فرص التهدئة بعد طوفان الأقصى
2024-02-06929 مشاهدة
بعد نحو أربعة أشهر على حرب غزة جاء إعلان "وثيقة باريس" الإطارية في 30 كانون الثاني/ يناير 2024 مجدداً للأمل بشأن إمكانية التوصل إلى وقف كامل لإطلاق النار، حيث بات يُنظر لمشاركة وليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى جانب نظرائه في قطر وإسرائيل ومصر، على أنها تحوُّل أمريكي من الدعم اللامحدود لإسرائيل، إلى تحرُّك ايجابي نحو التهدئة والسعي لإيقاف الحرب في غزة.
وثيقة باريس "الشيطان يكمن في التفاصيل"
سعت وثيقة باريس إلى تفادي ذلك الخلاف الرئيسي المتمثل بوقف إطلاق النار، وانسحاب الجيش الإسرائيلي بشكل كامل من قطاع غزة، حيث تضمنت ثلاث مراحل، تبدأ الأولى وهي الإنسانية، بالإفراج عن جميع المحتجزين الإسرائيليين من النساء والأطفال الذين تقل أعمارهم عن سنّ 19 عاماً، إضافة إلى المسنين والمرضى، مقابل عدد محدد من الأسرى الفلسطينيين، مع السماح بإدخال المساعدات الإنسانية والبدء في إعادة إعمار قطاع غزة، مع انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق المأهولة بالسكان، وإعادة التمركز في مناطق محددة داخل قطاع غزة، حيث تمتد هذه المرحلة لنحو 45 يوماً.
أما المرحلة الثانية فهي غير محددة بمدة زمنية، لكنها تركز على تبادُل الأسرى من كِلا الطرفين من المدنيين والعسكريين، بينما تبدأ مفاوضات التهدئة الدائمة خلال المرحلة الثالثة التي تشمل أيضاً تبادُل جثامين الموتى لدى طرفَي الحرب، مع استعداد الوسطاء إلى تقديم ضمانات خلال المرحلة الأخيرة، والتي من شأنها إلزام طرفَي الحرب بما يتم الاتفاق عليه.
لقد حازت الوثيقة على اهتمام غير مسبوق من كافة الأطراف، فمن جانبها عبَّرت الفصائل الفلسطينية عن استعدادها لدراسة بنودها، واستعدادها أيضاً للتفاوض مع الأطراف الإقليمية على التفاصيل، خصوصاً أن ما ورد في المبادرة مجرد بنود عامة تركزت على تبادُل الأسرى، وتخفيف مستوى الكارثة الإنسانية القائمة في قطاع غزة.
في الوقت ذاته ناقشت الحكومة الإسرائيلية بنود الوثيقة، وحاولت عَبْر وسائل إعلامها التأكيد على أنها لا تتضمن سوى تهدئة مؤقتة وتبادُل للأسرى، وتحسين طفيف للحالة الإنسانية في غزة. وهو ما يتناقض مع تلك الخلافات والاعتراضات التي كشفت عنها اجتماعات الحكومة الإسرائيلية خلال الساعات القليلة الماضية؛ لأن الاعتراض الإسرائيلي يقوم بالأساس على عدم وقف إطلاق النار في غزة، مع حرصها الدائم على توقيع اتفاقيات تبادُل أسرى مع المقاومة، وإذا كانت وثيقة باريس لا تشمل وقفاً صريحاً لإطلاق النار، وانسحاباً كاملاً للجيش الإسرائيلي من غزة، فلا مبرر لتلك الخلافات والاعتراضات التي ظهرت خلال اجتماعات الحكومة الإسرائيلية، خاصةً أن الوفد الإسرائيلي الذي يتواصل مع الوسطاء كان قد أبدى موافقته على بنود الوثيقة، وهو ما أكدت عليه الخارجية القطرية حينها.
ضغوط أمريكية لإزاحة نتنياهو
تواجه إدارة الديمقراطي بايدن معضلة حقيقية في التعامل مع نتنياهو وحكومته الأكثر تطرُّفاً في تاريخ إسرائيل، فالإدارة الأمريكية التي تقدم غطاءً سياسياً ودعماً لامحدوداً بالسلاح، ودفاعاً في مجلس الأمن عن كل ما تفعله إسرائيل، لا تجني سوى المزيد من تمرُّد تل أبيب التي أظهرت هشاشتها الأمنية وحاجتها الدائمة للحماية الأمريكية بعد السابع من أكتوبر، وقد وصل الأمر حدّ تكذيب نتنياهو للرئيس الأمريكي في 20 كانون الثاني/ يناير 2024، نافياً قبوله لإمكانية وجود دولة فلسطينية.
وبغضّ النظر عن مصداقية الموقف الأمريكي بشأن الدولة الفلسطينية من عدمه، لكن يبقى استمرار الحرب على غزة دون أي سقف زمني أو أهداف ونتائج واضحة معطِّلاً لمسيرة بايدن السياسية؛ لأن هذا الأخير كان يفضل توقُّف الحرب في غزة قبل الدخول في العام الانتخابي الحاسم في حياته السياسية، وقد أعطى إسرائيل المزيد من الوقت للوصول إلى أهدافها.
ولما فشلت إسرائيل مجدَّداً في خانيونس، ولم تحقق هجماتها أهدافها العسكرية، وكررت فشلها السابق في شمال قطاع غزة، بات مسار الوصول إلى هدنة مؤقتة أو دائمة خياراً مفضَّلاً للجانب الأمريكي، وهنا اندفعت واشنطن للتدخُّل بشكل أكثر جِدّية من أي وقت مضى بحثاً عن مسار سياسي هي بحاجة إليه في عام الانتخابات الأمريكية.
