضجاً ووضوحاً، مع سهولة أكبر في فهمه.
ولأسباب تتعلق بشكل النموذج الاقتصادي لكل من البلدين، فإن نقاط التنافُس والتنافُر لا تزال أكثر من نقاط التعاوُن والالتقاء، وبالتالي فإن احتمالية التعاوُن قائمة بلا شك، ولكن من جهة أخرى ستبقى العلاقات الاقتصادية البَينِيّة في تطوُّر حَذِر بين الطرفين، وقد تأتي لحظة يقف فيها هذا التطوُّر أو يتراجع.
عند دمج العناصر السياسية مع الثقافية والاقتصادية، فإن العلاقات الاقتصادية "التركية – المصرية" ستواجه تحديات ضخمة، تحديات لا يمكن أن تعدلها زيارات بَينِيّة أو تصريحات إعلان النوايا.
إن الوضع الحالي بين مصر وتركيا يشهد تطوُّراً في العلاقات الاقتصادية قد يستمر لعدة سنوات، ولكنه يشبه التقارب بين قطبَيْ مغناطيس متماثليْنِ يتقاربان بسهولة عندما تكون المسافة بعيدة بينهما، ثم ما يلبس أن يصبح التقارُب صعباً مع احتمال أن يصل للتنافر في مرحلة ما.
يتنافس النموذجان في قضايا اقتصادات الموقع، وتكاليف الإنتاج، وتتفوق مصر في قدرتها على تخفيض الكلفة في مجالَيْ فواتير الطاقة وأجور العمال، في حين أن تركيا تمتلك كفاءة أعلى في عملية التسويق، والقدرة على إظهار جودة المنتج.
يُتوقَّع أن تكون مجالات التنافُس الرئيسية في قطاعات الزراعة والنسيج وكذلك الصلب، في حين يمكن التعاون في قضايا الإنتاج المشترك للسوق المصرية والأسواق المجاورة، ولكن المسائل التي شكلت –ويُتوقَّع أن تستمر– تصادُماً للنموذجين، هي القدرة على جذب المستثمرين الأجانب وغاز المتوسط.
مصر الاقتصادية وتركيا الاقتصادية هي نماذج فريدة، تمتلك كل منهما خصائص خاصة؛ في الوضع الراهن، الفجوة كبيرة بين الاقتصادين، ولكن في حالة التقارُب ستظهر خلافات أكثر عمقاً، قد تُصعِّب من الوصول لاتفاقيات شراكات إستراتيجية.
يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية PDF (اضغط هنا)
الهوامش:
[1] محمد إلهامي، العلاقات المصرية التركية: الجذور والثمار، المعهد المصري للدراسات، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2017، الرابط.
[2] للمزيد حول قناة السويس، راجع موقع القناة الرسمي، على الرابط.
[3] العلاقات التركية المصرية زمن عبد الناصر، ترك برس، 21 تموز/ يوليو 2015، الرابط.
[4] بيانات مصر، قاعدة بيانات البنك الدولي للإنشاء والتعمير، الرابط.
[5] بيانات تركيا، قاعدة بيانات البنك الدولي للإنشاء والتعمير، الرابط.
[6] بيانات التجارة الخارجية، مؤسسة الإحصاء التركي، الرابط.
[7] أردوغان "مرسي هو رئيس شرعي.."، فرانس 24، 14 تموز/ يوليو 2013، الرابط.
[8] انقلابات الجيش، الجزيرة نت، 19 آذار/ مارس 2023، الرابط.
[9] عمر السمدوني عدد الشركات التركية العاملة بمصر790 شركة باستثمارات تبلغ نحو2.5 مليار دولار، دنيا المال،16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط.
[10] أحمد رمضان، الجمعيات التركية في إسطنبول، الجزيرة نت، آذار/ مارس 2023، الرابط.
[11] تركيا تخطط للاكتفاء الذاتي من الطاقة، سكاي نيوز عربية، كانون الأول/ ديسمبر 2023، الرابط.
[12] للمزيد يمكن مراجعة بحث خالد التركاوي، سيناريوهات الصراع على الطاقة شرقيّ المتوسط، مركز أبعاد للدراسات، آب/ أغسطس 2021، الرابط.
[13] خالد التركاوي، وكيندة التركاوي، تحليل النموذج الاقتصادي التركي في مواجهة النماذج الاقتصادية المنافسة في الشرق الأوسط، مجلة لباب للدراسات الإستراتيجية، العدد 13، شباط/ فبراير 2022، ص 113- 140، الرابط.
[14] بيانات الشركة المصرية للغاز، نقلاً عن تقرير للعربية بيزنس، راجع الرابط.