لبنان بعد حسم ملف الرئاسة: المشهد الداخلي والظروف الإقليمية والدولية

لبنان بعد حسم ملف الرئاسة: المشهد الداخلي والظروف الإقليمية والدولية

2025-01-25
109 مشاهدة
Download PDF

تمهيد  

انتهت أزمة الرئاسة في لبنان بعد أكثر من عامين على بقاء المنصب شاغراً، حيث تم انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيساً للجمهورية يوم 9 كانون الثاني/ يناير 2025، ليقوم الرئيس الجديد بعد 4 أيام من انتخابه بتكليف نواف سلام لتشكيل حكومة لبنانية جديدة وترأسها، الأمر الذي غير المشهد في لبنان بشكل لم يكن متوقعاً، فهو يعني صعود حكومة إصلاحية جديدة إلى سدة الحكم، ما يفتح أمام البلاد فرصاً جديدة، تتيح لها بدعم من المجتمع الدولي والعربي إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية وتحقيق الاستقرار المنشود.  

هناك الكثير من التعقيدات تظهر تباعاً، قبل تشكيل الحكومة وبعد التشكيل، لكن يبقى الملف الأكثر أهمية هو ترتيب المشهد اللبناني الجديد بعد التبدلات الكبيرة التي حصلت على مستوى المعادلة الداخلية، لاسيما الحجم الجديد لحزب الله في لبنان، وطبيعة وحجم تدخل أو نفوذ إيران في البلاد أو على مستوى المنطقة.  

لقد خرج حزب الله وحلفاؤه خاصة حركة أمل من الاستحقاقات الداخلية بتراجع وانكسار، واضطروا للتخلي عن مرشحهم في رئاسة الجمهورية سليمان فرنجية، ثم صدموا بالانقلاب على مرشحهم لرئاسة الحكومة نجيب ميقاتي، وهذا المسار التراجعي هو استمرار لواقع إقليمي جديد يمتد من غزة إلى لبنان وسوريا، وكانت بدايته في لبنان بخسارة الحزب لأمينه العام حسن نصر الله وكل قادة الصف الأول، الأمر الذي وضعه أمام تحديات كبرى في نظرة الأطراف السياسية الداخلية والخارجية له.  

أولاً: السياقات الإقليمية والدولية  

بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لولاية رئاسية جديدة تتجه الأنظار على العلاقة بين واشنطن وطهران، خصوصاً مع توقعات عودة ترامب لتطبيق سياسة "الضغوط القصوى" مجدداً على إيران، لدفعها إلى تفاهمات وتسويات كاملة [1] .  

ولذلك كانت إيران قد استبقت تسلم ترامب فعلياً في 20 كانون الثاني/ يناير 2025 بعقد اتفاقات شراكة مع روسيا في مجالات عدة من بينها المجال الدفاعي [2] ، وذلك خلال زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى موسكو، لكن هذه الشراكة بقيَت ناقصة ولم تصل إلى مستوى التحالف، وهو ما بدا أن بوتين ممسك به تجنباً لإغضاب ترامب.  

اعتمدت إيران التفاوض المرن مع الغرب لا الصدام والمواجهة، ونفت [3] علمها بعملية طوفان الأقصى وبالتالي دورها في غزة؛ لتجنب تأثير ذلك على مسار المفاوضات على برنامجها النووي، في الوقت نفسه يتوقع أن تتبع طهران هذه السياسة المرنة في التفاوض مع الإدارة الأمريكية الجديدة، حيث الانطباع العام عن شخصية ترامب أنه رجل تسويات وصفقات لا حروب.  

لذا يُعتقد أن إيران التي تستعد لمزيد من الضغوط قد تحظى بتسوية لن تكون بعيدة قبل أن ينقل ترامب تركيزه إلى مناطق أخرى وملفات داخلية أكثر إلحاحاً، وغالباً سيكون تركيز ترامب على 3 ملفات بخصوص إيران: البرنامج النووي والصواريخ والنفوذ في الشرق الأوسط، فإذا تم حلها فإنه قد يتجه إلى التعاون الاقتصادي، لا بل إلى ما هو أكثر مع دولة غنية بمواردها الذاتية.  

لكن قبل ذلك، على إيران الخروج الهادئ وعدم العودة إلى ساحات نفوذها في لبنان وفلسطين وسوريا، والمقصود هنا عدم السعي لإعادة بناء قدراتها العسكرية، وهنا نقطة الالتباس الكبرى بين غضّ النظر عن العلاقة السياسية والدعم العسكري الذي كان قائماً، وبين أن يكون الحرس الثوري الإيراني بسلاحه وعتاده ومنظوماته موجوداً في محيط إسرائيل، ورغم أن خطوط الدعم والإمداد لإعادة بناء القدرات العسكرية التي جرى تدميرها لم تعد قائمة عبر سوريا، لكن ذلك لن يعني أن إيران ستترك المنطقة وستتخلى بشكل كامل عن تموضعها السابق ومع ما بقي من حلفائها المحليين.  

