هل تُذكِي مساعي فرنسا لتقديم الدعم العسكري لأرمينيا نار الصراع مع أذربيجان؟
2023-12-071032 مشاهدة
أعلنت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا في تشرين الأول/ أكتوبر من يريفان عاصمة أرمينيا، أن بلادها أعطت موافقتها على إبرام عقود مستقبلية تتيح تسليم معدات عسكرية لأرمينيا لتمكينها من الدفاع عن نفسها. وقد قُوبل ذلك الإعلان بالإدانة من قِبل أذربيجان، والتي اعتبرت في الوقت نفسه أن دور الوساطة المحايدة الذي ادعته فرنسا لا أساس له. واتهم الرئيس الأذربيجاني "إلهام علييف" فرنسا من جراء ذلك الإعلان باتباعها سياسة ذات نزعة عسكرية، تسعى إلى تسليح أرمينيا، وتمهد الأرضية لإثارة حروب جديدة في المنطقة. علماً أن فرنسا تشكل إلى جانب كل من "الولايات المتحدة وروسيا" مجموعة "مينسك" التي أُنشئت بعد توقُّف القتال بين الجانبين "أذربيجان وأرمينيا" في عام 1994، بهدف البحث عن حل جذري للنزاع. نناقش في هذا المقال الدوافع التي تقف وراء تطوُّر الدعم الفرنسي لأرمينيا وشموله تقديم الدعم العسكري في مجال التسليح والتدريب، والعقبات التي تقف في وجه باريس التي تحدّ من قدرتها على التأثير على أرض الواقع، وتأثيراته المحتملة.
العلاقات الفرنسية الأرمينية: طويلة الأمد وضاربة الجذور
تتسم العلاقة بين فرنسا وأرمينيا بالقدم، حيث تعود إلى معاهدة في عام 1553 بين السلطان سليمان القانوني، وملك فرنسا هنري بن فرانسوا الأول، ومنحت الإمبراطورية العثمانية فيها الحق للفرنسيين في حماية المسيحيين الكاثوليك، ومن ضِمنهم الأرمن، وبدأ تنامي العلاقة الفرنسية مع الأرمن بعد ذلك التاريخ من خلال هجرة النخب الأرمينية إلى فرنسا، الذين أتقنوا اللغة الفرنسية، وعملوا كحلقة الوصل بين فرنسا والدولة العثمانية.
واستمر تنامي مجتمع الشتات الأرمني داخل فرنسا، وازدادت قوته كجماعة ضغط (لوبي) أرمنية في فرنسا، ليثمر عن إنشاء متصرفية جبل لبنان بعد الفتنة الطائفية في عام 1860 بموجب معاهدة بين الدول الأوروبية والدولة العثمانية، التي نصت أن يكون حاكم المتصرفية مسيحياً عثمانياً "من رعايا الدولة العثمانية"، وكان كل حُكّام المتصرفية في العهد العثماني من الأرمن، حيث كانت فرنسا تشارك في اختيارهم، وكانوا على علاقة وثيقة بها.
ولذلك تُعتبر فرنسا نفسها الراعي الثقافي والتاريخي للأرمن سواء داخل أرمينيا أم في مجتمع الشتات، وترى أن علاقتها بالأرمن تفوق العلاقة الروسية الأرمنية على الرغم من مدة حكم روسيا طويلة الأمد لأرمينيا، سواء في العهد الإمبراطوري أو في الحقبة السوفياتية.
إرهاصات تحوُّل الموقف الفرنسي
لقد سبق التحول الفرنسي نحو تسليح أرمينيا عدة إرهاصات، فكانت وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، قد دعت الرئيس الأمريكي "جو بادين" إلى "دعم أرمينيا التي تخشى أن تنتهك أذربيجان وحدة أراضيها".
كما دعت فرنسا عقب اندلاع اشتباكات بين القوات الأرمينية والأذربيجانية في إقليم ناغورني قره باغ، في أيلول/ سبتمبر من العام الجاري إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي لبحث التطورات في قره باغ. وأصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بياناً، قالت فيه: "إنه لا مسوغ للعملية العسكرية الأذربيجانية"، وإنها تعمل مع شركائها للإعداد "لردّ قويّ" على هذا "الهجوم غير المقبول".
ويحتمل أن يشمل الدعم العسكري الفرنسي اقتناء أنظمة دفاعية، والتعليم العسكري والتدريب وتبادل الخبرات. وثلاث محطات رادار من طراز GM200، وأنظمة صواريخ ميسترال المضادة للطائرات، و50 ناقلة جند مدرعة، وإيفاد ضابط من الجيش الفرنسي ليعمل كمستشار لدى وزارة دفاع أرمينيا.