لقد وضعت الإدارة الأمريكية نتنياهو أمام خيارين، فإما أن يقبل التهدئة في غزة ويخسر ذلك الدعم السياسي الذي يستند عليه من قوى اليمين الديني، أو يرفض المساعي الأمريكية ويكون على استعداد لخسارة أعضاء مجلس الحرب لا سيما غانتس، فهذا الأخير يرفض تضحية نتنياهو بالأسرى من أجل حماية منصبة السياسي، حيث يتم اتهام نتنياهو بـ "تعمد قتل الأسرى" للتقليل من حِدّة الضغوط اليومية التي يتعرض إليها من أهالي الأسرى، الجدير بالذكر أن نحو 30 أسيراً إسرائيلياً كانوا قد تعرضوا للقتل بسلاح الجيش الإسرائيلي في غزة.
محاولة أمريكية لإقصاء حماس
تدرك الفصائل الفلسطينية -ولا سيما حركة حماس- أن إعلان رفضها لوثيقة باريس هو سيناريو متوقَّع بالنسبة للإدارة الأمريكية، فهذه الأخيرة تعلم تماماً حجم الكارثة الإنسانية التي حلت بقطاع غزة بعد نحو أربعة أشهر على الحرب، وهو ما يخلق -بلا شك- الكثير من الأصوات المعارضة لها، لهذا تسعى الكثير من وسائل الإعلام إلى إظهار إيجابيات العرض المقدَّم، باعتباره عرضاً مناسباً للفصائل، وذلك بغرض الضغط عليها وإحراجها أمام حاضنتها الشعبية، وهذا ما تحاول الفصائل تجاوُزه عَبْر التشاور والتنسيق.
ولا شك في أن النظر إلى ما جاء في وثيقة باريس من نقاط يؤكد الموقف الأمريكي المُعلن تجاه الفصائل الفلسطينية، حيث لا تزال الإدارة الأمريكية عازمة على إقصاء حركة حماس من حكم غزة؛ لأن قبول الأخيرة بتهدئة مؤقتة يُفقدها المزيدَ من نقاط القوة المتمثلة في الأسرى أو الرهائن الإسرائيليين، وهذا ما يقلل من قدرتها على الوصول إلى التهدئة الدائمة أو إلى وقف إطلاق النار المرهون بالانسحاب الإسرائيلي المؤجل إلى المرحلة الأخيرة، فإذا كان رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو يعرقل أي محاولة نحو وقف إطلاق النار من أجل إطالة عمره السياسي، فإن موقف حماس المُعلن يقوم على وقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي من غزة، ثم التفاوض لاحقاً على تبادُل الأسرى، وهو ما يُبقي على مصادر قوتها، ويحول دون تلك المساعي الأمريكية الإسرائيلية لإبعادها من المشهد.
لهذا تأتي زيارة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن إلى إسرائيل في 5 شباط/ فبراير 2024، محاولاً دفع الأطراف إلى وقف القتال والقبول بما جاء في وثيقة باريس، وهي زيارة تختلف عن سابقاتها، فالتحوُّل المهم في الموقف الأمريكي له عدة اعتبارات، تتعلق بتفويت أي فرص لتجدُّد القتال في غزة، وهذا ما يجعلها تربط التهدئة المنشودة بالمسار السياسي التفاوُضي الذي يضمن إبعاد حماس عن حكم غزة، إضافة إلى الاعتبارات المتعلقة بتفادي توسُّع الحرب إقليمياً، خاصةً أن إسرائيل كانت قد نقلت أربع فِرَق إلى حدودها الشمالية مع لبنان، ولا تخفي تطلُّعاتها لفتح جبهة قتال جديدة مع لبنان أملاً في ترميم قوة ردعها المتضرِّرة بفعل طوفان الأقصى، فضلاً عن الموقف الانتخابي الذي يزداد حَرَجاً بالنسبة للرئيس الأمريكي بايدن.
ختاماً لقد حازت وثيقة باريس على تفاؤُل الكثير من المراقبين، لكن تبقى المشاركة الأمريكية الفعّالة، وما سبقها من حديث بايدن مع نظيره نتنياهو عن حلّ الدولتين في 20 كانون الثاني/ يناير 2024 بمثابة الزخم السياسي الوحيد الذي أعطى للوثيقة أهميتها، فهذا التحرُّك الأمريكي أعطى -بلا شك- إشارات إيجابية بشأن وقف إطلاق النار في غزة، غير أن ما تضمنته الوثيقة الإطارية من نقاط لا يلبي مطالب حماس في غزة، وعليه فمن المرجَّح أن تكون تحفُّظات حركة حماس على بعض نقاط الوثيقة هي الاحتمال الأكثر ترجيحاً.
على الجانب الآخر، إذا كانت زيارة بلينكن إلى إسرائيل تحاول ربط إعادة فتح مسار التطبيع بالتسوية السلمية مع الشعب الفلسطيني، فإن الحسابات السياسية الإسرائيلية لا تقبل من الأساس أي مسار سلمي مع الفلسطينيين، إذ لم يستطع نتنياهو تمرير تصريحات بايدن في هذا الشأن، واضطر إلى اتهامه بالكذب خوفاً على مصالحه السياسية المرتبطة باليمين الديني، أو بعبارة أخرى، إذا كان ذلك الطرح الأمريكي يهدف لإبعاد حماس عن المشهد السياسي في غزة، فإن التسوية السياسية مع الفلسطينيين لا تلقى أي اهتمام إسرائيلي من الأساس، وهو ما يُعيق أيّ جهود نحو وقف إطلاق النار الدائم في غزة.