ثانياً: حزب الله في لبنان الجديد  

تستمر إسرائيل في مشروعها لتغيير الواقع اللبناني والفلسطيني وصولاً إلى واقع إقليمي جديد، لذلك فإن لبنان سيكون مطلوباً منه تثبيت الوقائع الجديدة وترتيبه في معادلة جديدة تشكل عنوان المراحل القادمة.  

تركز الأطراف الدولية والعربية على ضرورة أن يستعد لبنان الجديد لنقل حزب الله من البارجة الحربية الإيرانية ليصبح حزباً سياسياً لبنانياً، عبر ما أعلنه رئيس الجمهورية الجديد في خطاب القسم، حيث طرح الإستراتيجية الدفاعية الوطنية التي تعطي الدولة حق احتكار السلاح والحرب [4] .  

من هنا فإن حزب الله أمام تحديات سياسية كبيرة جداً، وهو لم يبدأ بعد في خطة إعادة ترميم بنيته التنظيمية بشكل كامل، لأن الظروف لا تزال قتالية طالما أن هدنة الـ 60 يوماً لا تزال سارية المفعول، وطالما أنَّ إسرائيل لم تستكمل انسحابها من لبنان إيذاناً بطَي صفحة الحرب نهائياً، ولهذا السبب لم يجرِ بعد تحديد موعد تشييع أمين عام الحزب حسن نصر الله، وبالتالي فإن فتح ورشة إعادة التنظيم متروك للمرحلة اللاحقة.  

إن الهامش الذي كانت تمنحه إيران للحزب أصبح أضيق بكثير من السابق لسببَين رئيسيين: الأول لغياب شخصية بحجم نصر الله بالنسبة لإيران ومشروعها في المنطقة، والثاني بعد انتهاء الدور القيادي الذي كان لبيروت في محور المقاومة، والذي كان يتصدره الحزب قبل أن يفقده إثر التدمير والاغتيال الذي لحق بمقاره وكوادره في بيروت بشكل خاص وفي لبنان عموماً.  

في هذا الوقت سيستمر نعيم قاسم في مهامه، وسيشرف على العلاقة الجديدة ما بين الحزب وإيران، خصوصاً أن ثقة طهران به ارتفعت بعدما رفض دعوة إيران له بمغادرة الأراضي اللبنانية والانتقال إلى إيران في ذروة الحرب خشية اغتياله، وذلك بخلاف أسماء أخرى كانت مرشحة لتولّي موقع الأمانة العامة في الحزب، وكانت قد انتقلت من لبنان إلى إيران.  

يبقى السؤال حول مستقبل العمل العسكري للحزب في ضوء نتائج الحرب والمعطيات الحالية، وهنا يغلب على الظن أن الحزب قد اقتنع ومن خلفه إيران بأن الجسم العسكري الضخم الذي كان قائماً أصبح من الصعب إعادة بنائه، فإضافة إلى الضربات القاسية التي تلقاها كادره القيادي في الصف الأول وعلى مستوى القادة الميدانيين، فإن إعادة تسليحه بالمستويات الصاروخية النوعية أصبح متعذراً وصعباً نتيجة ما حصل في سوريا، وبالتالي فإن إعادة البناء تعني أن يذهب الحزب إلى مجموعات وخلايا منتشرة وليس إلى إعادة العمل على تنظيم جيش مترابط كما كان قائماً، وأن يعمل على ذلك بسرية تامة، كما في الأيام الأولى لنشوئه.  

ثالثاً: لبنان مع عون وسلام  

مع انتخاب عون وتكليف سلام باتت قوة الدفع الداخلية والخارجية التي أنتجت الانتخاب هي نفسها التي ستنتج الحكومة، والتي يُراد فيها التركيز على الإصلاح وإعادة الإعمار وإجراء الانتخابات النيابية في 2026 بالتفاهم بين القوى المختلفة، وذلك يدل على رغبة دولية في تغيير الواقع السياسي، تمهيداً لتغيير جوهري في طبيعة الطبقة السياسية بشكل كامل لكن على مراحل.  

لذا فإن ما يركز عليه عون وسلام هو الانطلاق من الدستور واتفاق الطائف والتمسك بما تضمنه خطاب القسم من الاستناد إلى الدعم الخارجي، وتحديداً من دول اللجنة الخماسية، الولايات المتحدة والسعودية وقطر ومصر وفرنسا، إضافة إلى التأييد الشعبي الداخلي، وهو ما سيفضي إلى تغيير المشهد السياسي والاجتماعي، إذا ما حصلت فعلاً التغيرات والإصلاحات المطلوبة.  