أهداف الدعم الفرنسي لأرمينيا
تندفع السياسة الفرنسية تجاه أرمينيا بديناميات إيجاد موطئ قدم لها جنوب القوقاز في ظل وضع جيوبوليتيكي لا يزال قيد التشكيل، ومتأثرة بالعلاقات الاجتماعية والتاريخية المميزة بين فرنسا والأرمن عموماً.
الاستثمار في الوضع الجيوبوليتيكي
ترغب فرنسا في إيجاد موطئ قدم لها في منطقة جنوب القوقاز التي تتشكل من ثلاث دول "أذربيجان وجورجيا وأرمينيا"، وترى فرنسا في أرمينيا الدولة الأنسب لتنامي دورها في المنطقة، نظراً لحالة التحالف القوية بين أذربيجان وتركيا، والعلاقة الجيدة غير التصادمية بين أذربيجان وروسيا، بينما تُعتبر جورجيا الدولة الثانية في المنطقة دولة منقسمة، وأعلنت فيها كل من "أبخازيا وأوسيتا الجنوبية" انفصالهما عنها من جانب واحد، ولديها أزمة في إقليم أجاريا الذي يقطنه أغلبية سكانية من مسلمي جورجيا، ويتمتع فيه الأتراك بعلاقة نفوذ ثقافية وتاريخية، ولذلك لا توجد لدى فرنسا الكثير من الخيارات في المنطقة، وبناء عليه تحاول فرنسا تعزيز نفوذها من خلال توثيق علاقاتها بأمريكا، ويتعلق بهذا الاستثمار مواجهة كل من النفوذ الروسي، والنفوذ التركي المتنامي وَفْق ما سيأتي أدناه.
مناكفة الأتراك وملء الفراغ الروسي
تمتلك روسيا نفوذاً تقليدياً في المنطقة ودولها، بدأ بالتراجع نسبياً بسبب الانشغال الروسي في أوكرانيا، مما أوجد فراغاً يحاول الأتراك ملأه، فتسعى فرنسا بالتالي عبر أرمينيا إلى مواجهة وإزعاج النفوذ التركي الذي بات يشكل مصدر قلق لها سواء في منطقة القوقاز أو في إفريقيا، يُضاف إلى التوتر بينهما فيما يتعلق بغاز حوض المتوسط وانحياز فرنسا لليونان.
تقوية النفوذ الموالي للغرب في مواجهة النفوذ الروسي
تتخوف فرنسا من إمكانية حصول انقلاب في الجيش الأرميني، وتعمل على المحافظة على الحكومة الجديدة "حكومة باشينيان"، حيث يدفع "باشينيان" بأرمينيا نحو الغرب، وبات يعتقد أن التحالف مع موسكو لم يَعُدْ مفيداً ولا مجدياً لأرمينيا.
كما يُضاف إلى كل ذلك تأثير العوامل الثقافية والتاريخية والاجتماعية مع أرمينيا، خاصة في ظل وجود جالية كبيرة للأرمن في فرنسا ولها دورها في صياغة السياسة الفرنسية كجماعة ضغط.
وربما ترغب فرنسا في أن يكون لها نفوذ على أرمينيا فيما يتعلق بممر زنغرور الذي يمكن أن يربط آسيا بمناطق عديدة من العالم ومنها أوروبا، مما قد يسهم على المدى البعيد في التوجه الإستراتيجي الأوروبي في تقليل الاعتماد على الغاز الروسي.
على الرغم من ذلك، لا يتوقع أن يؤدي ذلك لتغيير الموازين العسكرية لأسباب عديدة أهمها العلاقات الإستراتيجية العسكرية بين أذربيجان وتركيا، وبينها وبين إسرائيل من جهة أخرى. كما يحتلّ الجيش الأذربيجاني المرتبة "57" بين الجيوش الأقوى على مستوى العالم، بينما يقع الجيش الأرميني في المرتبة "94"، وبالتالي ليس بمقدور فرنسا تعويض هذا النقص بالتزامن مع تأثيرات الحرب الأوكرانية على الجيوش الأوروبية بشكل عامّ، ومنها فرنسا وما كشفته من نقص في القوى البشرية وصناعة الذخائر، إضافة إلى عدم سماح روسيا لأرمينيا بالتوجه إلى الغرب بسهولة، حيث أعلن الرئيس الروسي بوتين بتاريخ 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 عن استعداد بلاده لاستكمال عمليات تسليم المعدات اللازمة لتشكيل نظام الدفاع الجوي الموحَّد لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم ست دول وهي (أرمينيا وبيلاروس وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان)، وإحراز تقدُّم كبير في هذا المجال بعد تزويد طاجيكستان، بفرقتين من منظومات الدفاع الجوي الصاروخية من طراز "إس-300"، وهو ما يُشير إلى استمرار روسيا في محاولة الحفاظ على نفوذها في المنطقة وعدم التنازُل عنه بسهولة.