الجديد في كل التطورات هو الدعم الأميركي المباشر لكل ما يجري على الساحة اللبنانية، وهذا الدعم سيكون في أحد أشكاله مشابهاً لما كان عليه الدعم الإيراني للحزب وحلفائه في دول المنطقة، لكن الفارق أن الدعم الأميركي سيتوجه إلى الدولة والمؤسسات، وكما كان الحزب يحكم بقوة عسكرية وبتوازنات إقليمية بين إيران والغرب، يبرز اليوم مسار الدعم الأميركي ليكون عنصراً مقرراً في كل آليات الحكم.  

تهتم واشنطن بمؤسستين أساسيتين في لبنان هما الجيش والمصرف المركزي، وأي شخصية سيتم تعيينها على رأسهما لا بد أن تنال الموافقة الأميركية والدعم العربي والخليجي، لذا فإن الرئيسين يحرصان على حكومة تقوم بإجراء تعيينات في المواقع الرئيسية الأولى في البلاد دون العودة إلى الأطراف السياسية، وتحديداً الحزب والقوى الحليفة له، ويكمن هذا المسار بمنع حصول أي طرف على "الثلث المعطل" في الحكومة.  

كل ذلك يعطي انطباعات عن مرحلة جديدة في إدارة الدولة ومؤسساتها، وهو ما يظهر في حرص رئيس الجمهورية على الحصول على وزارتين أساسيتين وهما الدفاع والداخلية، فيما يحرص رئيس الحكومة على وزارتي العدل والطاقة، وهو ما يعني انتهاء مرحلة تنافس الأحزاب السياسية للحصول على الأجهزة الأمنية والعسكرية والمجالس القضائية، إضافة لملف الكهرباء الذي استنزف الخزينة المالية في الدولة.  

الخلاصة  

من الوقائع السياسية المتلاحقة والمتسارعة على المستوى الداخلي في لبنان وعلى المستوى الخارجي الإقليمي والدولي، يبدو أن لبنان ذاهب إلى ترتيب جديد يمنحه فرصة كبيرة على المستوى العلاقات والدعم من الفاعلين الخارجيين، ويبدو أن رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام سيقودان دفة الحكم بقوة الدعم الإقليمي والدولي، عبر مظلة تراعاها واشنطن وتضم الرياض والدوحة، وستكون هذه المظلة وبشكل عام المشهد الجديد محل قبول من طهران.  

وبالتوازي مع تركيز رئيس الجمهورية على ترميم العلاقات الخارجية مع دول الخليج ومعالجة التحديات الأمنية والعسكرية وإعادة ترتيب العلاقة مع سوريا بعد انتقال الحكم فيها، فإن رئيس الحكومة وفريقه التقني سيركزون على الإصلاحات القضائية والإدارية والملفات المالية المتعثرة وإعادة هيكلة المصارف.  

هذا المسار يشبه في ظروفه ما حصل من جهود إعادة بناء لبنان على كافة المستويات بعد الحرب الأهلية التي انتهت في العقد الأخير من القرن الماضي، لكنها أفشلت مع وصول بشار الأسد إلى الحكم في سوريا وكان النظام السوري ممسكاً بالملفات الأمنية والعسكرية ويحدد بها مسارات السياسة الخارجية، غير أن الظروف اليوم مختلفة على مستوى لبنان وسوريا وعلى مستوى المنطقة.  

لبنان اليوم على طريق تغيير حقيقي لا يوقفه إلا حصول حرب إسرائيلية غير متوقعة، ودون ذلك فإن مسار الإصلاح الداخلي والخارجي لديه فرص لم يحصل عليها لبنان سابقاً، أهمها الدعم المباشر لمسار التغيير اليوم من واشنطن وليس بالوكالة التي منحت سابقاً للنظام السوري بعد الطائف، والتي انتهت بعهد من الاغتيالات والانهيارات.  

 

 


 

[1] ترامب يبدأ الخروج عن المألوف وتوقعات بالعودة لنهجه السابق مع الحلفاء والخصوم ، موقع الجزيرة نت، 19/01/2025.      الرابط  

[2] بوتين وبزشكيان يوقعان اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة بين روسيا وإيران،  روسيا اليوم، 17/01/2025 .      الرابط  

[3] إيران تنفي علمها مسبقا بعملية "طوفان الأقصى"،  وكالة الأناضول، 13/10/2024.      الرابط  

[4] رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون تسلّم صلاحياته الدستورية في قصر بعبدا ، موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية، 19/01/2025.      الرابط